في نقاش احتمال وقوع الحرب المفترضة من عدمها، قد يكون من المناسب أولاً، إعادة استحضار خلاصات الحملات الإنتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة منذ عام 2008، وحتى عام 2016، أي تلك المرتبطة بالمرشح ثم الرئيس باراك أوباما، وبالمرشح ثم الرئيس دونالد ترامب، ففي الحملتين الإنتخابيتين لأوباما الأول وأوباما الثاني، وفي الحملة الإنتخابية لترامب الأول والأخير، شكّلت خطابات وشعارات إخراج القوات الأميركية من العراق وأفغانستان أو إعادة تموضعها وانتشارها، ولاحقا من سوريا، ركيزة الدعاية السياسية والإعلامية الخارجية للطامحين بالوصول إلى البيت الأبيض.
معنى القول، إن ثمة متغيرا استراتيجيا في السياسات الأميركية حيال الشرق الأوسط، ومضمون هذا المتغير مثلما أوجزته مواقف عدة ومتعددة للرئيسين أوباما وترامب على مدى اثنتي عشرة سنة، يقوم على خفض الأعباء والإلتزامات الأميركية في المنطقة، والحؤول دون مزيد من الإنخراط في أتون صراعاتها، وربما أكثر ما ظهر ذلك عبر هذه المحطات والمفاصل الآتية:
ـ الإتفاق الأميركي الروسي الكيميائي في 14 أيلول/سبتمبر2013، وقاعدته: نزع روسيا سلاح سوريا الكيميائي مقابل وقف الهجوم الأميركي على سوريا.
ـ تأكيد ترامب أنه غير نادم على عدم اغتيال الرئيس بشار الأسد، بعدما أخذه التفكير في لحظة ما إلى احتمال اغتياله وفقا لما قاله في حوار مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية في 15 أيلول/سبتمبر 2020.
ـ إعلان ترامب (22 حزيران/يونيو 2019) أنه أوقف تنفيذ ضربة عسكرية لإيران بعدما أسقطت الأخيرة طائرة استطلاع أميركية مسيرة في منطقة الخليج في 20 حزيران/يونيو 2019. تلك الضربة بحسب رأيه، “كانت ستخلف خسائر غير متناسبة في الأرواح تقدر بنحو 150 شخصاً”.
ـ إثر اغتيال الجنرال قاسم سليماني في 3 كانون الثاني/يناير2020، أسرع ترامب إلى تبني عملية الإغتيال ونفى في الوقت ذاته إعلان الحرب على إيران، وحين رد الإيرانيون بقصف قاعدتي “عين الأسد” وأربيل في الثامن من الشهر نفسه، قال ترامب إن إدارته لن تلجأ إلى مزيد من الأعمال العسكرية، ودعا القادة الإيرانيين إلى التفاوض مع الأميركيين بهدف إبرام صفقة جديدة حول البرنامج النووي الإيراني.
ثمة متغير استراتيجي في السياسات الأميركية حيال الشرق الأوسط، مضمونه مثلما أوجزته مواقف عدة ومتعددة للرئيسين أوباما وترامب على مدى اثنتي عشرة سنة، يقوم على خفض الأعباء والإلتزامات الأميركية في المنطقة، والحؤول دون مزيد من الإنخراط في أتون صراعاته
هل يفكر ترامب بالحرب قبيل وداعه البيت الأبيض؟
هذا السؤال يفرض العودة إلى قراءة عقل ترامب السياسي، وتقليب أوراق مواقفه وتغريداته خلال السنوات الأربع الماضية، وفي ذاكرة هذه السنوات ما يرشد إلى سوية التحليلات وسلامة التوقعات، وفي قائمة تلك المواقف الآتي:
أولاً، حروب الشرق الأوسط:
ـ في 20 كانون الأول/ديسمبر 2018، قال ترامب “إن الولايات المتحدة لا تريد أن تكون شرطي الشرق الأوسط، هل نريد أن نبقى هناك إلى الأبد؟ حان الوقت أخيرا لكي يقاتل الآخرون”.
ـ في 9 تشرين الأول/اكتوبر 2019، قال ترامب إن الولايات المتحدة أنفقت 8 تريليون دولار في حروبها الشرق أوسطية، بهدف القيام بدور الشرطي العالمي، فكانت النتيجة مقتل وجرح الآلاف من الجنود الأميركيين فيما ملايين الناس قُتلوا من الأطراف الأخرى، ولقد “حان الوقت للإنسحاب من هذه الحروب السخيفة”.
ـ في 10 تشرين الثاني/نوفمبر2019 أطلق ترامب سلسلة تغريدات قال فيها:”لم تكن الولايات المتحدة مضطرة للذهاب إلى الشرق الأوسط، وقرار الذهاب إلى هناك كان أسوأ قرار على الإطلاق، فالحروب في تلك المنطقة مستمرة منذ مئات السنين، وهي حروب غبية لا نهاية لها، وقرار الحرب على العراق جاء بعد معلومات خاطئة عن أسلحة الدمار الشامل “.
