بوتين بمواجهة بايدن: أنا القيصر، أنا هنا

في ذروة التنافس الاميركي الصيني على زعامة العالم، يخطف فلاديمير بوتين مجددا الاضواء على المسرح الدولي، وكأنه يقول للجميع: مهلاً، لا يمكن رسم مستقبل الارض من دون روسيا، فكيف استطاع هذا الرجل، في عقدين من الزمن، رد الاعتبار لموسكو بعد الانهيار العظيم لهيكلها السوفياتي، ووصولاً إلى إعادة خلط الاوراق الجيوسياسية على المستوى الكوني؟

فلاديمير بوتين، لاعب جودو محترف وصياد ماهر، ويتقن فنونا قتالية عدة. لكنه أثبت ايضاً انه “أكروبات” روسي عتيق يصل الى الحافة ثم يقفز قفزة متقنة الى الوراء حتى لا يسقط في الهاوية. ديبلوماسي مناور عندما يشاء وقادر على اخفاء قبضته الحديدية بقفاز من حرير عندما تدعو الحاجة. أظهر مهارات كثيرة في فترة حكمه الطويلة جعلته قبلة الاعلام وعشيقاً للكاميرا ونجماً في المحافل، مثيراً بذلك ليس غيرة الزعماء وحدهم بل نجوم السينما ايضاً، لا بل وضعته مجلات عالمية مرموقة ومراكز شهيرة مرات عدة في صدارة ترتيب رجال العالم الاكثر نفوذاً.
ومن سوء حظ حكام العالم في السنوات العشرين الاخيرة، ان ولايتهم تزامنت مع وجود “سارق قلوب وعقول” في الكرملين خطف منهم كل التألق والنجومية. لهذا السبب سيتجنب ندّه الرئيس الاميركي جو بايدن مشاركته في مؤتمر صحافي مشترك في جنيف. هذا الرجل، بغض النظر عن الموقف من سياساته الداخلية والخارجية، أعاد للسياسة الدولية نكهة عقود القرن العشرين الماضية التي عرفت زعماء وقادة تركوا بصماتهم واضحة في التاريخ.
وفي مقابل عدائه وانتقاده المتكرر لفلاديمير إيليتش لينين، لا يخفي بوتين إعجابه بجوزف ستالين. لقبه يتبدل تبعا “للديموقراطية الروسية” الفريدة من نوعها، فهو مرة رئيساً للدولة ومرة رئيساً للحكومة، ويطمح في أن يكون رئيساً الى الابد. لكنه فعلا هو القيصر غير المتوج على العرش الروسي. توقه الى الزعامة العالمية جعله مثارا للجدل. وسر قوته يكمن في ضعف منافسيه وخصومه.

من سوء حظ حكام العالم في السنوات العشرين الاخيرة، ان ولايتهم تزامنت مع وجود “سارق قلوب وعقول” في الكرملين خطف منهم كل التألق والنجومية. لهذا السبب سيتجنب ندّه الرئيس الاميركي جو بايدن مشاركته في مؤتمر صحافي مشترك في جنيف

في سوريا، ظهر كأنه استاذ كبير في الشطرنج. بنقلة واحدة وضع “القلعة” الروسية في وجه “الملك الاسود” الذي كان يهدد السوري بـ”كش مات”. نقلة واحدة غيّرت شروط اللعبة وقلبت الرقعة السورية رأساً على عقب. ذهب الى الحرب حامياً ظهره في بلاده، ومبرراً شنها بخطاب متماسك له أسبابه ورؤيته، فهو واضح تماماً، يعرف من هو حليفه في سوريا ومن هو خصمه، في حين أن أحداً لا يعرف من هو الصديق الحقيقي للغرب في الشرق الاوسط ولا من هم خصومه.
في اوكرانيا، نصّب نفسه رافعاً للواء “روسيا العظمى” عندما ضم شبه جزيرة القرم أمام أنظار الأوروبيين والأميركيين العاجزين، رداً على انقلاب اوكراني حرّكه الغرب. كان القبول بنتيجة الانقلاب سيمثل ليس فقط نهاية مأسوية لحلم القيصر، بل كان من الممكن أن يصبح بمثابة وضع القضبان لحبس موسكو خلف الاسوار الحمر للكرملين. يالطا “القرمية” كانت رمزا لجعل الاتحاد السوفياتي قطباً دولياً، فهل كان يمكن أن يرضى بهزيمة مذلة في يالطا “الاوكرانية” تضع روسيا الكبرى الى جانب الاتحاد السوفياتي في متحف التاريخ؟ وهل يمكن القيصر بعد ذلك ان يجنب بيلاروسيا او الشيشان وداغستان مصيراً مشابهاً لمصير اوكرانيا؟
وقبل ان تشن مقاتلاته الجوية غاراتها في سوريا، وبعدما حطت سفنه في موانىء البحر الاسود، بلغت شعبية عميل الاستخبارات السابق، بين الروس رقما لم يبلغه على الارجح أي من القياصرة السابقين. المواطن الروسي تعنيه استعادة روسيا مكانتها وجبروتها قبل الخبز احياناً. يعوّض بوتين بالسياسة ما يخسره شعبياً بالاقتصاد. ولا شك في ان العداء للغرب قد خدم مصلحة القيصر في الداخل، ذلك ان شريحة واسعة من الروس تعتبر أنه لو كان بوتين سيئاً لروسيا لما تعرّض لمثل هذا الهجوم، وفي رأيهم، فإنه “كلما احتدم العداء له واصلنا طريقنا نحو مستقبل أكثر إشراقاً. إنه أمر طبيعي أن يتعرّض الرئيس الروسي الناجح لمثل هذه الهجمات”.

