رياض سلامة بتعذر البديل: مجرمٌ أم بطل؟
BEIRUT, LEBANON - NOVEMBER 24: Head of Lebanon's Central Bank, Riad Salameh attends the Annual Arab Banking Conference for 2016 Lobbying for Better Arab - International Banking Cooperation, in Beirut, Lebanon on November 24, 2016. (Photo by Furkan Guldemir/Anadolu Agency/Getty Images)

تجاوز المشهد اللبناني حدود ولادة الحكومة أو إحتياطي العملة الصعبة أو التدقيق الجنائي أو تورط أو عدم تورط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشبهة تبييض أموال أو تحويلات مالية غير قانونية قبل أو بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

لنبدأ بطرح السؤال الآتي: هل هناك مصلحة دولية وإقليمية بإستقرار لبنان أم بإنهياره أم ببقائه في منزلة ما بين الإثنتين؟

ليس الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي حصل قبل سنة ونيف وليد لحظة 17 تشرين الأول/ أكتوبر. هناك تراكم فساد تاريخي غير مسبوق وسياسات نقدية ومالية وإقتصادية منذ مطلع التسعينيات أدت كلها إلى إنفجار “النموذج” اللبناني، من دون أن يعفي ذلك عوامل أخرى، لعل أبرزها العقوبات الأميركية التي أدت إلى إفتقاد “النموذج” لشحنات الأوكسيجين التي كان يمكن أن تطيل عمره أكثر، مثل تحويلات المغتربين من الخارج؛ المساعدات والقروض الدولية؛ الإنكفاء العربي وتحديداً الخليجي حد القطيعة؛ تداعيات الأزمة السورية؛ أزمة النازحين السوريين؛ كورونا وصولاً إلى إنفجار مرفأ بيروت، ذروة تشظي النموذج اللبناني بكل عوراته من فساد وإهمال وإفتقاد للتخطيط والإدارة والدراية والرقابة والمحاسبة!

حتى الأمس القريب، لم يكن من السهل الذهاب إلى إستنتاج سريع من نوع القول إن لبنان متجه حتماً نحو الإنهيار الشامل، بكل ما تعنيه هذه الكلمة وبكل ما يمكن أن يترتب على هذا الإحتمال. كانت أغلبية المحللين والسياسيين والإقتصاديين تتبنى معادلة مركبة تقوم على الآتي: لبنان ممنوع من النهوض وممنوع من الإنهيار. عليه أن يبقى في منزلة بين الإثنتين، وكلما شعر الغرب برجحان كفة على الثانية، لا بد وأن يتدخل حتى نبقى أسرى حالتنا الرجراجة!

ما جرى مع رياض سلامة على مدى الأسبوع الماضي، يطرح سؤال الهدف من وراء القضية التي أثيرت، أي القيام “بتحويلات مشبوهة من مصرف لبنان إلى بنوك سويسرية وتبييض أموال”: هل المطلوب رأس سلامة أم تبرئته وخروجه بطلاً؟

كان يمكن للقضية أن تندرج، كما تصوّر البعض، في خانة الحرتقات والنكايات السياسية اللبنانية، لكن التدقيق في طلب سويسرا مساعدة قضائية من لبنان في القضايا المثارة ضد سلامة، يفضي إلى أسئلة وإستنتاجات تتجاوز شخص رياض سلامة، لتطال النموذج وبالتالي الواقع اللبناني برمته.

منذ العام 1993، لم يكن رياض سلامة مجرد شخص عادي. شكّل حجر الزاوية في بنيان سياسي ـ إقتصادي ـ مالي مترامي الأطراف. لم يختره رفيق الحريري من الفراغ. تجربته في شركة “ميريل لينش” الأميركية في عز الحرب الأهلية في لبنان، ومن ثم في العاصمة الفرنسية، جعلته يدير أكبر “بورتفوليو” للشركة الأميركية خارج الأراضي الأميركية، ومن ضمنها إدارة أموال رجال أعمال وسياسيين لبنانيين أبرزهم رفيق الحريري.

