نشرتَ في الأونة الأخيرة كتابا بعنوان “الهوية والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة”، وقد أثار اهتماما كبيراً، وطبع مرتين خلال فترة قصيرة، كيف يمكن أن تسلّط الضوء على الأزمتين الرئيستين اللتين يعاني منهما العراق، ونقصد أزمة الهوّية العراقيّة وأزمة المواطنة؟ وهل من الممكن أن نجد حلاً لهاتين الأزمتين في المستقبل المنظور أم أنهما مستمرتان لحين وصول العراق إلى حالة من الفوضى العارمة التي يغرق فيها؟
تصدّعت الهوّية الجامعة بفعل عوامل عديدة تراكمت مع مرور الزمن، خصوصاً أنها شهدت نمطاً من العسف والاستبداد وعدم الاعتراف بالهوّيات الفرعيّة، ناهيك عن محاولات التسيّد وفرض الاستتباع، الأمر الذي ولّد ردود فعل شديدة للتفلت من الهيمنة والتهميش من جهة، ومحاولة الانبعاث والتمسك بالخصوصية إلى درجة الانعزال أحياناً من جهة ثانية. وفي كلتا الحالتين – والمقصود الهيمنة أو ضيق الأفق والإغلاق – كانا قد أضعفا الشعور بالانتماء المشترك إلى هوّية موّحدة ومواطنة فاعلة ومتكافئة.
والهوّية تقوم بالأساس على الثقافة واللغة والتاريخ المشترك وأحيانا الجغرافيا، أيّ العيش في مكان جامع، فإذا كان ذلك ما يجمع عرب العراق، فإنه هو ذاته ما يجمع كرد العراق أيضاً، الأمر الذي يقتضي المساواة في إطار العيش معاً وفي ظل مواطنة موّحدة، مع احترام الخصوصيات الإثنية واللغوية والسلالية والدينية وغيرها وكل ما يتعلق بخصائص المجموعات الثقافية وهوّياتها وتراثها وعاداتها وتقاليدها وآدابها وفنونها، ناهيك عن حقوقها المشروعة والعادلة.
إن التصدّع الذي أصاب الهوّية الموّحدة في ظل نظام الاستبداد والتمييز ألحق أضراراً خاصة بالهوّيات الفرعيّة، لا سيّما محاولات تهميشها أو الانتقاص منها بزعم أنها “أقليات” وقد إنعكس ذلك كرد فعل سلبي وغير عقلاني على العملية السياسيّة التي قامت بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، والتي تمثّلت بتأسيس مجلس الحكم الإنتقالي الذي تكوّن من 25 عضواً، جرى تقسيمهم وفقاً لنظام محصصاتي طائفي إثنيّ حيث، مُنح فيه الأغلبية للشيعة (13 عضواً)، والمقصود الشيعية السياسية، و(5) للسنيّة السياسية، و(5) للكرد، و(1) للتركمان، و(1) للكلدوآشوريين. وجرى الأمر على هذا المنوال في إطار نظام أقيم على والزبائنية السياسية والمغانم الطائفية والإثنية.
وإنتهج الدستور الدائم الذي تم الإستفتاء عليه في إطار جدول أمريكي(15 تشرين الأول/أكتوبر 2005) ذات المنهج، وأجريت أول انتخابات على أساسه في (15 كانون الأول /ديسمبر) من العام نفسه، وكان الرئيس جورج دبليو بوش قد حدّد فترة انجازه إلى (15 آب /أغسطس من العام 2005) قبل هذا التاريخ، أقول إقتفى هذا الدستور ذات التوجه التقسيميّ باعتماده على مبدأ المكوّنات الذي جاء كصيغة تقسيميّة طبعت الدستور وحيثياته، إذ ورد مصطلح المكوّنات في المقدمة (مرتان) والمواد 9 و12 و49 و125 و142. وليس ذلك سوى بمثابة إعلان صريح وواضح عن صيغة محاصصة طائفية – إثنية بإطار قانونيّ، بحيث أصبح التشبث بالمكاسب الطائفية والإثنية والحزبية أمراً مقبولاً وعرفاً سائداً ومكرّساً بدستور، وذلك على حساب الهوّية العراقيّة الموّحدة. ناهيك عن الهويات الفرعيّة التي أخذت هي الأخرى تضيق على نفسها بسبب منافسات وإنقسامات حزبوية غير مشروعة في الكثير من الأحيان، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على عناصر المواطنة المتصدّعة أصلاً.
