هنالك من تحدث عن ثورة أو عن انتفاضة أو حراك خطف أو حُوّل عن مساره لمسببات خارجية وداخلية. فى الجهة المقابلة، هنالك من اعتبر أنها كانت مجرد «مؤامرة كونية ضد سوريا»، متجاهلاً عناصر موضوعية وراء ما حصل فى آذار/ مارس من العام ٢٠١١. ولكن لا يمكن أن يختلف اثنان حول أن موقع سوريا فى الجغرافيا السياسية المشرقية والشرق اوسطية جاذبة لجميع أنواع التدخلات الدولية والإقليمية خاصة عندما يفتح الباب على مصراعيه لذلك التدخل. فالصراع على سوريا (وهو عنوان كتاب للصحفى البريطانى باتريك سيل صدر منذ عقود خمسة ونصف من الزمن) لا يتغير. يتغير اللاعبون وتتغير عناوين وشعارات التدخل ولكن لا تتغير لعبة الصراع على المستويين الدولى والإقليمى على الموقع السورى فى الجغرافيا السياسية للإقليم. «مسار جنيف» الأممى لم يؤدِ إلى نتيجة، وحل محله فى الواقع مسار استانة الذى جمع الثلاثى الفاعل على الأرض (روسيا الاتحادية وإيران وتركيا) بتحالفاته وتفاهماته المتقاطعة دوليا وإقليميا. وانطلقت «منصة ثلاثية» جديدة منذ أسبوع فى الدوحة تضم إلى جانب قطر، كل من روسيا وتركيا، بهدف الإسهام فى التوصل لحل سياسى دائم للأزمة السورية، ودعم دور اللجنة الدستورية فى هذا المجال من خلال دعم دور مبعوث الأمم المتحدة فى هذا الخصوص.
على الأرض هنالك صراع نفوذ حول المستقبل، أو حول طبيعة التسوية عندما يحين أوانها:
• فى شمال سوريا، الذى هو أولوية أمنية تركية بهدف منع قيام فى شمال شرقى سوريا «دويلة كردية» قد تتحول إلى كردستان سورية عندما يحل السلام ويدعمها فى ذلك شريكاها فى مسار استانة.
• فى الغرب السورى على المتوسط، سباق تنافس روسى إيرانى بدأت تظهر ملامحه، حيث تريد الأخيرة موقعا استراتيجيا على البحر المتوسط فيما تعتبر روسيا أنه «منطقة نفوذ» روسى أساسى لها على المتوسط.
• فى الجنوب الغربى، هنالك تفاهم إقليمى غربى روسى إسرائيلى على عودة الوضع إلى ما كان عليه منذ اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل عام ١٩٧٤ وحتى آذار/ مارس ٢٠١١: وقف إطلاق نار وهدوء كامل فى هضبة الجولان. وقد عملت روسيا على هذا التفاهم من خلال علاقاتها مع إسرائيل كما يشهد على ذلك عدد القمم التى عقدت بين الطرفين. وجميع المؤشرات تدل على أن هنالك توافق كلى روسى سورى فى هذا المجال للعودة إلى السياسة السورية التى كانت قائمة قبل «الحروب السورية»، وهى ورقة أساسية فى يد السلطة السورية فى مسار التسوية السلمية السياسية. وتبدو هذه إحدى نقاط الخلاف الرئيسية بين الحليفين، بين إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى، حيث تريد إيران الإمساك بهذه الورقة الاستراتيجية الأساسية فى «مسرح الصراع» العربى الإسرائيلى.
• فى شرق الفرات، تدور معركة أساسية حول الإمساك بهذه المنطقة الاستراتيجية، منطقة العبور من العراق إلى سوريا. فمنطقة البوكمال الحدودية تعتبر جسر عبور النفوذ الإيرانى من طهران إلى شاطئ المتوسط، فيما تحاول واشنطن وحلفاؤها تحويل المنطقة، الغنية أيضا بالطاقة والزراعة، إلى حائط أو سد أمام تمدد النفوذ الإيرانى.