ومثلما كان المال عصب المصارف اللبنانية أداة من أدوات الحرب الأهلية، فإن المال نفسه تغيرت وظيفته بعد إتفاق الطائف. صارت وظيفته تمويل تركيبة سياسية جديدة، تستظل بفيء المرحلة السورية ـ الأميركية ـ السعودية. رياض سلامة كان يمثل هذا التقاطع بإمتياز، وعندما إحتاجته سوريا للمساعدة في تحديث بنيانها المصرفي في مرحلة بشار الأسد، كان في صلب هذا التحول من العام ألفين وحتى السنة الثانية من عمر الأزمة السورية (2012)، بشراكة كاملة في هذه المهمة تحديداً مع نائبه محمد بعاصيري.

أليس من مصلحة لبنان واللبنانيين وضع ملف سلامة السويسري في سياقه القانوني الطبيعي حتى يأخذ مجراه، فلا يجري تضخيمه، فتأتي النتائج لاحقاً مخيبة للآمال إذا تمت تبرئته، ولا التقليل منه، إذا جاءت النتائج أكبر مما يتوقع كثيرون؟

منذ إنتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، بدأت تطرح للمرة الأولى أسئلة حول مصير حاكم مصرف لبنان المركزي، لكن وعلى طريقة التسويات اللبنانية، ولإعتبارات دولية، ولا سيما أميركية ـ فرنسية، تمكن سلامة من الفوز بولاية جديدة، لم تكن مجانية، بل إقتضت سلسلة “رشوات”، طالت بالدرجة الأولى حلقات على تماس مباشر مع العهد.

تجدد السجال حول مستقبل رياض سلامة مع إندلاع إنتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبرغم التحشيد السياسي والإعلامي، بدا الرجل بارداً كعادته، ولكنه لم يتمكن من إخفاء إرتباكه بسلسلة قرارات وتدابير وتعاميم إتسمت بالعشوائية وعدم الشفافية، إلى حد أن بعض الأوساط الدولية، وتحديداً الأوروبية، بدأت تطرح للمرة الأولى علامات إستفهام حول حاكمية مصرف لبنان.

وعندما أعيد تكليف سعد الحريري برئاسة الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إستشعر سلامة للمرة الأولى، بزوال الخطر. كانت ولادة حكومة سريعة هي بلسمه، بعدما أضناه إلحاح حسان دياب منذ تسلمه رئاسة الحكومة، على طرح إقالته، جلسة تلو أخرى، في مجلس الوزراء، من دون أن يتمكن دياب من كسر حلقة الحماية السياسية، بإمتداداتها الداخلية والخارجية.

غير أن حكومة الحريري لم تولد، وجاءت العقوبات الأميركية ضد جبران باسيل لتعيد خلط الأوراق، إلى أن طلب القضاء السويسري مساعدة القضاء اللبناني في القضايا المنسوبة إلى رياض سلامة، وذلك عن طريق السفارة السويسرية في بيروت، ومن خلالها إلى صديقة السفيرة السويسرية وزيرة العدل ماري كلود نجم.

يحتوي الملف السويسري على مئات الصفحات. بعضها قصاصات من الصحف ومقالات ومعلومات من مواقع إلكترونية أبرزها موقع “درج”. تصريحات صادرة عن خبراء إقتصاديين أو سياسيين لبنانيين، بالإضافة إلى جهد قام به أفراد لبنانيون وسويسريون، بينهم نواب سويسريون.

وفق المسار القضائي، كان أمام سلامة ثلاثة إحتمالات: أن يمثل أمام القضاء اللبناني؛ أن يمثل أمام القضاء اللبناني ـ السويسري بشكل مشترك؛ أن يمثل شخصياً أمام القضاء السويسري. قرر سلامة إعتماد الخيار الثالث، وهو الأصعب، وكلّف أحد المحامين إعداد رسالة رسمية يفترض أن يصار إلى تسليمها إلى السفارة السويسرية في بيروت، وعبرها إلى النيابة العامة السويسرية للمثول أمامها في “أقرب وقت ممكن”.

