بريطانيا في اليمن.. تاجر سلاح

على المجتمع الدولي توجيه رسالة إلى بريطانيا: إما التوقف عن بيع الأسلحة للسعوديين، أو التخلي عن دور "حامل القلم" للأمم المتحدة في اليمن. الجمع بين الاثنين أمر غير أخلاقي وخاطئ وخيانة لكل ما تدعي بريطانيا أنها تمثله على المسرح الدولي.

بهذه العبارة يختم الصحافي البريطاني المخضرم بيتر أوبورن (*) مقالة له في موقع “ميدل إيست آي” (**)، بعنوان “حرب اليمن: بريطانيا تخفض مساعداتها الإنسانية إلى النصف وتواصل بيع السعوديين أسلحة بمليارات الجنيهات”. ماذا تضمنت مقالة أوبورن؟

“أكثر من ست سنوات مرت منذ أن شكّلت المملكة العربية السعودية تحالفها مع دول عربية لمهاجمة اليمن. ومنذ ذلك الحين، لقي أكثر من 230 ألف شخص حتفهم، وهناك 24 مليوناً بحاجة إلى مساعدات إنسانية وأكثر من 13 مليوناً على شفا المجاعة.

تقول الأمم المتحدة إن اليمن أصبح يشكل اليوم “أكبر أزمة إنسانية في العالم”. وفي حين أن هناك العديد من المسببات التي تقف وراء هذه الأزمة والمعاناة، إلا أن أكثر هذه الأسباب وضوحاً وتدميراً هو عمليات القصف التي تقودها السعودية ضد المدن والقرى والبنى التحتية والمستشفيات والأسواق في اليمن.

منذ البداية، صدقت الحكومة البريطانية على هذه الهجمات القاتلة. فعندما أعلن الملك سلمان بن عبد العزيز الحرب على اليمن في آذار/مارس 2015، سارعت حكومة ديفيد كاميرون لمساندة هذا القرار، وأعلن وزير الخارجية آنذاك فيليب هاموند أن بريطانيا “ستدعم السعوديين بكل الطرق العملية، باستثناء الإنخراط في القتال”.

وعلى الرغم من وجود “جبل” من الأدلة على وقوع جرائم حرب أُرتكبت في اليمن، تصر بريطانيا على التأكيد مراراً وتكراراً أنه لا يوجد دليل جاد يثبت أن السعوديين قد انتهكوا القانون الإنساني الدولي في اليمن. في الواقع، كانت بريطانيا في طليعة من قدم الحماية الدبلوماسية للسعوديين، مما عرقل، وبشكل حاسم، مبادرة كندية هولندية لإجراء تحقيق مستقل في كل جرائم الحرب التي تُرتكب ومن قبل جميع الأطراف.

أوبورن: اكتشفت في اليمن أدلة لا جدال فيها تؤكد أن “التحالف” الذي تقوده السعودية، وبدعم من المملكة المتحدة، كان يستهدف المدنيين اليمنيين، وذلك في انتهاك صارخ لقواعد الحرب

فلماذا كانت بريطانيا، التي تتفاخر باستمرار بدعمها لحقوق الإنسان، مستعدة لتحمل مثل هذا الضرر لمصداقيتها الدولية من خلال دعمها غير المشروط للمملكة العربية السعودية في هذا الصراع الدامي؟

أحد الأسباب القوية هو مبيعات الأسلحة: لدينا الآن أدلة جديدة عن كيف أنه عندما يتعلق الأمر باليمن يصبح تجار الأسلحة على ارتباط وثيق جداً بالآلة الدبلوماسية العسكرية البريطانية.

الإجتماع السرّي

في شهر حزيران/يونيو الماضي، نشر موقع Declassified UK الجديد المثير للإعجاب وثائق (رُفعت عنها السرّية) بشأن تفاصيل اجتماع سرّي عقد بين مدير شركة أسلحة كبرى ووزيري الدفاع والخارجية البريطانيين في كانون الثاني/يناير 2016، أي خلال ذروة قصف المملكة العربية السعودية لليمن.

