كما ردّدتُ في مقالات سابقة، فإنّني أميل ـ بالتّأكيد ـ إلى الطّرح المبني على مفهوم المواطنة ضمن الدّولة الواحدة والمركزيّة. وقد شرحت سابقاً أنّني من دعاة السّير في هذا الاتّجاه، ولو بالتّدرّج الذي سمّيته بالصّبور والمدروس، إذ يمكننا أن نسير باتّجاه دولة المواطنة من خلال “جرعات” معيّنة من التّعديلات على النّظام الطّائفي المهترئ الحالي.
إذن: فطرحي هو، بوضوح، طرح دولة المواطنة الواحدة والمركزيّة، وهذا ما أفكّر وأحلم به، بالنّسبة إلى وطني وبالنّسبة إلى أهلي.. وبالنّسبة إلى أولادي من بعدي.
لكن، لماذا الاعتراض على الطّروحات الفيدراليّة (الصّادقة) مثلاً؟
لم أعترض يوماً، ولستُ أعترضُ الآن، على هذا النّوع من الطّروحات إلّا لسبب رئيس، ألا هو: عدم تأكّدي العقلاني، وعدم إيماني الحدسي والقلبي، بما أسمّيه الفرضيّة المؤسّسة لهذه الطّروحات في لبنان. وهي فرضيّة: أنّنا شعوب “غير متجانسة” أو “متنوّعة” بالقدر الذي يجعل من شبه المستحيل عيشنا ضمن دولة مركزيّة واحدة.
اعتراضي، من وجهة النّظر المحليّة الخالصة[1]، هو إذن من النّوع العلمي ـ الاجتماعي، قبل أن يكون من النّوع الأيديولوجي والتّقني. وبغية تسهيل إيصال الفكرة والمُراد، أقترح عرض ذلك “المضمون الاعتراضي”، من خلال الأسئلة التّالية، آملاً في أن يكون النّقاش علميّاً ومبنيّاً على المنهجيّة المتقنة كما على احترام الآخر:
١/ أيّ دراسات علميّة ـ أكاديميّة ـ لا سيّما في مجال السّوسيولوجيا أو علم الاجتماع ـ تؤكّد لنا أنّنا شعوب وبيئات غير متجانسة؟ وضمن أيّ نِسب؟ هل هناك ـ مثلاً ـ من قام ببناء “النّماذج ـ المثاليّة” IdealـTypes، للفرد ضمن كلّ فئة من الفئات المذكورة في إطار الطّروحات الفيدراليّة ـ قبل القيام بالمقارنة بين سماتها الجوهريّة، وبين هذه الأخيرة وبين معطيات الواقع (راجع كتاباتنا عن النّموذج ـ المثالي وماكس فيبر)؟ من المهمّ جدّاً، برأيي، التّفكير بالمسألة من وجهة نظر المنهجيّة الفيبريّة للمقارنة بين الفئات والتّركيبات الاجتماعية (دون الاكتفاء بها فقط، وبطبيعة الحال).
