راقب البعض منا باهتمام الأجواء التى عقدت فيها هذه المؤتمرات مزودا بمعلومات أو تحليلات عن خلفيات قضايا معروضة سرا أو علنا على القادة المجتمعين. لم تفاجئنا، نعم وأنا من هذا البعض، المسارات أو وقفات التصعيد الخطابى والتسامح العلنى التى اختارها الرئيس الأمريكى جو بايدن وزملاء له مشاركون فى هذه القمم. لم يكن خافيا مثلا أن عددا من مواقف الوفود الأمريكية إلى هذه القمم خرجت من الولايات المتحدة متأثرة إلى أقصى حد ممكن بآثار الانسحابات المتكررة، والمهينة جدا، للولايات المتحدة من حرب فى فيتنام وحرب غير متعادلة فى شبه جزيرة كوريا، ومن حرب فاشلة توشك أن تنتهى فى أفغانستان ومن حرب مشبوهة الأصل دمرت العراق ولم تغادر، ومن أشباه حرب عديدة ومتفرقة فى نيكاراجوا وكولومبيا وجرانادا لم تسفر أى منها عن نتائج حاسمة أو مشرفة وأغلبها كان من تخطيط وتنفيذ أجهزة فى الإدارة الأمريكية من خارج المؤسسة العسكرية. الانسحاب الأشد مهانة كان نتيجة سلسلة حروب غامضة الأطراف والأهداف والنتائج اجتمعت تحت عنوان “الحرب العالمية ضد الإرهاب».
***
هناك فى النخب الأكاديمية الأجنبية من يعتقد، عن حق أحيانا، أن كثيرا من هذه التدخلات العسكرية الأمريكية حدثت بعد توقف الحرب الباردة التى نشبت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى. الإشارة ربما تحمل معنى ترابط واقعين؛ واقع توقف الحرب الباردة وواقع حرية العمل العسكرى الأمريكى فى ظل القطبية الأحادية التى آلت إلى أمريكا كثمرة من ثمار توقف الحرب الباردة، وتشغيلا للطاقة العسكرية الهائلة المتفرغة عن عملها «الأصلى والمبرر» كطرف فى حرب باردة بين القوتين الأعظم.
لم يغب عن الذهن السياسى الصينى أن أمريكا وقد تكون مفيدة فى هذه المرحلة الحساسة من مراحل الصعود ألا أنها سوف تصبح العقبة الأكبر فى يوم قريب
لذلك كان مثيرا للاهتمام الدولى الانشغال الرسمى الأمريكى بفكرة الحاجة إلى إعادة بناء القوات المسلحة بما يتناسب مع وضع دولى ناشئ. انتبهت النخبة الحاكمة فى أمريكا إلى حقيقة جديدة سوف تفرض وضعا مختلفا فى شرق آسيا وربما فى العالم بأسره. دفعت إلى هذا الانتباه كتابات صحفيين وأكاديميين وشهادات كبريات المصارف والشركات الأمريكية العاملة فى الصين عن النجاحات المتلاحقة فى برامج الإصلاح فى الصين منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضى. ساعد الصين على تحقيق هذه النجاحات عوامل عدة لا تتكرر فى التاريخ. منها مثلا أن القطبية الأحادية ثبتت دعائم مرحلة هامة فى السلم الأمريكى أثمرت فرصة نادرة للصين لتصعد نحو القمة فى هدوء، كما أنها أفرزت بدورها استقرارا ملفتا فى منطقة جنوب شرق آسيا ساهم كفرصة للصين لتبنى وتبدع. وباستثناء اشتباكات طفيفة على الحدود مع الهند عاشت الصين سلاما نموذجيا على حدودها المشتركة مع 18 دولة. لم يغب عن الذهن السياسى الصينى أن أمريكا وقد تكون مفيدة فى هذه المرحلة الحساسة من مراحل الصعود ألا أنها سوف تصبح العقبة الأكبر فى يوم قريب.
ثم جاء العام 2010 يمثل علامة تحول الانتباه الأمريكى إلى حقيقة أن الصين خطت خطوات واسعة ترشحها لوضع المنافس القوى والأوحد للولايات المتحدة خلال العقود التالية. اتضحت بدايات هذا الانتباه الرسمى من تركيز دونالد ترامب المرشح عن الحزب الجمهورى لمنصب الرئاسة على خطورة الصعود الصينى على سلامة ومصالح الولايات المتحدة، وفى عام 2016 خرج اشتون كارتر وزير الدفاع بتصريحات عن أهداف السياسة الخارجية الأمريكية جاء فيها أن هذه السياسة تمر فى مرحلة انتقال تعود بمقتضاها إلى سياسة خارجية لدولة عظمى تواجه تحديات حالة تنافسية بين القوى الأعظم، حالة كانت غائبة عن عالم القمة لأكثر من ربع قرن. ومن هذه النقطة تطورت أو تدهورت آراء المحللين إلى حد توقع الصدام الحتمى بين دولة صاعدة بإمكانات هائلة ودولة عظمى قائمة وقائدة فى مرحلة أخيرة من الأحادية القطبية. هنا ظهرت مفاهيم تشير إلى انطلاق مرحلة جديدة فى تطور علاقات القوة بين القوى الكبرى ومنها إطلاق مفهوم الاستراتيجية التنافسية على طبيعة العلاقة الأمريكية الصينية فى هذه المرحلة.