صحيح ان العسكرة الروسية محفوفة بالمخاطر. لكن روسيا التي لا تزال تئن تحت وطأة التجربة الافغانية المرة، لا بد وانها حسبت الف حساب قبل التورط. خطوتها الجريئة غيرت بسرعة قواعد اللعبة في الشرق ومن شأنها ايضا ان تحقق توازناً مفقوداً في العلاقات الدولية أو حافزاً للبحث عن حل سياسي للازمة السورية بعدما تحولت ازمة لاجئين بمضمون انساني. وهذا تماماً ما سيكون الطبق الرئيسي في اللقاء مع جو بايدن في جنيف. صحيح ان أية تسوية محتملة لا تنقذ الشعب السوري من براثن سياسة المحاور الدولية، التي لا تعبد طرقها الا على الجثث والقبور، لكنها تبقى أرحم من نار حرب لا يعرف أحد ماذا تخبىء من كوارث.

يصنف نفسه كصاحب قضية، تتمثل بأن يعيد إلى روسيا عظمتها ويضع حدًا للتأثيرات الأجنبية. ويرى أن ما خسرته روسيا حقيقة بسقوط الاتحاد السوفياتي هما النفوذ والقوة وليست الشيوعية بعينها، وبالنسبة له لا يهم أن تكون روسيا قيصرية أو سوفياتية، متدينة أو ملحدة، المهم أن تكون قوية موحدة، ودائما تحت السيطرة

قبل عشرين عاما، لو سألت مواطناً روسيا عما إذا كان بوتين سيصير الزعيم الروسي الأطول حكماً منذ عهد جوزف ستالين، لكان من المرجح أن يكون الرد إما صمتاً مطبقاً أو ضحكاً صاخباً. والسؤال الذي يطرح اليوم لو اختار بوريس يلتسين خلفاً له في العام 1999، شخصية مثل نائب رئيس الوزراء بوريس نيمتسوف الذي اغتيل لاحقا، أو اي شخصية اخرى محل بوتين، ماذا كان حل بروسيا، وهل كان وضع هذا البلد افضل مما هو عليه اليوم؟
لقد طرح بوتين على العالم واقعاً جديداً تتشابك فيه قوى مختلفة، لكن ورغم شهرته الواسعة في الداخل والخارج، فإن منتقديه يؤكدون أنه لا يوجد اليوم الكثير للاحتفال به في روسيا في عهده. هو الذي يوصف بانه سلطوي، اوتوقراطي، مناهض للحريات، مناهض للديموقراطية على النمط الغربي، يرفض الليبرالية والتعددية ويروج للأفكار المحافظة والأرثوذكسية والقومية. لكن كل هذا الجدل المثار حول شخصه ونزعاته المحافظة أو العدوانية لا يحجب عنه تميزه، فهو استطاع تجاوز نقاط الضعف الداخلية في روسيا، ليعزز مكانة البلاد العالمية ويجعلها لاعباً دولياً أساسياً.
يعتقد بوتين ان الغرب يريد إبقاء روسيا في الصف الخلفي، وإطالة أمد الإهانة التي مثلها سقوط الاتحاد السوفياتي والأزمة الاقتصادية والسنوات الأخيرة لبوريس يلتسين المدمن على الكحول. وفي المقابل، يصنف نفسه كصاحب قضية، تتمثل بأن يعيد إلى روسيا عظمتها ويضع حدًا للتأثيرات الأجنبية. ويرى أن ما خسرته روسيا حقيقة بسقوط الاتحاد السوفياتي هما النفوذ والقوة وليست الشيوعية بعينها، وبالنسبة له لا يهم أن تكون روسيا قيصرية أو سوفياتية، متدينة أو ملحدة، المهم أن تكون قوية موحدة، ودائما تحت السيطرة.
خسرت روسيا كثيرا بسقوط الاتحاد السوفياتي، وعلى رأس ما خسرته عدم امتلاكها أيديولوجيا قوية توحد مواطنيها في الداخل وتبشّر بها في الخارج، وأتى الحل في توليفة تجمع بين القومية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية، تحت رعاية كل من الدولة والكنيسة. فمن ناحية، تستعيد الكنيسة دورها الرمزي المفقود إبان حكم السوفيات، وفي المقلب الآخر توفر التوليفة الجديدة لبوتين أيديولوجيا قوية موحِدة، وفي الوقت نفسه قابلة للإخضاع والسيطرة، وبدا أنها كانت صفقة ذكية ورابحة للطرفين.
بوتين الذي اظهر في سني حكمه انه لا يحب الخسارة، يُمتحَن اليوم وغدا، كما بالأمس، في داخل البيت الروسي، وعند عتبة البيت في اوكرانيا والقوقاز وبيلاروسيا، وفي المياه الدافئة على الشواطىء السورية والليبية للبحر المتوسط، ومن جديد في قلب افريقيا الحارة. وهو حتماً لن ينسحب من أي نزال يُعتبَر تحدياً وجوديا له ولروسيا الكبرى. لكن الطموح السياسي الكبير يحتاج إلى محرك اقتصادي اكبر، لا يبدو متوفراً الآن، ولا بعد حين.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ليس بالباخرة أو المؤتمرات يحيا لبنان
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مغامرة أبيي في تيغراي.. هل تبقى إثيوبيا موحدة؟