التصدّع بالهوّية العراقية الموّحدة ما زال سارياً
فالمواطنة تقوم على مبادىء الحريّة، ولا مواطنة حقيقيّة وفاعلة وحيوية دون حرّيات، والحرّيات ليست فوضى، بل احترام حقوق الآخر على قدَم المساواة وعدم التجاوز عليها بزعم الأغلبية أو الأفضليّة أو ادعاء امتلاك الحقيقة أو غير ذلك. كما تقوم المواطنة على مبدأ المساواة وستكون ناقصة وغير كاملة دون مساواة تامة وشاملة وقانونيّة وفي المجالات المختلفة. ولا مواطنة سليمة وفاعلة دون مساواة. كما أن التمييز وعدم المساواة يشوّه المواطنة ويعرّضها للتصدّع. والمواطنة تستوجب العدالة، ولا سيّما العدالة الاجتماعية، وستكون المواطنة ناقصة ومبتورة بغياب العدالة، علما أن المواطنة لا تستوي مع الفقر. وتفترض المواطنة عاملاً مهمّاً وأساسيّاً وهو الشراكة والمشاركة، والمقصود بالشراكة الوطن الواحد وعلى قدم المساواة والعدل والحرية، أما المشاركة فهي تعني الحق في توليّ الوظائف العليا دون تمييز بسبب اللون أو القوميّة أو اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو الاتجاه السياسيّ أو الخيار الفكري.
الخطوة الأولى لاستعادة الهوّية العراقيّة الموحدة والجامعة والمتسامحة والعادلة والمستقرة، تبدأ بإقرار صيغة قانونيّة لـ”المواطنة المتساوية” والمتكافئة، وذلك بإجراء تعديل شامل للدستور، واستبعاد صيغة التقاسم الطائفي – الإثنيّ التي اختبأت وراء مصطلح المكوّنات، والتي لا تعني سوى المُحاصصة التي كانت أحد أسباب فشل العملية السياسية. ولعل اقرار مبادىء المواطنة في دولة تعتمد قواعد الحق وحكم القانون دون أيّ تمييز ولأي سبب كان، سيكون أحد عوامل استعادة الهويّة العراقيّة الموّحدة في مجتمع متعدد الثقافات.
أرى من الصعوبة بمكان حاليّاً الوصول إلى صيغة مماثلة، كالتي نتحدّث عنها، في المدى المنظور، لعدم توّفر إرادة سياسية موّحدة، ولأن هناك قوى ومجموعات طائفية وإثنية مستفيدة من الصيغة الحاليّة، وعكسها ستخسر الكثير من مصادر نفوذها وقوّتها، ولذلك ستحاول التمّسك بصيغة المحاصصة وعرقلة أيّ جهد لإستعادة الدولة لأحد مصادر قوّتها الأساسيّة حتى لو ادعت أنها ضد نظام التقاسم الطائفي والإثني، إلا أنها تعمل ليل نهار على الإبقاء عليه. وأود هنا أن أشير إلى أن بعض مواد الدستور جامدة ويصعب تغييرها دون توافق سياسيّ مُسبق. وهذا كما أشرت صعب إن لم يكن مستحيلاً دون تغييرات جذرية وجوهرية تشمل إعادة النظر بمجمل النظام السياسيّ.
لا رجال دولة
في البداية نحن نتحدّث عن “رجل دولة” في العراق يكون قادراً على اتخاذ القرار.. هل توجد برأيك صفة “رجل دولة” ضمن إطار السياسيين العراقيين داخل العملية السياسية؟ وهل يفتقد العراق كبلد لمثل هذه المواهب مثل الدول الأخرى، وهو بلد الحضارات؟
كمراقب ومتابع للوضع السياسيّ في العراق، يصعب عليّ أن أتحدث عن “رجل دولة” أو “نساء دولة” في إطار ما نعرفه من مبادئ علم الإدارة الحديث، خصوصاً لمن يتولى المسؤوليّة لا سيّما السياسية في العراق. والذين إستلموا مقاليد الأمور بعد الإحتلال وبمساعدته لم يعملوا بمجملهم سابقاً في الدولة، ولم يتعرّفوا على دواوينها ونُظمها وطرائق عملها، ولم يتعلّموا خلال ذلك فترة وجودهم في السلطة، بل انغمسوا في الصراعات، ناهيك عن المنافسات والمناكفات والحصول على الإمتيازات والمغانم، ولم تكشف لنا تجربة الـ18عاماً عن شخصيات وازنة يمكن الإشارة إليها في هذا المجال، والأمر يعود بحسب وجهة نظريّ إلى عدد من الأسباب:
أولها، إن التشكيلة التي وصلت إلى سدة الحكم كانت بفعل عامل خارجيّ، والمقصود بذلك الإحتلال، لاعتبارات خاصة به وباستراتيجيته، ولم تعتمد على الخبرة والتجربة والكفاءة، بل على الولاء وربما على التبعية في الكثير من الأحيان.