***
شهدت هذه المرحلة الأخيرة فى الأحادية القطبية تطورات، على الأقل فكرية فى البداية، هدفها رفع مستوى القوات المسلحة الأمريكية بما يتناسب والصعود العسكرى الصينى. قرأنا عن رغبة فى تطوير شامل لجميع أفرع هذه القوات والأسلحة وسياسات التدخل العسكرى، مثلا دعت كاتبة أمريكية إلى انتهاج سياسة تتفادى الانحشار والامتناع عن الوقوع فيما أطلقت عليه إغراءات الانغماس فى حروب صغيرة. هناك أيضا دعوات بالامتناع عن مسايرة دول صديقة تسعى للدخول فى حروب لا مصلحة لأمريكا فيها، وأن تكون القضايا وليس الدول هى محل الاهتمام فى اتخاذ قرارات التدخل. من ناحية أخرى ظهر من يعرض فكرة استغناء أمريكا المتدرج عن الأحلاف الكبرى والثابتة والاكتفاء بتحالفات ثنائية مرنة.
المهم فى هذا الصدد وفى غيره أن التطورات الأوروبية اللاحقة للقمم كشفت عن أن عودة أمريكا لم تؤدِ حتما وبالضرورة إلى صنع إجماع غربى على الموقف من كل من الصين وروسيا ومنهما معا مجتمعين أو متحالفين
الأهم، من وجهة نظرى، هو تنبه النخبة السياسية الأمريكية إلى الفجوة المتزايدة الاتساع بين المدنى والعسكرى فى النظام السياسى الأمريكى وهو أمر له خطورة فائقة على برامج التخطيط والتطوير فى عصر التحول نحو استخدام تكنولوجيات حديثة من نوع الذكاء الاصطناعى فى الحروب والتجسس. بدت الحاجة شديدة إلى تدخل أجهزة الأمن والدفاع لحمل مختلف شركات التكنولوجيا على التنسيق والتخطيط المشترك فيما بينها وفيما بينها وبين أجهزة ومؤسسات الدولة المتخصصة فى شئون الأمن. المثال البارز دعوة القوات الجوية إلى الدخول شريكا للشركات الكبرى فى إنتاج التكنولوجيا المتطورة، ويقدر عددها بحوالى 2300 شركة. هذه الأفكار والمشروعات تشير إلى تطور له أهميته البالغة على مستقبل المنافسة أو الصدام بين أمريكا والصين، لاحظنا فى هذا الشأن كما فى شئون أخرى أن الدولتين الأعظم، أمريكا والصين، إن صح تسميتها بدولة أعظم، يتقاربان تدريجيا فى السلوك مثل اتباع نهج وأساليب معينة فى إدارة مجتمع ما بعد الصناعة، مجتمع الإنتاج السيبرانى. يتقاربان أيضا فى الموقف من دعم الدول النامية ودعوة الدول الحليفة وغير الحليفة لتقديم معونات تساعد على إقامة أو تطوير البنى التحتية. يتقاربان كذلك فى موضوع العلاقة بين القطاع الخاص والقطاع العام وتيسير عمليات انتقال الشركات من قطاع إلى الآخر. شيئا فشيئا يزداد تدخل الحكومتين فى الشئون الاقتصادية وبخاصة بعد أن تعددت إجراءات فرض العقوبات التجارية والمصرفية على الخصوم فى النزاعات الدولية، وبعد أن أصبح التنافس على احتلال الفضاء والمنطقة القطبية سياسة مقررة فى علاقات الدول العظمى وفى علاقات الدولة بالقطاع الخاص وبخاصة القطاع المتخصص فى التطوير التكنولوجى.
***
نجحت القمم الأخيرة فى تهدئة مخاوف الدول الأوروبية من سياسات التهور والمفاجآت التى أنتجتها أمريكا فى عهد ترامب. ومع ذلك بقى فى النفس الأوروبية كثير من القلق من احتمال عودة ترامب أو أمثاله. تردد أيضا أن هذه القمم حاولت تبنى توافق بين دول الغرب حول ضرورة السعى لاختطاف روسيا من براثن صينية محتملة فى الحاضر أو المستقبل. المهم فى هذا الصدد وفى غيره أن التطورات الأوروبية اللاحقة للقمم كشفت عن أن عودة أمريكا لم تؤد حتما وبالضرورة إلى صنع إجماع غربى على الموقف من كل من الصين وروسيا ومنهما معا مجتمعين أو متحالفين. الواضح حتى الآن هو أن أوروبا، ولا تزال تمثل فى رأيى، القلب النابض للنظام الدولى الراهن أو حتى النظام الدولى الجارى التكون، هى أوروبا التى عرفها العالم منذ أسهمت فى صنع عالم الدول، قارة تغلى بالانقسامات بين دولها وداخل كل دولة أوروبية على حدة. أذكر على سبيل المثال المحاولة الفاشلة والهامة جدا من جانب السيدة ميركل والسيد ماكرون لإقناع قادة الدول الأصغر فى الاتحاد الأوروبى بأهمية دعوة الرئيس بوتين لحضور اجتماع لقادة الاتحاد.
***
لا أبالغ أو أتجاوز حين أقول أن أمل نهوض الغرب من كبوته معقود الآن وخلال العقدين القادمين على النجاح فى إعادة بناء مؤسساته وفى صدارتها المؤسسة الأمريكية على أسس جديدة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“