ـ في 13 تشرين الثاني/نوفمبر2019 قال ترامب:”أولئك الذين جرونا بشكل خاطئ إلى حروب الشرق الأوسط لا زالوا يضغطون علينا للقتال، ومن الحكمة عدم التدخل في القتال بين الأكراد والأتراك، دعوهم! إننا نراقب الوضع عن كثب، حروب لا تنتهي”.
ـ في 5 شباط/فبراير 2020، قال ترامب في خطابه عن “حال الاتحاد” أمام الكونغرس الأميركي إنه من أجل الحفاظ على حياة الأميركيين “نعمل على إنهاء حروبنا في الشرق الأوسط”.
ـ بعدما أقال ترامب مستشاره للأمن القومي جون بولتون في أيلول/سبتمبر 2019، أصدر بولتون كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث” فعلق ترامب (29 ـ 1ـ 2020) على الكتاب قائلا: “بولتون كان يريد الإنتقال من حرب الى حرب ولو أصغيت إليه لدخلنا في أربع حروب، وكنا الآن في الحرب العالمية السادسة”.
ثانياً، سوريا:
منذ حملته الإنتخابية في عام 2016، كانت لترامب، قراءته الخاصة للأزمة السورية، فهو غير “معجب” بالرئيس بشار الأسد على ما قال غير مرة، إلا أن إسقاط الأنظمة ليس “مهمة” الولايات المتحدة، وبدائل الأنظمة القائمة هي الفوضى، مثلما اكد مراراً، وإذا تم التغاضي عن قصف مطار الشعيرات في نيسان/ابريل 2017، وقصف مطاري دمشق والضمير ومركز البحوث العلمية في نيسان/ابريل 2018، وهما اعتداءان لا يرتقيان إلى حالة الحرب او ما يماثلها، فإن مواقف ترامب من الأزمة السورية، يمكن إجمالها بالآتي:
ـ في حوار (27ـ 3ـ 2016) أجرته معه صحيفة “نيويورك تايمز”، قال المرشح الرئاسي ترامب: “إن التحدي الكبير في سوريا هو تنظيم داعش، وليس الأسد”، وفي تشرين الأول/اكتوبر 2016، قال المرشح ترامب لصحيفة “الغارديان” البريطانية إن التدخل في الأزمة السورية له عواقب ضارة، “ولو سلكنا طريق هيلاري كلينتون فسينتهي بنا الأمر إلى حرب عالمية ثالثة، فالحرب في سوريا تعني حربا مع روسيا وإيران “.
ـ بتاريخ 31 آذار/مارس 2017، نقل مسؤولون في البيت الأبيض عن الرئيس ترامب قوله إن رحيل الأسد عن السلطة “ليس من أولويات الإدارة الأميركية، وهي ستعمل على حل سياسي طويل الأمد للأزمة السورية “.
ـ في معرض دفاعه عن قرار الإنسحاب من سوريا (20 ـ12ـ 2018) تساءل ترامب:”هل تريد الولايات المتحدة أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟.
ـ أعلن ترامب (23 ـ12ـ 2018)، إنه تحدث مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، بشأن سوريا، و”ناقشنا قضية داعش وانسحاب القوات الأميركية البطيء والمنسق من المنطقة”.
ـ كرّر ترامب (2 ـ1ـ 2019) عزمه على سحب قواته من سوريا التي وصفها بأنها عبارة عن “رمل وموت”.
ـ كشف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو (14 ـ 8 ـ 2020)، أن الرئيس ترامب أرسل إلى نظيره الرئيس الأسد رسالة يقترح فيها فتح حوار مباشر حول الصحافي الأميركي المفقود أوستن تايس(لاحقاً بعث البيت الأبيض رسالة بالمعنى ذاته عبر المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم).
ثالثاً، إيران:
منذ تاريخ ثورة إيران في العام 1979، تقيم العلاقات الإيرانية ـ الأميركية على أحزمة من التوتر والإضطراب، وإذ شهدت العقود الأربعة الماضية انفجار العديد من الصواعق الكامنة والنائمة، إلا أن أيا منها لم ينذرانفجاره بإحتمال ذهاب الطرفين إلى مواجهة مفتوحة.