ما هي نسبة واقعيّة اعتبار المجتمعات المسيحيّة في لبنان هي وحدها المنفتحة على الثّقافة الغربيّة؟ هل من دراسات جدّيّة حول نسبة الانفتاح الثّقافي والحضاري لبيئات مسلمة واسعة؟ باختصار: هل ما زالت البيئات المسيحيّة هي الوحيدة التي تعيش ـ بنسبة كبيرة ـ ضمن مفهوم انتماء حضاريّ وثقافي “ما” إلى الغرب (و”حداثته”)؟
٢/ أيّ دراسات تؤكّد لنا أنّ نسبة غيرـ التّجانس هذه بين مكوّنات الشّعب اللّبناني: تفوق نسب غيرـ التّجانس بين مكّونات شعوب أخرى ـ تعيش ضمن دول واحدة ومركزيّة ـ كفرنسا مثلاً؟
٣/ ضمن إطار الأسئلة العلميّة نفسها: إلى أيّ حدّ “نختلف” ـ أو نتمايز ـ عن بضعنا البعض في اللّغة مثلاً؟ وفي الفنون؟ وفي النّواميس ـ خصوصاً منها الضّمنيّة واللّا-واعية ـ الاجتماعيّة العامّة، والأسريّة العامّة، والأخلاقيّة العامّة؟
٤/ في الإطار عينه، إلى أيّ حدّ نتمايز عن بعضنا البعض في الخطوط الثّقافيّة العامّة: بما فيها المواضيع السّابقة الذّكر، لكن فيما يخصّ ـ أيضاً ـ العادات والتّقاليد الاجتماعيّة والأسريّة العامّة؟
٥/ كذلك، ما هي نسبة واقعيّة اعتبار المجتمعات المسيحيّة في لبنان هي وحدها المنفتحة على الثّقافة الغربيّة؟ هل من دراسات جدّيّة حول نسبة الانفتاح الثّقافي والحضاري لبيئات مسلمة واسعة؟ باختصار: هل ما زالت البيئات المسيحيّة هي الوحيدة التي تعيش ـ بنسبة كبيرة ـ ضمن مفهوم انتماء حضاريّ وثقافي “ما” إلى الغرب (و”حداثته”)؟
٦/ أخيراً وليس آخراً: هل من المقبول، عقلاً وتجربةً، اعتبار العامل الدّيني العاملَ الأوحد ربّما في التّمييز بين مكوّنات شعب ما؟ وإلى أيّ حدّ يمكن اعتبار مفاهيمنا جميعاً حول الإله والنّبوّة والقيامة والنّاموس، كمشرقيّين، مختلفة ـ أصلاً ـ عن بعضها البعض؟ أليس الأصحّ اعتبار أنّها ـ وفي الأعمّ الأغلب ـ بنت (أو بنات) بيئة طبيعيّة وإثنيّة واحدة؟ (يمكننا المغامرة بوصف تلك البيئة “بالسّامِيّة[2]” ربّما.. لكن هذا بحثٌ آخر).
أكرّر وبصدق: أنّ الهدف من الأسئلة هذه هو النّقاش وليس التّحدّي والتفلسف لمجرّد التّفلسف. إلى اليوم الذي يقنعني فيه أصحاب الطّرح الفيدرالي بصحّة وبواقعيّة فرضيّة غيرـ التّجانس هذه، سوف أبقى بطبيعة الحال، وكغيري من اللّبنانيّين مُدافعاً عن طرح الدّولة الواحدة والمركزيّة، والقائمة على مفهوم المواطنة العصري.
حتّى الآن، وأعتذر ممّن قد يستفزّه قولي: ما أزال أميل إلى اعتبار هذه الطّروحات نسخاً جديدةً من طروحات اليمين المسيحي اللّبناني المتطرّف القديم. وكأنّنا، في هذا البلد، وجميعاً: لا نتعلّم من التّجارب السّيّئة والإيجابيّة على السّواء (ولهذا بحث آخر أيضاً..).
قبل فوات الأوان: المواطنة.. أو المثالثة وأخواتها الملتوية والعوجاء؟
أعجب صراحةً لتصرّف بعض القيادات المسيحيّة الحاليّة، القائم على ما يمكن تسميته بسياسة النّعامة[3] تجاه النّظام الحالي الفاشل: من جهة، نعلم أنّ النّظام الحالي منتهٍ لكن مع وقف تنفيذٍ إقليمي ودولي؛ ومن جهة أخرى، نقف في وجه أيّ اصلاح و/أو تغيير جدّي له خوفاً من هيمنة العامل الدّيموغرافي أوّلاً، وعامل سلاح المقاومة ـ وما تسمى “الأوراق الرّابحة” لفريق المقاومة في الإقليم ـ على أيّ مفاوضات حول نظام معدّل أو جديد، ثانياً.