وثانيها، أن المجموعة التي حكمت العراق خلال الفترة الماضية، لم يكن لها رؤية واضحة عن كيفية بناء الدولة، وعكست المناقشات التي أوردها استطلاع “منتدى بحر العلوم” و”معهد العلمين” بشأن “أزمة العراق سيادياً” بعد مرور هذه الفترة الطويلة، عن فقر الخلفيّة الفكريّة والتعويليّة على الخارج، ولا سيّما بعد سنوات من توليّ 5 رؤساء وزراء، و5 رؤساء برلمان. ويمكننا القول إن الأطروحات التي قدّمها القادة السياسيون الذين أداروا البلد عكست منهجاً قاصراً وفهماً محدوداً لمسألة السيادة داخلياً وخارجياً. وبكل المعايير لم يترّشح مفهوم البناء والتنمية المستدامة خلال فترة توليهم المسؤولية، بل غرقت البلاد بالفساد الماليّ والإداريّ والغنائميّة والامتيازات على حساب تدهور الوضع المعاشي والصحيّ (خصوصاً في ظل جائحة كورونا) والتعليمي والخدمي، فعلى الرغم من نحو بليون دولار (ألف مليار دولار أمريكي) كانت واردات العراق من النفط إلا أنها تبددت وهُدرت دون أن يعود مردودها على المواطن، بل إن نسبة الفقر حسب إحصاءات الأمم المتحدة قاربت من ربع سكان البلاد وظل العراق يعاني من شح الماء الصافي في الكثير من المناطق، إضافة إلى النقص الفادح بالكهرباء.
مستقبل الدولة العراقية مرهون بالمواطنة والتكافؤ
وثالثها، إن الإجراءات التي أقدمت عليها سلطة الإحتلال، ولا سيّما في حلّ الجيش وقانون الاجتثاث، خلقت فوضى عارمة، حيث أخذت مجاميع ما دون الدولة تصبح ما فوقها بفعل ذلك، مثل المرجعيات الدينية والعشائرية والجهوّية والحزبيّة وغيرها، والأمر صار عرفاً يكاد يكون سائداً، فلا تتشكل حكومة دون قول فصل لبعض الشخصيات الدينية المؤثرة في النجف، مثلما لها القول المسموع في بقاء الحكومة أو زوالها حتى وإن قامت بانتهاكات خطيرة وجسيمة، في حين أن الدولة الحديثة والمعاصرة والتجارب الديمقراطية، حتى في جنينيتها تفترض إعلاء شأن الدولة لكونها فوق جميع المرجعيات والتي من واجبها احترامها ورعايتها ودعمها، وذلك طبقاً للقانون واعتماداً على حكمه في ظل قضاء يتمتع بالكلمة العليا في الفصل بالمنازعات التي تنشأ.
وحتى لو كان بلدنا في بداية الطريق وعانى سنوات طويلة من الاستبداد والديكتاتورية، إلا أن المؤشرات المنظورة لا تشي بأن ثمة خطوات على هذا الطريق، وحتى لو أُعلنت بعض التوجهات الصحيحة، إلا أن الاعتبارات السياسيّة والحسابات الضيقة تحول دون ذلك، وسرعان ما تصاب بالتلكوء، إن لم يكن المراوحة والعجز.
لبناء مختبر ومطبخ وعقل الدولة من رجال ونساء، سواءً في المواقع الأولى أو ما تحتها من مستشارين ومدراء وأصحاب قرار وخبرة وكفاءة يفترض أولاً تعزيز قيم الدولة، من خلال وجود مؤسسات، تعتمد الكفاءة خارج الدوائر الضيقة كالمحسوبية والمنسوبية والأتباع والمُوالين.
ثانياً، الاحتكام إلى القانون الذي يُعد المرجع الأساس والخلفيّة التي لا غنى عنها لتسيير أمور الدولة، عبر موظفين أكفّاء يملكون قدرة استنباط الأحكام وتكييفها ضمن المشهد العام بما يحقق العدل والإنصاف مع الحرص على حقوق الجميع دون تمييز.
