الهروب الأمريكي من أفغانستان.. هزيمة إستراتيجية!

لم يكن بدء القوات العسكرية الأمريكية في الانسحاب من أفغانستان مفاجئا في توقيته وأسبابه، فقد درجت الإدارات المتعاقبة خلال العشر سنوات الأخيرة على تبني ذلك الخيار.

جرت منازعات ومساجلات وتقديرات مختلفة للموقف وتسببت ممانعات «جنرالات البنتاجون» فى تأجيل القرار مرة بعد أخرى.
«لا يمكننا الاستمرار».. العبارة بنصها رددها ثلاثة رؤساء على التوالى «باراك أوباما» و«دونالد ترامب» و«جو بايدن» حتى تملك الأخير الضجر: «متى ننسحب.. بعد عام.. عامين.. عشرة؟!».
تبدت فى المنازعات والمساجلات خشية أن يفضى الانسحاب بتداعياته إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بالولايات المتحدة فى آسيا حيث يكتسب التنين الصينى صفة الدولة العظمى الصاعدة.
دخلت إدارة «ترامب» مفاوضات ماراثونية فى «الدوحة» مع حركة «طالبان» لتخفيف فاتورة الانسحاب، دون أن يكون مؤكدا قدرتها على إلزام الحركة بأى من تعهداتها!
الهزيمة حلت، أو كادت تعلن رسميا، بعد عشرين سنة من التورط العسكرى الأمريكى فى جبال وكهوف أفغانستان.
انتهت الآن «أطول حرب خاضتها القوات الأمريكية»، بتعبير الرئيس الأمريكى نفسه، دون أن يكون بوسعه أن يعلن الانتصار، أو أن يخفى الهزيمة.
من ناحية رمزية فإن انتهاء الانسحاب قبل (11) أيلول/ سبتمبر المقبل «بلا شروط مسبقة» أقرب إلى التسليم بالهزيمة بعد عقدين كاملين على إعلان إدارة الرئيس الأسبق «جورج دبليو بوش» «الحرب على الإرهاب الدولى» عقب حادث تفجير برجى التجارة العالمى فى نيويورك.
كان الحادث دمويا مروعا وظفه المحافظون الجدد لإعادة رسم خرائط المنطقة في ما سمى «الشرق الأوسط الجديد».
باسم «مناهضة الإرهاب الدولى» احتلت أفغانستان والعراق على التوالى.
لم تكن هناك شبهات لأية صلة تجمع نظام «صدام حسين» بالقاعدة، ولا ثبت امتلاكه لأسلحة دمار شامل تسوغ الحرب عليه.
جرت عملية تزييف واسعة للحقائق لتبرير احتلال العراق وتفكيك دولته بإثارة النعرات العرقية والمذهبية فيه.
فى الحالتين الأفغانية والعراقية قيل إن الهدف بناء نظام ديمقراطى، غير أن ما جرى كان تدميرا منهجيا للبلدين بهدف الاستفراد بدول المنطقة واحدة إثر أخرى.
لحقت لعنة التدمير سوريا وليبيا واليمن ووصلت شرارتها لدول أخرى.
فى الحساب الختامى لحقت الهزيمة بالقوة الأمريكية نفسها، فهناك حدود للقوة لا يمكن تجاوزها.

الأرجح أن تعود طالبان للسلطة، قد تعلن إمارة إسلامية، وقد تستعيد التحالفات القديمة زخمها العنيف، تقوى القاعدة مجددا وترث «داعش» فى التعبير عن ظاهرة العنف الدينى، بعد أن تقوضت فى سوريا والعراق

ما الذى يمكن أن يحدث عقب اكتمال الانسحاب الأمريكى عند حلول الذكرى العشرين لحادث الحادى عشر من سبتمبر/ أيلول (2001)؟
احتمالات الفوضى ماثلة والغيوم تخيم على الأفق القريب لأكثر أقاليم العالم اشتعالا بالأزمات والنيران.
بحكم موقع أفغانستان فى آسيا الوسطى فهى ملتقى مصالح واستراتيجيات وموضوع صدامات محتملة.
تجاور الصين من الشرق وهى أحد تمركزات «طريق الحرير»، الذى تراهن عليه فى صعودها إلى منصة القوة الاقتصادية الأولى بغضون أعوام قليلة.
وتجاور باكستان من الجنوب وإيران من الغرب والدول الإسلامية فى الاتحاد السوفييتى السابق من الشمال، مؤثرة ومتداخلة بالموقع الجغرافى الاستراتيجى فى تفاعلات وحسابات، وما يحدث فيها له وقع وحساب فى الشرق العربى وهنا فى مصر.
بتلخيص ما: أفغانستان جملة استراتيجية مفيدة فى الحسابات الدولية والإقليمية.
كان التورط السوفييتى بين جبالها وكهوفها لعشر سنوات كاملة بين عامى (1979) و(1989) داعيا لإنهاك عسكرى واقتصادى أفضى بنهاية المطاف إلى تفكيك الاتحاد السوفييتى نفسه، وتغيير بنية النظام الدولى بانفراد الولايات المتحدة بقيادته منفردة لسنوات طالت، حتى بدأت فى الانكشاف تحت ضربات جائحة «كورونا».
جرى اصيطاد القوة السوفييتية باسم «الجهاد الإسلامى»، الذى قادته «الاستخبارات الأمريكية»، فى مواجهة ما وصفته بـ«الإلحاد الشيوعى».
لم تكن الحرب فوق جبال أفغانستان بين «الإيمان» و«الإلحاد».
جرى توظيف الدين فى صدام مصالح واستراتيجيات، حشدت مشاعر وجمعت أموالا وتبارت نظم عربية، خاصة فى مصر والسعودية، على إرسال المقاتلين إلى أتون الحرب الأفغانية.
جرى ذلك كله تحت الإشراف الكامل للاستخبارات الأمريكية!
عندما انتهت الحرب بانسحاب القوات السوفييتية عاد من عاد إلى بلاده، وبقى من بقى فى كهوف أفغانستان.
أطلق على الأولين «العائدون من أفغانستان»، وهم قوام ظاهرة الجماعات الإسلامية والجهادية تسعينيات القرن الماضى، التى أنهكت المجتمع المصرى بعملياتها الإرهابية.
وقد شكل من بقى فى أفغانستان العماد الرئيسى لتنظيم «القاعدة»، الذى دخل فى تحالف مصيرى مع حركة «طالبان»، التى أمسكت بمقاليد السلطة حتى أزاحتها العمليات العسكرية الأمريكية من فوقها.