هل يبقى العرب، وهم معنيون بمصالح حيوية وطنية لدولهم وإقليمهم، فى موقف المتفرج أم يعملون على بلورة سياسة مشتركة فى الحد الأدنى الممكن الذى يخدم مصالحهم الوطنية. سياسة تؤدى إلى اضطلاعهم بدور فاعل
على صعيد آخر، تبدو هنالك عودة عربية ما زالت خجولة وبسرعات وأشكال وشروط مختلفة نحو تطبيع العلاقات بشكل تدريجى مع سوريا بغية إحداث توازن على الأرض مع النفوذ الإيرانى وبغية احتواء هذا النفوذ. كما تود دول عربية وقف التمدد التركى أيضا فى شمال وغرب سوريا، عبر هذه العودة. فالقوتان الإقليميتان استفادتا من غياب أى دور عربى فاعل فى «المسرح الاستراتيجى» السورى. يجرى كل ذلك فى إطار التحضير لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية دون أن يكون هناك أفق زمنى محدد لهذه العودة. وتلعب روسيا دورا أساسيا فى الدفع بهذا الاتجاه. وما يشجع ويدفع بهذا الاتجاه ايضا أن هنالك معادلة استقرت فى «المسرح الاستراتيجى» السورى بعد عقد من الحروب المختلفة فى سوريا قوامها أن النظام لم يخسر الحرب ولكنه لم يكسب السلم.
فالشروط والعوامل التى تساهم فى صنع السلام الوطنى والمجتمعى وما تحتاجه من سياسات وقدرات موظفة لهذا الأمر تختلف عن العوامل التى ساهمت فى منع خسارة الحرب. كما أن الدور العربى يبقى أساسيا فى هذا المجال إلى جانب بالطبع الدور الدولى. كما تزداد لعبة التنافس على تعزيز النفوذ فى سوريا، وتتداخل فيها (تقاطعا وتصادما) مصالح حلفاء وخصوم بشكل عام، ووفقا لكل «ملف». هذا الأمر يضفى مزيدا من التعقيدات على المشهد السورى. فيما يستمر الانهيار السورى والكلفة الإنسانية الهائلة لهذا الانهيار، كما يدل على ذلك الازدياد فى أرقام النزوح واللجوء وازدياد وتفشى الفقر والبؤس.
السؤال: هل يبقى الانتظار سيد الموقف إلى أن تحسم المواجهة القائمة فى الشرق الأوسط عبر تفاهم دولى إقليمى (عربى أساسا) لتسوية النزاعات القائمة والمترابطة عبر مصالح الأطراف المؤثرة، باعتبار أنه لا يمكن لأى طرف، كما يتمنى البعض، أن ينتصر بالضربة القاضية. تفاهم يقوم على عناصر واضحة تستند إلى القواعد والمبادئ والأعراف الدولية المعروفة والمستقرة فى ما يخص إدارة العلاقات بين الدول. وهل يبقى العرب، وهم معنيون بمصالح حيوية وطنية لدولهم وإقليمهم، فى موقف المتفرج أم يعملون على بلورة سياسة مشتركة فى الحد الأدنى الممكن الذى يخدم مصالحهم الوطنية. سياسة تؤدى إلى اضطلاعهم بدور فاعل. دور، لا يهدف إلى إلغاء دور الآخرين، ولكن للمساهمة الفاعلة فى تسوية صراعات المنطقة بأشكالها المختلفة، وفى مواكبة واحتضان عملية صنع السلام الشامل فى سوريا، التى يجب أن تكون أساسا مسؤولية سورية تشارك فيها جميع الأطياف السياسية السورية.
إن سياسة البقاء على الهامش والتأييد عن بعد أمر، كما دلت كل التجارب، غير مفيد. وهذا درس يجب أن تستفيد منه جميع الأطراف العربية المعنية بأمنها الوطنى والإقليمى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“