ثالثاً، استقرار الأوضاع، فكيف لصاحب القرار أن يتخذ قراراته وهو تحت تهديد السلاح أحياناً، إذ أن انتشار السلاح خارج القانون ووجود مجموعات مسلحة يُعيق إتخاذ القرارات الصحيحة، الأمر الذي يفرض إخضاع حق امتلاك السلاح واستخدامه للدولة ومؤسساتها النظاميّة حصراً، وإلا فإنّه لا يستطيع أن يقوم بمهماته على أكمل وجه.
رابعاً، لا يمكن اتخاذ القرارات بحرّية ودون ضغوط في ظل نظام المحاصصة الطائفية- والإثنية لأن الأساس في صيغة من هذا القبيل هي دون الدولة، وتعني فيما تعنيه تقديم الولاء على حساب الكفاءة، وهذا الأخير سيجلب الموالين أيضاً، وسيقف عائقاً أمام نشوء كفاءات ورجال دولة أو نساء دولة طالما يقدّم الولاء على الكفاءة. أي أنه يستبعد الموظفة أو الموظف الكفؤ والمخلص للدولة والوطن، مقدماً عليهما الانتماء الطائفي أو والإثني أو العشائري أو الحزبي أو الجهوي أو غير ذلك من الانتماءات الضيقة.
أختم الجواب على سؤالك المهم بالقول يمكن لبلدنا وهو غنيّ بالكفاءات وصاحب حضارات عريقة نشأت على أرضه، أن يُحقق تنمية مستدامة عبر اعتماد حكم القانون في ظل مؤسسات ومواطنة سليمة ومواصفات للموظف العموميّ ولا سيّما للخبراء والمستشارين أساسها الوطنية الكفاءة، بعيداً عن الدوائر الضيقة التي تحمل فيروسات التعصب، وهذا الأخير إذا ما استفحل يصير تطرّفاً، والتطرّف إذا تحول إلى سلوك ينتهي إلى العنف، والعنف إذا ضرب عشوائيّاً يصبح إرهاباً، وإذا ما تخطى الحدود واستهدف خلق رعب وفزع وهلع وإضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والفرد بالدولة يصبح إرهاباً دوليّاً.
دولة ضمن الدولة
حاليّاً يتحدّث بعض المراقبين والسياسيين عن حالة الدولة واللاّدولة، والأمر له علاقة بإشكالية الهوّية العراقية كدولة، ماذا تقول من جانبك كمثقف ومفكر بذلك؟ وكيف تنظر إلى هذه الحالة في العراق؟ وما هو مستقبل العمليّة السياسيّة؟
ما تزال الدولة تترنح منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 ولم تستقر أو تتخذ اتجاها نحو الاستقرار، لأسباب خارجيّة وأخرى داخليّة، فالسيادة ظلت معوّمة ومجروحة منذ غزو قوات النظام السابق للكويت في العام 1990 وصدور قرارات دوليّة تفرض عقوبات بحق العراق، ولم يتم استعادة السيادة كاملة حتى بعد زوال الأسباب.
السيادة تعنيّ بسط الدولة سلطانها على جميع أراضيها ومواطنيها، أيّ أن تكون سلطتها على كامل ترابها الوطنيّ، فالأرض أحد عناصر السيادة، والحكومة هي العنصر الثاني، أيّ وجود سلطة تتمتع بقدرتها على فرض قوانينها وأنظمتها على مواطنيها، أما الشعب فهو العنصر الثالث، وهذا يعني وجود حكومة مؤهّلة وقادرة على فرض قوانينها وسلطتها على جميع مواطنيها. والحكومة إذا حظيت بثقة الناس وقدّمت منجزاً، فإنها ستتمتع بالشرعية السياسية، وإذا طّبقت حكم القانون فإنها ستحظى بالمشروعية القانونية.
عنفان لا يولّدان سلاماً وجريمتان لا تنجبان عدالة، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة
ومثل هذا الأمر يغيب عن بلدنا لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فقد عاش العراق ظروف احتلال عسكري حتى نهاية العام2011، وإن بقيت تأثيراته تعاقدياً أو تعاهدياً بإتفاقية الإطار الإستراتيجي. وعاد الأمر إلى طاولة النقاش والجدل المحتدمين إثر استقدام قوات أمريكية وأخرى تابعة للتحالف الدولي بعيد احتلال “داعش” للموصل في العام 2014 وتمدده إلى نحو ثلث الأراضي العراقية، وبعد طرده في نهاية العام 2017 بدأت بعض القوى تتحدث تلميحاً أو تصريحاً بضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق.