قد يكون إبراز الطّرح الفيدرالي إعلاميّاً، خصوصاً في الآونة الأخيرة، ردّاً على هذا الواقع: (١) نعم، نُقرّ بأنّ النّظام الحالي قد سقط وفشل، ولا يُمكن أن يستمرّ بطبيعة الحال؛ لكن (٢) لن نقبل بأن نذهب في اتّجاه تعديل أو تغيير له بما يضعف “الصّلاحيّات ـ أو الامتيازات المسيحيّة” داخل النّظام الرّاهن. لذلك: (٣) خذوا، خصوصاً “يا أيّها القادة الشّيعة والسّنّة”، اقتراحَ الفيدراليّة كردّ وكخيار مضاد.. أو لنبقَ على ما نحنُ عليه (وفيه).
صراحةً، عندما تتعمّق في هذا المنطق غير الواقعي والانغلاقي (والرّجعي ربّما)، تزداد قناعتك بأنّ ظاهر الطّرح العوني ما يزال هو الأقرب إلى العقلانيّة والرّشد (برغم “التّعصيب” الشّيعي الحالي ـ والعابر على ما أتمنّاه شخصيّاً ـ تجاه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل): لنذهب في اتّجاه دولة المواطنة المركزيّة، تدريجيّاً، لكن مع تطبيقٍ اللّامركزّية الموسّعة. في الظّاهر على الأقل، لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذا الطّرح السّياسي “المسيحي” هو الأكثر واقعيّة والأكثر عقلانيّة.. والأكثر صحّة أيضاً فيما يخصّ مستقبل البلد (ولن أدخل هنا في جدال حول خيارات باسيل الحاليّة والسّابقة التّفصيليّة، فهذا بحث آخر).
ولكنّ البقاء ضمن “سياسة النّعامة” المذكورة أعلاه، هو خطيرٌ وخطيرٌ جدّاً برأيي. والاستمرار في التّحصّن خلف نظام متخلّف كالنّظام الحالي قد يذهب بنا بعيداً ضمن جوّ ماكيافيلّي ولاـ أخلاقي معاً. وكما يحلو القولُ لأحد دكاترة الطّرح الفيدرالي (الطّرح المسيحي الطّابع بالتأكيد): فالسّياسة ـ أقلّه في الظّاهر ـ هي لعبة موازين قوى. لذلك، أعتقد بصدق وبأمانة، أنّ عدم سير القادة المسيحيّين في طليعة المطالبين بتطوير النّظام السّياسي الحالي بهدف الوصول إلى دولة المواطنة العصريّة وغير الطّائفيّة سوف يجعل العامل الأساسي الذي سيحكم مستقبل النّظام الحالي هو عامل موازين القوى (بما فيها الموازين الإقليميّة والدّيموغرافيّة).. وبالمعنى الأكثر مادّيّةً وماكيافيلّيةً وسطحيّةً في الوقت عينه.
ولذلك، قد نصل إلى مكان يطرح فيه أحدهم منطق “الرّفيق الأحمر” جوزف ستالين خلال مفاوضات ما بعد الحرب العالميّة الثّانية: كم دبّابة وصاروخ وأراضٍ محتلّة وأعداد بشريّة يملك كلّ طرف حول الطّاولة؟ إنّه منطق لوسيفر Lucifer “سيّد عالم الظّاهر” طبعاً، وليس منطق أهل الحكمة والمحبّة من كلّ الأديان. لكنّ الأنانيّة والانغلاق ـ وبعض الفاشيّة والرّجعيّة ـ لا يمكن إلّا أن تؤدّي جميعها إلى هكذا نتائج شيطانيّة، نكون فيها جميعاً من الخاسرين.
