تطرقت إلى مؤشرات الخلاف في مقالة منشورة في شباط/فبراير الماضي، إثر مبادرة الرياض إلى وضع نفسها على سكة حل خلافاتها مع الدوحة واعادة العلاقات الديبلوماسية التي قطعت لنحو اربع سنوات معها، وهذا الأمر لم يحظَ برضى اماراتي لا سيما بعد الاستقبال الودي والحافل الذي خص به ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ضيفه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال حضوره القمة الخليجية التي استضافتها المملكة بمنطقة العلا.
صُدمت ابو ظبي بالمصالحة السعودية مع قطر لا سيما ان المملكة طلبت من بقية حلفائها المقاطعين للدوحة (الامارات، مصر والبحرين) الإقتداء بها، فاستجابت مصر ولم تستجب الامارات والبحرين.
كان متوقعاً ان يحدث الفراق السعودي مع دولة الامارات منذ سقوط الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الاميركية وفوز جو بايدن بها في تشرين الثاني/نوفمبر 2020. ثمة شراكة وثيقة بين ترامب (وصهره جاريد كوشنير) وبين ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، وهي شراكة وضعها الأخير بتصرف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تسهيلاً لوصوله إلى ولاية العهد بعد الاطاحة بولي العهد السابق الامير محمد بن نايف الذي كان مدعوماً اميركياً، لا بل كان يجري تصويره بأنه “رجل أميركا الأول في المنطقة”.
وبرغم “أوجاع الراس” التي كانت تُسببها أبو ظبي للرياض – خلال “سنوات العز” بينهما ـ الا ان السعودية بقيت متمسكة بعلاقتها “الخاصة” مع الامارات. في تلك الحقبة، لم يكن السعوديون مرتاحين للكثير من السياسات الاماراتية لا سيما في اليمن، وهم إستشعروا أن ابو ظبي ورّطتهم في الازمة مع قطر، وهذا اثّر سلبا على الرياض وعلى دورها القيادي في مجلس التعاون الخليجي كما ورّطها في معارك اعلامية وسياسية خاسرة. كذلك اخذ السعوديون يشعرون ان ابو ظبي قامت بجرهم خلفها في عدائها المستحكم للاخوان المسلمين لا سيما في اليمن، وكذلك ورطتهم ابو ظبي وبشكل اقل في الازمة الليبية والحرب الاهلية الدائرة هناك.
بلغ الاستياء السعودي ذروته بسبب سلوك دولة الامارات في حرب اليمن. كانت أبو ظبي تؤيد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قبيل مقتله على يد الحوثيين، كما عطلت ابو ظبي فرصة تحقيق انتصار عسكري لقوات الحكومة اليمنية الشرعية في مدينة تعز من اجل قطع الطريق على انتصار يستثمره حزب الاصلاح اليمني الاخواني كونه يتمتع بتواجد عسكري بارز في منطقة تعز. أيضاً دعمت الإمارات ولا تزال مجلس التنسيق اليمني الجنوبي الذي يدعو لانفصال شطري اليمن والذي منع لسنوات عودة الحكومة الشرعية الى عدن. كما سعت الامارات للسيطرة عسكريا وجغرافيا على جزيرة سقطرى وبعض الجزر اليمنية الصغيرة المتحكمة بمضيق باب المندب ولكن السعوديين حالوا دون سيطرة الامارات عليها.
وبرغم ان ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد كان يحرص على اظهار انه حليف استراتيجي سياسي وعسكري للسعودية الا ان السعوديين كانوا يشعرون ان الشيخ بن زايد يسعى ضمناً لكي يكون صاحب أدوار بارزة خليجياً وعربياً، على حساب المملكة ومصر، ولكن الرياض كتمت مشاعرها هذه، مقابل إستثمار علاقة بن زايد ـ ترامب الذي تجاوب مع طلبات إسرائيل والسعودية بالإنقلاب على الإتفاق النووي في العام 2018.
حقيقة الأمر أن حقبة ترامب في البيت الابيض إنتهت، وإنتفت حاجة السعودية لجسر التواصل الذي كان يؤمنه ولي عهد ابوظبي مع ترامب، بل انها اصبحت بحاجة الى دور قطر لاقامة علاقة مستقرة لأربع سنوات مع الادارة الاميركية الديموقراطية الجديدة. لذا بدأت الخلافات بالظهور إلى السطح وبدأ الافتراق السعودي عن ابوظبي يتوالى فصولاً، ولذا لاحظنا انه خلال الاشهر الثمانية الاخيرة تراجعت الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين وكانت الزيارة الوحيدة هي التي قام بها ولي عهد ابوظبي للسعودية في شهر ايار/مايو الماضي.
حقبة ترامب في البيت الابيض إنتهت، وإنتفت حاجة السعودية لجسر التواصل الذي كان يؤمنه ولي عهد ابوظبي مع ترامب، بل انها اصبحت بحاجة الى دور قطر لاقامة علاقة مستقرة لأربع سنوات مع الادارة الاميركية الديموقراطية الجديدة
ماذا على صعيد الخلاف النفطي؟
في العام 2019 وافقت الإمارات على اتفاقية (اوبك+) لتحديد حصص الانتاج النفطي وعلى تخفيض حصتها. الآن، قررت أبو ظبي أن ترفض ذلك وأن تطالب برفع حصتها في الزيادات المقترحة على كميات الانتاج البترولي لدول “اوبك+”. هذا الموقف الاماراتي المفاجىء جاء بعد إستشعار أبو ظبي أن هناك محاولة سعودية لمعاقبتها اقتصادياً بسبب عدم تجاوبها مع طلب الرياض اعادة علاقاتها مع قطر.