عندما يمثل سلامة في الأسابيع المقبلة أمام المدعي العام السويسري (رفعت الحصانة في 24 آب/ أغسطس الماضي عن المدعي العام السويسري القاضي ميشال لابور وتم دفعه للإستقالة من منصبه بتهمة فساد وحلّ محلّه مدعٍٍ عام بالوكالة، في إنتظار أن يعين الأصيل في مطلع هذه السنة)، سيكون أمام أحد الإحتمالات الآتية، أولها إثبات الجرم المنسوب إليه، وعندها للقاضي السويسري أن يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه، كفرنسي قبل أن يكون لبنانياً (على أن يصار إلى إرسال نسخة من الملف فوراً إلى النيابة العامة التمييزية في لبنان)، ثانيها أن يبادر إلى تبرئته فوراً من التهم المنسوبة إليه (تبييض وتحويل أموال)، ثالثها، أن يحتاج المسار القضائي إلى المزيد من الوقت، ومن ثم نكون (خلال أشهر أو سنوات) أمام إحدى النتيجتين الأولى أو الثانية.

النقطة المشتركة بين وزارتي الخزانة والخارجية الأميركيتين هي الآتية: “ممنوع أن تؤول حاكمية مصرف لبنان بأي شكل من الأشكال (بذريعة الفراغ) إلى نائبه الأول الشيعي.. ونقطة على السطر”!

عندما أصرّ سلامة على المثول مباشرة، قال للمدعي العام القاضي غسان عويدات إنه ليس لديه ما يخفيه أو يخيفه وبالتالي هو واثق من إنتفاء الإتهامات. زدْ على ذلك أن النظام السويسري القضائي والمصرفي، وهما مترابطان، حريص على سمعته، وهو يجري تسويات سنوية مع الأميركيين لأجل عدم كشف نفسه أمام وزارة الخزانة الأميركية التي تلاحق الأميركيين الذين يلجأون إلى التهرب الضريبي.

إقرأ على موقع 180  زيارة شكري اللبنانية معاكسة للتوجهات المصرية!

هنا يصبح السؤال: أليس من مصلحة لبنان واللبنانيين وضع ملف سلامة السويسري في سياقه القانوني الطبيعي حتى يأخذ مجراه، فلا يجري تضخيمه، فتأتي النتائج لاحقاً مخيبة للآمال إذا تمت تبرئته، ولا التقليل منه، إذا جاءت النتائج أكبر مما يتوقع كثيرون، خصوصاً وأن القاصي والداني يعرف مسبقاً أن معظم أركان الطبقة السياسية المشكو منهم في لبنان، وبينهم رموز مستجدة في الحراك الشعبي، هم أصحاب حسابات في المصارف السويسرية ويحظون بمعاملة خاصة هناك؟

الأخطر من ذلك أن اللبنانيين الذين خسروا ودائعهم وجنى عمرهم، يجري اليوم تدفيعهم أثمان تدمير ما تبقى من هياكل القطاع المصرفي الذي صار من الماضي. ثم من قال إن سويسرا التي تحتجز مئات مليارات الدولارات في مصارفها منذ الحرب العالمية الثانية، وبينهم عشرات المليارات لقادة ورؤساء عرب مثل حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح وصدام حسين يمكن أن ترد دولاراً واحداً من ودائع بعض اللبنانيين في مصارفها، لا بل أقصى ما يمكن أن تقوم به هو رد فوري لتحويلات “مشتبه بها” إلى لبنان، كما كانت تفعل قبل 17 تشرين/ أكتوبر وبعده، وذلك مخافة إشهار عقوبات أميركية بحقها، من دون أن يعفي ذلك مصرف لبنان وأيضاً جمعية المصارف من تحويلات حصلت إلى سويسرا وغيرها، ما أدى إلى مفاقمة الأزمة وجعل اللبنانيين يعيشون على “خرجية” منصة مصرف لبنان شهرياً!

ماذا يعني هذا التطور في ملف رياض سلامة؟

محلياً، ميشال عون ما بعد العقوبات الأميركية على جبران باسيل، ليس كما قبلها. المنطق الذي يحكم تعامله مع الملفات كلها، حكومة وإدارة سياسية هو منطق “عليّ وعلى أعدائي يا رب”!

الخسارة بالنسبة إلى عون وقعت وهي مضاعفة. عهده فشل أولاً وصار توريث جبران باسيل موقع رئاسة الجمهورية صعباً للغاية ثانياً. بالنسبة إليه، بعد هاتين الخسارتين، لا شيء يخسره أكبر منهما، وإذا كان لا بد من إنهيار الهيكل، فلينهار على رؤوس الجميع، ولا سيما من يعتبرهم فاسدين ويستحقون أن يكونوا مرميين في السجون لا في المواقع الأساسية في البلد. لذلك، قال عون لمن راجعوه إن رياض سلامة صار من الماضي. والأهم الآن هو التدقيق الجنائي، فإذا إستمرت شركة “الفاريز أند مارسال” بالدلع، لنبادر سريعاً إلى تكليف شركة ثانية (العودة إلى “كرول” هو الخيار الأكثر ترجيحاً)، برغم إقتناع الجميع أن القانون الذي أقره مجلس النواب لن يقدم أو يؤخر في أمر التدقيق.