الحديث عن حرب أميركية محتملة في الشرق الأوسط، يخرج عن السياق العام لمواقف ترامب
وتؤشر أزمة الرهائن الأميركيين في إيران بين عامي 1979 ـ 1980، و”حرب ناقلات النفط” في منتصف ثمانينيات القرن العشرين وإسقاط الأميركيين طائرة مدنية إيرانية عام 1988 (290 قتيلا)، و”حرب الطائرات المسيرة” عام 2019، واغتيال الجنرال سليماني في مطلع السنة الجارية وما أعقبه من قصف إيراني لقاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق، إلى أن تداعيات انفجار الصواعق قابلة للإحتواء مثلما أظهرت مراحل ما بعدها، وكل ذلك يفسح المجال أمام القول بأن الأميركيين والإيرانيين يعملون وفقا لـ”استراتيجية إدارة الأزمات”، وليس تفجيرها، وهو أمر بدا واضحا مع الرئيس باراك اوباما من خلال الإتفاق النووي بين إيران و”مجموعة 5+1″، ولم يخرج الرئيس ترامب عن ثابتة “إدارة الأزمات”، فعلى الرغم انسحابه من الإتفاق المذكور في أيار/مايو 2018، فإنه تحاشى مرارا وتكرارا الحديث عن حرب محتملة مع إيران، وفي جعبة هذه المواقف:
ـ في ذروة الغليان الذي شهدته منطقة الخليج (تفجير ناقلات النفط في ميناء الفجيرة الإماراتي) في شهر أيار/مايو 2019، نشرت “نيويورك تايمز” تقريرا بتاريخ 16 ـ 5 ـ 2019 ورد فيه أن الرئيس ترامب أبلغ وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان، بعدم رغبته بالصدام العسكري مع الإيرانيين، وأنه لا يريد خوض حرب مع إيران، بل هو يبحث عن حل دبلوماسي.
ـ وفي التاريخ نفسه، نقلت “واشنطن بوست” عن مسؤولين أميركيين قولهم إن ترامب يفضل الحلول السياسية مع إيران إلا أن بعض مستشاريه يضغطون من أجل الحرب.
ـ أشارت شبكة “سي إن إن” التلفزيونية (17 ـ 5 ـ 2019) إلى أن ترامب يشكو من ضغوطات مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي دفع بالملف الإيراني إلى نقطة اقتربت من الصدام العسكري مع إيران وبدت فيها المواجهة خيارا أخيرا، ولكن ترامب صارح المقربين منه بأن المواجهة مع الإيرانيين تطيح بوعوده لناخبيه بعدم الإنخراط في صراعات مسلحة.
ـ في 20 حزيران/يونيو 2019 قال ترامب إن الجيش الأميركي كان مستعداً وبجهوزية كاملة لضرب إيران (بعد إسقاط طائرة مسيرة أميركية)، لكنه غيّر رأيه قبل عشر دقائق من الضربات المخطط لها، وبعد يومين من تصريحه ذاك، قال:”لا أسعى إلى الحرب لكنها لو وقعت ستسبب دمارا ماحقا لم يره الزعماء الإيرانيون قبل ذلك”.
ـ بعدما تعرضت منشآت “آرامكو” في منطقتي بقيق وخريص السعوديتين لقصف صاروخي في أيلول/سبتمبر 2019، رجّح ترامب وقوف إيران وراء الهجمات الصاروخية ، إلا أنه قال (17 ـ 9 ـ 2019 ): “لا أريد حربا مع إيران”.
ـ خلال اجتماعه بممثلي الجالية اليهودية (28 ـ 9 ـ 2019) بمناسبة رأس السنة العبرية قال ترامب: “الولايات المتحدة ستستمر في موقفها الحازم تجاه إيران لكنها لا تتطلع إلى الحرب”.
ـ في حوار (10 ـ 10 ـ 2019) مع قناة “ان.بي.سي نيوز” الأميركية، أكد ترامب عدم سعيه إلى الحرب مع إيران، “وإذا وقعت الحرب ستكون الحصيلة إبادة وأنا لا أتطلع إلى ذلك”.
ـ حين اقتحم متظاهرون عراقيون السفارة الأميركية في بغداد في آواخر العام 2019، ردّ ترامب (1ـ 1ـ 2020) على سؤال يحتمل وقوع الحرب مع ايران فأجاب: “لا أرى حربا ستقع، أنا أحب السلام”.
ـ بعد اغتيال الجنرال سليماني، استعجل ترامب إطلاق تغريديتن، في الأولى (4ـ 1ـ 2020) قال “لا نريد تغيير النظام الإيراني ومنعنا نشوب حرب”، وفي الثانية (5 ـ 1ـ 2020): “سنضرب إيران بأسلحتنا الجديدة ـ الجميلة إذا هاجمتنا”، وحين هاجمت إيران قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق رداً على اغتيال سليماني، جزم ترامب بأن الولايات المتحدة الأميركية “لن تلجأ إلى مزيد من الأعمال العسكرية”.
من بداهات القول وفي خاتمته، إن الحديث عن حرب أميركية محتملة في الشرق الأوسط، يخرج عن السياق العام لمواقف ترامب، فتلك المواقف توجز انماط تفكيره وتعكس عقيدة سياسية أميركية متبلورة منذ سنوات عدة وخلاصتها خفض الإنخراط في صراعات المنطقة إذا ابتعدت عن تحديين اثنين: أمن إسرائيل وأمن النفط، فيما التحدي الأميركي الثقيل والخطير، ليس في الشرق الأوسط، بل في آسيا، وفي الصين تحديدا.
هل يجن ترامب فـ”يخترع” حرباً في الشرق الأوسط؟
الجواب على ذلك، يقع في خارج المنطق، وفي خارج الحسابات.