على ما يبدو، لا يوجد سجلٌ رسميٌ يسرد ما تمت مناقشته في ذاك الاجتماع، الذي حضره وزير مشتريات الدفاع آنذاك فيليب ديون ووزير الخارجية آنذاك توبياس إلوود. وفقاً لموقع Declassified ، لم يعلن أي من الوزراء عن الجلسة (الإجتماع السرّي) في سجلات الشفافية الإدارية المتعلقة بالاجتماعات الخارجية، حيث يُطلب من الوزراء تسجيل الاتصالات التي يجرونها مع تجار الأسلحة.

والجدير ذكره هنا، أن خبر الإجتماع لم يكن ليخرج إلى النور أبداً لولا “يوميات” آلان دُنكان، الوزير السابق عن حزب المحافظين الذي استقال في الانتخابات الأخيرة، وهي المذكرات التي نُشرت مؤخراً. يقول دُنكان في يومياته إن “الإجتماع” نظمته “اللجنة الاستشارية الخليجية” في وزارة الدفاع البريطانية لمناقشة أسعار النفط وأيضاً لمناقشة الزيارات المستقبلية إلى السعودية من قبل رئيس الوزراء آنذاك (كاميرون) وآخرين.

يقول موقع Declassified إن الوزراء نفوا في البداية وجود اللجنة، لكنهم أقروا لاحقاً بوجود “مجموعة استشارية خليجية”. ومع ذلك، تؤكد الحكومة البريطانية أنه لا توجد سجلات لمحضر اجتماع عام 2016. لقد أقرت بأن ريتشارد بانيجيان، الذي كان وقتها مديراً في شركة الأسلحة الأميركية “رايثيون” Raytheon، قد تمت دعوته إلى الاجتماع، لكن “ليس لدينا سجلات لمحضر الإجتماع، وبالتالي لا يمكننا تأكيد الحضور”.

يجب أن نأخذ كلام الوزراء بأنه لا يوجد محضر لهذا الاجتماع بعين الإعتبار. ومع ذلك، فإن وجود ريتشارد بانيجيان يُؤكد مدى أهمية مبيعات الأسلحة بالنسبة للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط، وهذا أمر مقلق.

أوبورن: شاهدت منازل اليمنيين تتعرض للتدمير بلا رحمة، بينما كان الأطباء يخبرونني كيف أن الحصار الذي تفرضه الأمم المتحدة على اليمن يمنع الأدوية الحيوية والمعدات الطبية من الوصول إلى البلاد

خرق قواعد الحرب

بعد ستة أشهر من ذلك الإجتماع، سافرت إلى اليمن كموفد عن موقع Middle East Eye، واكتشفت أدلة لا جدال فيها تؤكد أن “التحالف” الذي تقوده السعودية، وبدعم من المملكة المتحدة، كان يستهدف المدنيين اليمنيين، وذلك في انتهاك صارخ لقواعد الحرب. كما شاهدت منازل اليمنيين تتعرض للتدمير بلا رحمة، بينما كان الأطباء يخبرونني كيف أن الحصار الذي تفرضه الأمم المتحدة على اليمن يمنع الأدوية الحيوية والمعدات الطبية من الوصول إلى البلاد.

إقرأ على موقع 180  "المارونية السياسية": زمن يتوارى.. زمن لا يأتي (5)

هذا الوضع تفاقم خصوصاً في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي كان يبدي تسامحاً مع ما يحصل. لكن هناك أدلة قوية على أن المزاج الدولي بدأ يتغير متأخراً. كانت إحدى أولى الخطوات التي اتخذها الرئيس الأميركي جو بايدن بعد تنصيبه هي وقف مبيعات جميع الأسلحة إلى السعودية، والتي يمكن استخدامها في “عمليات هجومية”. كما أوقفت دول أخرى، مثل إيطاليا وألمانيا، مبيعاتها من الأسلحة.

مع ذلك، وحتى يومنا هذا، تواصل الحكومة البريطانية تصدير الأسلحة ودعم المملكة العربية السعودية.