وبإستثناء رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يستمر بتبني مقولة “عيّنوا بديل رياض سلامة قبل الإطاحة به”، فإن الحماية الداخلية المستمدة من سعد الحريري باتت ضعيفة للغاية. أصلاً، الحريري نفسه يحتاج إلى حماية سياسية داخلية وخارجية حتى يمضي في التكليف المجهول المصير. أما وليد جنبلاط، فأولوياته حالياً تتجاوز رياض سلامة وخوض معارك معه أو ضده.

خارجياً، يمكن التركيز فقط على عاصمتين مقررتين، الأولى هي العاصمة الفرنسية التي لم تعد تخفي موقفها السلبي من سلامة منذ زيارة إيمانويل ماكرون الأولى للبنان، غداة إنفجار مرفأ بيروت، بإصطحابه المتعمد مرشحه سمير عساف معه إلى بيروت، وهو موقف ما زال ثابتاً حتى الآن، أما إذا كان بديل رياض سلامة، من الذين سيختارهم أركان الطبقة السياسية الحالية، عندئذٍ، تكون الأفضلية لبقاء سلامة في منصبه.

الثانية هي العاصمة الأميركية. بحسب أحد العارفين، هناك موقفان أميركيان، الأول لوزارة الخزانة الأميركية التي تعتبر أن سلامة كان يعمل معها بشكل صحيح (correctly)، ولا سيما في ملف العقوبات، والثاني هو موقف وزارة الخارجية الأميركية المنقسم بين تيارين، أحدهما ينتقد بشدة رياض سلامة وثانيهما يحذر من الإتيان ببديل اسوأ منه، في إشارة إلى أن قرار تعيين حاكم مصرف لبنان الجديد سيكون هذه المرة بيد مشال عون.

والنقطة المشتركة بين وزارتي الخزانة والخارجية الأميركيتين هي الآتية: “ممنوع أن تؤول حاكمية مصرف لبنان بأي شكل من الأشكال (بذريعة الفراغ) إلى نائبه الأول الشيعي.. ونقطة على السطر”!

هذه الخشية الدولية من بديل رياض سلامة (سواء عيّنه عون أو حل محله نائبه الشيعي) تجعل موقف حاكم مصرف لبنان قوياً، أما إذا حصل توافق لبناني على البديل، وهو أمر مستحيل في ظل تعذر تأليف حكومة (من الآن وحتى نهاية العهد وفق المعطيات الراهنة)، فإن ذلك سيطرح مصير رياض سلامة مجدداً: هل يُقال من منصبه فقط أم سيُزجُ به في السجن؟

لا الإقالة سهلة إذا لم تكن مبنية على ملف قانوني بإمتياز، تبعاً لمندرجات قانون النقد والتسليف ولا الزج به في السجن سيكون مسموحاً به، أقله من البطريركية المارونية التي رسمت ذلك الخط الأحمر الكبير حول رئاسة الجمهورية (إميل لحود) في زمن البطريرك الراحل نصرالله صفير وفي عز “ثورة الأرز”. يقود ذلك إلى الإستنتاج أن “الخروج الآمن” يبقى هو الممر الأساسي لطي حقبة  رياض سلامة، وهو أمر قد يصبح متاحاً من الآن وحتى نهاية هذه السنة، لكنه لن يكون سريعاً كما يتمنى البعض خلال أسابيع أو شهور قليلة.

رياض سلامة لا يمثل نفسه. طي صفحته يحمل في طياته قراراً بطي مرحلة ورموزها. هل صار مفهوماً لماذا يُصر جبران باسيل على الثلث المعطل في مجلس الوزراء ربطاً بإقالة رياض سلامة وتعيين بديله؟ حكومتنا بعيدة جداً.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جمهورية الفساد اللبناني.. نموذج "تهشيل" الشركات العالمية!