وقد اتخذ البرلمان العراقي قراراً بذلك في مطلع العام 2020 إثر مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد قوات القدس وأبو مهدي المهندس نائب قائد هيئة الحشد الشعبي، على الرغم من استمرار الاختلاف في الموقف إزاء ذلك عراقيّاً، فممثلي التحالف الكردستاني لم يحضروا جلسة التصويت، وكذلك من يسمون أنفسهم ممثلين عن السنّة.
ليس هذا فحسب، بل إن النفوذ الإيراني تغلغل في العراق بشكل كبير، وأصبح منذ العام 2003 مؤثراً في القرار العراقي، ولا سيّما بعد العام 2005، وذلك حين استعرت الفتنة الطائفيّة، بعد تفجير مرقديّ الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء العام 2006، حيث أخذت تتشكل مجموعات مسلّحة مدعومة من إيران إلى درجة أصبحت قوة توازي قوة الدولة وتتغوّل عليها أحيانا.
وعلى الرغم من انضوائها بعد تأسيس الحشد الشعبي تحت قيادة القوات المسلّحة إثر احتلال الموصل، إلا أن ثمة استعراض للقوة وممارسة لها خارج نطاق الدولة والقانون، تقوم بها القوى المسلحة والميليشيات بما فيها قصف السفارات ومواقع القوات الأمريكية والدوليّة العسكرية، وهو ما أثار ويثير لغطاً كبيراً حول مستقبل الدولة العراقية، في ظل انتشار السلاح ووجود التشكيلات المسلحة، والتي يطلق عليها البعض “الميليشيات الولائيّة”.
العراق ليس إيران
لنأخذ فرضية تطبيق الدستور العراقي، الذي لم يُطبّق حتى الآن ولا تلوح في المستقبل القريب إمكانية تطبيقه، فهل نحن أمام حالة تشاؤم بأن الدولة تتجه لتتحول إلى جمهورية إسلامية على غرار إيران مثلاً؟ وماذا عن النسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي؟
هناك فرق بين التشاؤم واليأس، وإذا كان كل ما حولنا مدعاة للتشاؤم، إلاّ أن الأمر لا يدعو لليأس، طالما تستمر إرادة التغيير والمقاومة، ولكن هذه تحتاج إلى حشد قوى وجهود وتعبئة وتنظيم طاقات، مثلما تحتاج إلى إرادة سياسية ووعيّ مجتمعيّ مناقض ومناهض لوحدانيّة الخيار الضيق باسم الدين أو الطائفة أو القومية أو غير ذلك.
بتقديري المتواضع، إن الدستور هو أس المشاكل، فما بالك حين لا يُطبق، سنكون حينها أمام فوضى واتفاقات هشّة وتوافقات ظرفيّة سرعان ما يتم الانقلاب عليها، خصوصاً بفعل التدخلات الخارجية وولاءات بعض القوى أو تأثرّها أو تعويلها على العامل الخارجي في التغيير.
العراق ليس إيران، وتاريخ الحركة الوطنية في العراق يختلف عنه في إيران، والنسيج العراقي المجتمعي مختلف أيضاً، ودور القوى الدينية كذلك، ناهيك عن العامل الطائفي. فعلى الرغم من أن الشيعية السياسية حكمت العراق نحو 16 عاماً، أيّ منذ العام 2005 ولحد الآن وشاركت بدور متميز منذ الاحتلال عام 2003، إلا أنها ازدادت عزلة حتى عن الوسط الذي تدعيّ تمثيله، وإلا بماذا تفسر انتفاضة تشرين/إكتوبر2019، والتي ما تزال مستمرة وإلى اليوم؟ وإن خفت بريقها، لكن مطالبها ما تزال قائمة، ويمكن أن تتجدد، وهي في الغالب في المناطق الشيعية بالأساس، في الناصرية والنجف وكربلاء والحلة والديوانية والسماوة والعمارة والكوت والبصرة، ناهيك عن بغداد، وهي تعبّر بما عكسته من مطالب عن حقوق العراقيين بمختلف انتماءاتهم، وهي لا تختلف عن مطالب الكرد ومطالب المناطق الغربيّة في الرمادي وصلاح الدين إضافة إلى ديالى وكركوك وغيرها.