ثمة تناقض هنا. فعندما صدقت بريطانيا على معاهدة تجارة الأسلحة في عام 2014، أصرت على أنه لا ينبغي بيع أسلحة إلى أي دولة في حال وجود مخاطرة في أن استخدام هذه الأسلحة سيتعارض مع القانون الإنساني الدولي. لكن هناك أدلة كثيرة على أن هذا ما يفعله السعوديون في اليمن، كما يُوضح قرار إدارة بايدن (وقف مبيعات الأسلحة للرياض) – حتى لو لم تعترف بريطانيا بذلك.

تناقض مقلق

في غضون ذلك، تستمر الحرب على اليمن، مسببة بؤساً لا يُوصف. فمع تصاعد معدل الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية الحادّ في خضم جائحة كورونا العالمية، فإن توقعات الأمم المتحدة لعام 2021 لليمن مفزعة. أكثر من 400 ألف طفل دون سن الخامسة باتوا معرضين بشدة لخطر الموت جوعاً، وهناك 1.2 مليون امرأة حامل أو مُرضعة و2.3 مليون طفل دون سن الخامسة باتوا مهددين لأن يكونوا ضحايا سوء التغذية.

إذا كان المجتمع الدولي يريد حقاً السلام في اليمن، فقد حان الوقت لإرسال رسالة إلى بريطانيا: إما التوقف عن بيع الأسلحة للسعوديين، أو التخلي عن دور “حامل القلم” لليمن

وفي حين أعلنت بريطانيا أنها ستخفض مساعداتها الإنسانية لليمن في 2021 – 2022 إلى أكثر من النصف، فإنها تواصل مبيعات الأسلحة بمليارات الجنيهات. ومؤخراً، اتهمت منظمة أوكسفام (اتحاد دولي للمنظمات الخيرية) الحكومة البريطانية بإطالة حرب اليمن من خلال السماح بتصدير معدات إعادة التزود بالوقود جواً والتي يمكن استخدامها لمساعدة السعوديين في عمليات القصف العشوائي.

هناك تناقض مقلق للغاية هنا. منذ اندلاع الصراع في اليمن، لعبت بريطانيا دور “حامل القلم” لليمن في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (أي من يبادر ويترأس الصياغة غير الرسمية لقرارات المجلس). وزير الشرق الأوسط جيمس كليفرلي تفاخر مؤخراً بهذا الأمر خلال جلسة للبرلمان البريطاني، قائلاً إن بريطانيا استخدمت هذا الدور “للمساعدة في دفع عملية السلام في اليمن إلى الأمام، والعمل مع شركائنا وحلفائنا في الأمم المتحدة لضمان بقاء اليمن على رأس أولويات المجتمع الدولي”.

لكن بريطانيا لديها تضارب كبير في المصالح. فهي من ناحية، تلعب دوراً في بناء السياسة في اليمن من خلال استغلالها للحرب الدائرة هناك في سبيل إنعاش تجارتها بالأسلحة، كما يكشف ويؤكد بشكل حاسم موقع Declassified. ومن ناحية أخرى، وبصفتها “حامل القلم” لليمن، تلعب بريطانيا دوراً مركزياً ومحورياً داخل الأمم المتحدة من أجل الدفع بعملية السلام.

إذا كان المجتمع الدولي يريد حقاً السلام في اليمن، فقد حان الوقت لإرسال رسالة إلى بريطانيا: إما التوقف عن بيع الأسلحة للسعوديين، أو التخلي عن دور “حامل القلم” لليمن. إن الجمع بين الاثنين أمر غير أخلاقي وخاطئ وخيانة لكل ما تدعي بريطانيا أنها تمثله على المسرح الدولي”.

(*) صحافي بريطاني مخضرم عمل في التلغراف البريطانية لسنوات طويلة واستقال منها في بدايات 2015. نُشر له في شباط/فبراير 2021 كتاب The Assault on Truth (اغتصاب الحقيقة). وتشمل مؤلفاته السابقة: The Triumph of the Political Class (انتصار الطبقة السياسية)، و The Rise of Political Lying (صعود الكذب السياسي)، و Why the West is Wrong about Nuclear Iran (لماذا يكون الغرب مخطئًا بشأن إيران النووية).

(* *) النص مترجم عن “ميدل إيست آي

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "واشنطن بوست": بن سلمان ينجو وبايدن "يحتضنه" قريباً