وبالفعل، بدأت الرياض بالتضييق على الامارات منذ شهر شباط/فبراير الماضي حين اتخذت قرارا بمنع المسافرين القادمين من دولة الامارات من دخول المملكة بحجة انتشار مرض كوفيدـ19 في الامارات. ترافق ذلك مع قرار سعودي بعدم السماح باعطاء مشاريع وعقود للشركات الاجنبية التي لا تقيم لها مكاتب اقليمية في المملكة، وفي هذا ضربة كبيرة لامارة دبي التي تحولت منذ سنوات عديدة مقرا للمكاتب الاقليمية للشركات العالمية العاملة في السعودية، وهذان القراران يؤديان إلى انتقال الالاف من موظفي وعائلات هذه الشركات إلى السعودية وبالتالي ستفقد دبي مصدراً هاماً للدخل.
واللافت للإنتباه أن السعودية إتخذت سلسلة قرارات بتعديل قواعد الاستيراد من دول مجلس التعاون الخليجي، وكان المقصود بهذه القرارات بشكل خاص دولة الامارات التي يقوم اقتصادها على اعادة التصدير الى المملكة ودول مجلس التعاون.
ومن المعروف ان الكثير من الواردات الآتية إلى الامارات يعاد تصديرها للسعودية بعد ان يتم تغيير شهادة المنشأ او دولة الصنع ويكتب عليها انها صناعة اماراتية.
وقد لمست السعودية مؤخراً ان الكثير من الشركات الاسرائيلية إتخذت من الامارات مركزاً لاعادة تصدير منتجاتها الى المملكة ودول الخليج الاخرى، وان هناك العشرات من المستثمرين الاسرائيليين اخذوا يعملون على اقامة الاستثمارات المالية والصناعية في الامارات بهدف التصدير للسعودية وبقية دول الخليج وان الامارات تغض الطرف عن عمليات غسيل الاموال الاسرائيلية التي تقدر بمليارات الدولارات.
بالاضافة الى ذلك، فان السعودية غير مرتاحة للاندفاعة الاماراتية لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، وهو الأمر الذي بدأ يثير مخاوف الرياض من ان تتحول الامارات الى قاعدة استثمارية وامنية لاسرائيل في المنطقة الخليجية على حساب دول الخليج نفسها.
صحيح ان السعودية غضت الطرف عن اتفاق تطبيع العلاقات الاماراتية والبحرينية مع الكيان العبري، وصحيح انه بدأت تعلو اصوات في السعودية تدعو للتطبيع مع العدو، ولكن كما ذكر مصدر سياسي في الرياض، وجدت السعودية “ان هذا التطبيع لم يؤد الى تجاوب اسرائيل مع السلام المنشود ومع دعوات ايجاد حل للقضية الفلسطينية، لذا استعادت السعودية مواقفها المؤيدة للفلسطينيين وقضيتهم وتراجعت الأصوات السعودية الداعية للتطبيع”.
من سيتضرر أكثر؟
لن يكون الفراق السعودي مع الامارات لمصلحة الأخيرة التي يلاحظ انها تحاول العمل على استيعاب الحقائق المرة، آملة الا يصل ذلك الفراق الى حد الطلاق لا سيما انه اذا تشكل تحالف خليجي يضم السعودية وقطر والكويت وسلطنة عمان التي جميعها ليست لها علاقات ودية مع ابوظبي وولي عهدها، وتكامل مع أدوار بلدان عربية أخرى، شرقاً وغرباً، يمكن أن يؤثر ذلك على دور الإمارات ونفوذها.. لا بل يمكن أن يؤدي إلى نهاية “الأسطورة الإماراتية”!
وعدا عن موقف قطر والكويت المعروف، فإن العلاقات بين الإمارات وسلطنة عُمان فاترة جداً ان لم نقل متردية منذ سنوات عديدة. ويلاحظ في هذا الصدد ان السلطنة اعلنت عن زيارة سيقوم بها سلطانها هيثم بن طارق للسعودية الاحد المقبل، وهي اول زيارة له خارج السلطنة منذ ان تولى الحكم قبل نحو عام ونصف، ولا شك ان موعد الزيارة السلطانية للسعودية يأتي في الوقت الذي اخذ الافتراق السعودي عن الامارات يظهر للعلن، برغم ان احد اهداف الزيارة هو البحث في مسالة ايجاد حل للحرب في اليمن.
ثمة أسئلة كثيرة حول كيفية تصرف الامارات امام هذا الافتراق السعودي عنها وامام العقوبات السعودية عليها، وهل ستلجأ أبو ظبي لعمليات استقطاب في الساحات العربية ـ ومنها لبنان بطبيعة الحال ـ للرد على السعودية، أم ستعيد أبو ظبي تشكيل تحالفاتها في المنطقة وتستعيض عن التحالف مع السعودية بتعميق تحالفها مع تل أبيب؟