بتداعيات الهزيمة الاستراتيجية تفككت الدولة السوفييتية والمنظومة الاشتراكية فى أوروبا الشرقية وحلف «وارسو»، الذى كان يوازن حلف «الناتو» فى سنوات الحرب الباردة.
فى شباط/ فبراير (1989) انسحبت القوات السوفييتية من أفغانستان، كان ذلك إيذانا بنهاية مرحلة كاملة من التاريخ الحديث، فى خريف نفس العام بدأ فتح بوابات جدار برلين قبل هدمه كاملا.
انتهت الحرب الباردة وبدأت حقبة الهيمنة الأمريكية الكاملة، التى شهدت خلالها المنطقة أوسع وأخطر عملية استباحة فى تاريخها تمكينا لإسرائيل من مقاديرها.
ما الذى يمكن أن يحدث الآن عند اكتمال الانسحاب الأمريكى فى سبتمبر المقبل؟

لم يعد العامل الإسرائيلى الأكثر حسما فى المواقف الأمريكية من أزمات الشرق الأوسط على ما يتبدى فى منازعات البرنامج النووى الإيرانى. العامل الإسرائيلى موجود ومؤثر لكنه ليس العامل الحاسم. الإدارة الأمريكية تحبذ وتدعم ملف التطبيع مع إسرائيل، دون الحماس الذى كانت تبديه إدارة «ترامب»

الأرجح أن تعود طالبان للسلطة، قد تعلن إمارة إسلامية، وقد تستعيد التحالفات القديمة زخمها العنيف، تقوى القاعدة مجددا وترث «داعش» فى التعبير عن ظاهرة العنف الدينى، بعد أن تقوضت فى سوريا والعراق.
إنها ظاهرة واحدة تتجلى تنظيميا فى تعبيرات عديدة ترث بعضها الآخر.
الاحترابات الأهلية الأفغانية تنذر بفوضى سلاح وموجات عنف قد تصل شراراتها إلى هنا.
هذا سيناريو فوضى وعنف يتداخل ويؤثر فى تفاعلات المنطقة المضطربة ويهز ويضرب فى أمن العواصم الأوروبية.
يصعب أن تفلت أمريكا من آثار هزيمتها الاستراتيجية فى أفغانستان.
السيناريو السوفييتى غير وارد، الانهيار مستبعد والاضطراب ماثل.
فى أحوال الاهتزاز الاستراتيجى يصعب التعويل على أدوار أمريكية فاعلة ومؤثرة فى سياسات الشرق الأوسط، كالتى اعتدناه طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الانسحاب الأمريكى من أفغانستان يؤشر إلى انسحابات أخرى أقل دراماتيكية من ملفات الإقليم.
لا يتوقع دور أمريكى فى ملف السد الإثيوبى وحرب المياه المعلنة عند منابع نهر النيل إلا بقدر تأثير الأزمة على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
لن يتدخل أحد لإنصاف دولتى المصب مصر والسودان، إذا لم يصعدا الأزمة عند حافة المصالح الحرجة والنيران المحتملة فى القرن الأفريقى واستراتيجية البحر الأحمر.
باستثناء الملف النووى الإيرانى لا يدخل فى الأولويات الأمريكية أى ملف إقليمى آخر.
رغم التصعيد الإيرانى بكل ما لديها من أوراق قوة وتحالفات إقليمية فإنها تكتسب نقاطا تفاوضية جولة بعد أخرى.
كان ذلك استثمارا سياسيا فى أحوال دولة كبرى تعانى حالة انسحاب استراتيجى من الإقليم وأزماته باستثناء التزامها المعتاد بـ«الأمن الإسرائيلى»!، وأن كل ما يعنيها أولا وثانيا وعاشرا تخفيف الأعباء الاستراتيجية للتفرغ لمقارعة التنين الصينى على القوة والنفوذ.
لم يعد العامل الإسرائيلى الأكثر حسما فى المواقف الأمريكية من أزمات الشرق الأوسط على ما يتبدى فى منازعات البرنامج النووى الإيرانى.
العامل الإسرائيلى موجود ومؤثر لكنه ليس العامل الحاسم.
بمقاربة أخرى فإن الإدارة الأمريكية تحبذ وتدعم ملف التطبيع مع إسرائيل، دون الحماس الذى كانت تبديه إدارة الرئيس السابق «ترامب».
إلى أى حد يمكن أن يمضى الانسحاب الأمريكى من أزمات الإقليم؟
السؤال معلق على تفاعلات وحسابات قوة لا تملكها وحدها دولة كبرى أعلنت للتو هزيمتها الاستراتيجية فوق جبال أفغانستان.

إقرأ على موقع 180  أساطير إتفاق الطائف.. وحقائقه!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الإسلام و"الإرهاب".. واحتكار العدالة