عند وداعه كانت الصور الأكثر حضورا ربما للكثيرين منا هى الجلسات التى جمعتنا به فى مدن مختلفة من المنامة إلى لندن إلى بيروت وحتى فى دمشق التى لم أجتمع أنا وهو فيها يوما إلا أننى كنت أرسل له صور الشارع الذى يحمل اسم والده كلما مررت من هناك «شارع نجيب الريس منطقة المهاجرين حى أبو رمانة».. وكأنى أقول أنت هنا يا رياض أيضا فى دمشق.. كما أنت باقٍ هنا وهناك وعند الكثيرين والكثيرات.
***
نتواصل نحن الأصدقاء والصديقات وكثير منا تتلمذ بمدرسة رياض الريس للصحافة وفن الكتابة وصياغة العنوان الأنيق والمشوق وإخراج الكتب واختيار الورق.. رياض الوراق يقف عند كل تفصيلة، يدقق بكل معلومة ويعشق كل شىء أنيق وراقٍ لذلك بقيت كتب دار الريس الأكثر حضورا فى معارض الكتب.. مضمونا وشكلا.. كيف لا وهو الذى يدقق فى التفاصيل فعند زيارته يدقق فى شكلنا، لبسنا، تسريحة شعرنا وعدم إهمالنا بحجة الانشغالات الحياتية.. رجل يعشق الحياة والفرح والجمال هو رياض نجيب الريس.
***
كانت ثمانينيات البحرين تعرف رياض كثيرا، فهو القادم فى حضور لا يشبهه أحد فيه وهو الذى كان الجميع ينتظر أن يمنحنهم بعضا من وقته أو أن يجالسهم.. كان لقائى الأول معه حيث أجريت مقابلة مطولة عن مسيرته الصحفية وكيف غطى الكثير من الأحداث والحروب الساخنة وكان العربى الوحيد.. بعدها وصلتنى منه رسالة قصيرة فيها كثير من الإطراء لكيفية صياغة المقابلة.. طرت فرحا أنا الصحفية المبتدئة التى منحت شرف عمل لقاء مع رياض نجيب الريس.. أدركت بعدها أنه لم يكن إلا ليشجع أى صحفى أو كاتب أو شاعر يعرفه أو يتعرف عليه.. هو الذى كانت الجلسات معه حلقات من التعمق فى فن الكتابة وصياغة الخبر والجرى وراء الحدث مهما كان بعيدا وصعبا.
***
لم تنقطع اللقاءات وسحر رياض يبقى عالقا بغرف المعيشة وغرف الطعام التى جمعتنا وكثيرة هى.. فى حضوره يسود الإصغاء لحضور شخصية مبهرة تحمل مخزونا من الأحداث فى ذاكرتها، وتاريخ حافل ولقاءات ومعرفة واسعة لا شبيه لها.. والأهم أن كل ذاك يأتى ضمن أحاديث تمر بالنكتة لحظة والفكاهة والسخرية والمرح.. هو عاشق الفرح رغم صعوبة الأيام الأخيرة فى حياته.
***
هو المحرض على فعل الحب دوما فيبدأ أسئلته للفتيات عن طموحهن وحياتهن ولا يفوته أن يتساءل عن أحوال القلب، العشق كما يقول الذى هو ملح الحياة وشهدها.. ولا معنى لحياة دونه.. تأتى أسئلته مبطنة أحيانا وصريحة كثيرا عن الوله، عن رفقة القلوب والدعوة لأن نغطس فى أعماق قلوبنا دون كثرة الأسئلة النمطية أو التفكير الذى يتعب أكثر مما يغزل الفرح فى الأزمنة الصعبة.. انعكس كل ذلك فى كثير من الكتب التى نشرها والتى خافت أو رفضت دور نشر عدة منها ربما خوفا من الرقيب الخارجى أو حتى الرقيب الذى أسكنوه بدواخلنا.. أما رياض الإنسان والوراق فهو كاره للرقابة بكل أصنافها ورافض لها ومناضل ضدها ربما دفع ثمن ذلك كثيرا ولكن ألا تستحق الحرية أن نضحى من أجلها؟
***
تتداعى الذكريات بيننا ونحن نرثيه من بعيد فقد منعتنا الكورونا اللعينة من أن نقوم بطقس وداع خاص لرياض نجيب الريس.. ولكن أحاديث رياض وقصصه الكثيرة وذكريات جلساتنا وصورنا هى الأكثر حضورا فى كل مكالمة بيننا.. مساحة بسيطة تفصل دموع الحزن على وداعه والضحك لكلمة أو تعليق أو حتى نقد لاذع من رياض لنا.. فى حضوره لا مكان للحزن بل كثيرا من الفرح ذاك هو إرث رياض مع كم من الكتب، المطبوعات، الذكريات، الصور والحضن الدافئ فى الحضور والغياب.. وسؤاله الأول عند اللقاء «كيف البحرين» ثم يعرج للسؤال عن من عرفهم وأحبهم فردا فردا.
***
كلنا سنبقى مدينين له، كلنا سنبقيه بداخلنا وعند كل تفصيلة فى حياتنا سنردد كم كان يحب هذا أو ذاك مكانا كان، أو كلمة أو شخص أو أكلة أو ذكرى أو جلسة يتحلق حوله كل أصدقائه وأحبته فهنا تكمن فرحته.. يستمع ويسأل ويناكف ويعارض ويصغى.. رياض يتقن الإصغاء حتى لنا من كنا نرى أنفسنا صغارا جدا أمامه.
(*) نقلاً عن “الشروق”