إنّ الاستمرار بالدّفاع عن النّظام الحالي، واعتماد سياسة النّعامة من قبل القادة المسيحيّين وغير المسيحيّين.. لن يمنعَ وقوع التّعديلات على هذا النّظام. أوّلاً، لأنّ هذا الأخير فاشل ولا يمكن أن يستمرّ بما هو عليه. وثانياً، وبالمنطق الطّائفي الخاص بهذا النّظام الرّجعي
الخلاصة: ما هو خيارنا؟
مجدّداً؛ إنّ الاستمرار في الدّفاع عن نظام فاشل كهذا النّظام اللّبناني الحالي يقع ضمن المسائل غير الحكيمة وغير الواقعيّة من جهة، وضمن المسائل غير الأخلاقيّة من جهة أخرى. إنّ الاستمرار في الدّفاع عن نظام كهذا النّظام من شأنه أن يُعمّق ويُجذّر ويُقوّي المفهوم الماكيافيلّي والشّيطاني لمجرى الأحداث في لبنان: إذ أنّ الأطراف الأساسيّة ستجد نفسها ـ بالتأكيد ـ عالقةً كالمعتاد ضمن لعبة لا قانون لها سوى ميزان القوى الإقليمي والدّيموغرافي والعسكري.
إنّ الاستمرار بالدّفاع عن النّظام الحالي، واعتماد سياسة النّعامة من قبل القادة المسيحيّين وغير المسيحيّين.. لن يمنعَ وقوع التّعديلات على هذا النّظام. أوّلاً، لأنّ هذا الأخير فاشل ولا يمكن أن يستمرّ بما هو عليه. وثانياً، وبالمنطق الطّائفي الخاص بهذا النّظام الرّجعي، لأنّه أصبح ـ هوَ، وبمفهومه ـ بعيداً عن واقع الدّيموغرافيا الحالي، وواقع موازين القوى الحالي. ولا أظنّ أنّ من فرض هذا النّظام على النّاس قد فرضه ـ أصلاً ـ بغير منطق القوّة (من الجزمة الاستعماريّة الفرنسيّة وكل ما تلاها حتى يومنا هذا). لذلك، لا فضل في هذا النّظام للأخلاقيّات وإنّما الفضلُ فيه للتّوازنات (بالمعنى الاقتصادي ـ السّياسي المادّي البحت لـ Equilibres). ستكون النّتيجة هي التّعديل عاجلاً أم آجلاً، لكن ليس في الاتّجاه الصّحيح: بل في اتّجاه مفاهيم ملتوية ورجعيّة كالمثالثة وأخواتها.. من مرابعة ومخامسة ومسادسة ربّما (فنعمَ الأعدادُ.. وبئسَ المصير!).
من هنا، فليستيقظ قادتنا جميعاً من هذا السّبات الشّيطاني، وليستعيذوا بالله من غفلة النّفس الأمّارة بالسّوء إلّا ما رحمَ ربّي: وليذهبوا بهذا الوطن نحو دولة المواطنة الواحدة والمركزيّة والعصريّة.. ولنخرج، فوراً، من هذه الظّلمات ومن أوهام موازين القوى، إذ “أنّ الدّهرَ يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك”، “وتلك الأيّام نداولها بين النّاس”، “ولو دامت لغيركَ لما آلت إليك”.
هذه هي، برأيي، المخاطر الجدّيّة والعمليّة والملموسة لعدم السّير الفوري باتّجاه دولة المواطنة العصريّة ولو بالتدرّج (أو “التّدريج”): فهل من قارئٍ مستمع؟
[1] أمّا الزّاوية الإقليميّة والعروبيّة فلها بحثٌ آخر.
[2] أو “بالسّوريّة” أو “بالشّاميّة”، لكننّا لن ندخل في هذا الجدل هنا بطبيعة الحال والمقام.
[3] راجع مقالي السّابق على موقع 180Post: نداء إلى القادة المسيحيّين: احملوا أنتم مشروع المواطنة!