الصيغة الفيدرالية الراهنة وصلت إلى طريق مسدود
العراقيون بشكل عام وخارج الطبقة السياسية المستفيدة، وإن اختلفت مشاربهم، يدعون إلى محاربة الفساد الماليّ والإداري وكشف المفسدين ومساءلتهم وتقديم قتلة المتظاهرين إلى القضاء، كما يطالبون بانتخابات حرّة نزيهة وقانون انتخابي أكثر ايجابية من القانون الحاليّ، وكذلك يدعون إلى حصر السلاح بيد الدولة والضرب بقوة على يد المسلحين خارج القانون، ولعل إعادة النظر أو تعديل أو حتى إلغاء الدستور هو جزء من تفكير النخبة الفكرية والثقافيّة والحقوقية، لا سيّما بعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود، خصوصاً بعدم تطبيقه، والاختلاف بشأن تفسيراته وتأويلاته المتناقضة، ناهيك عن عدم إمكانية لوضعه موضع التطبيق. وهو على مساوئه وألغامه، إلا أنه احتوى مبادىء إيجابية وسليمة فيما يتعلق بالحريات والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن هناك مواد أخرى شكلّت ألغاماً وكابحا عطّلت وتعطل من تطبيق هذه المواد.
حوار عربي ـ كردي
العلاقات بين إقليم كردستان والحكومة الفيدراليّة في بغداد يجب أن تنظم في إطار الدستور العراقي، لكن بغداد تمنع إرسال حصة الإقليم وتضع عقبات في الميزانية، ما هو برأيك مستقبل العلاقات بين بغداد وإربيل، لا سيّما في ظل عدم التفاهم بين الحكومة والإقليم؟
المشكلة تكمن في الدستور، فقد تقرر أن تكون الدولة العراقية فيدرالية (اتحادية) وهو أمر جيد، وينسجم مع واقع ومطامح الشعب الكردي، لكنه أمر جديد بحاجة إلى تربية وتعليم وتفاهم وثقة ونصوص واضحة من خلال مؤسسات، إضافة إلى حكم القانون، فحتى الآن لا توجد أقاليم، باستثناء إقليم كردستان، ولم يتأسس المجلس الاتحادي، كما نصّ عليه الدستور، وصيغت بعض الفقرات بشكل يسمح بتفسيرات وتأويلات متناقضة ومتعارضة، مثل المادة 111 و112 بخصوص النفط والمصادر الطبيعيّة، وهناك جدل حول المادة 140 بشأن كركوك والمناطق المتنازع عليها كما وردت في الدستور، إضافة إلى المادة 142، وكذلك يمتد الخلاف بل والنزاع إلى صلاحيات حكومة الإقليم في ظل الدولة الاتحادية، ومنها حالة تعارض دستور الإقليم مع الدستور الاتحادي، وكل هذه الأمور بحاجة إلى تفكّر ودراسة ومعرفة وثقة وتفاهم يأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشتركة في ظل دولة اتحادية منسجمة مع نفسها أولاً، فضلاً عن قناعات المجموعات الثقافيّة وثقتها بطبيعتها لا أن تكون دولة تحكمها الصراعات والنزاعات والإستقطابات التي تُضعفها.
لقد انتقلت الدولة العراقية من دولة مركزية بسيطة حين تأسست في العام 1921 إلى دولة لامركزية اتحادية (فيدرالية) بعد العام2003، وتكرّست في دستور العام 2005، بعد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2004). لكن هذه الصيغة لم يتم تفعيلها وظلت عرضة للنقد وعدم الرضا من الطرفين، بل ولعموم القوى والتيارات المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة، وإلا كيف يمكن تصوّر حجب حصة الإقليم من الرواتب والواردات التي يفترض أنها لا تكون محط مساومة، لأنها تتعرّض لقوت الناس ومصادر عيشهم، أما الخلافات فيمكن أن تُحلّ برأس بارد وقلب حار كما يُقال. وبخصوص تصدير النفط والحصص المُتفق عليها والشفافية في ذلك فينبغي وضعها في إطار حلول بعيدة المدى تأخذ مصالح الدولة بنظر الاعتبار ومستقبل المواطن العراقيّ ولا بد هنا من تشريع قانون للنفط وهو الذي بقيّ قيد المناقشة وفي الأدراج منذ عقد ونصف من الزمن، والأمر يتعلق أيضاً بمستقبل المواطن في الإقليم، وتأمين الاستقرار في البلاد بشكل عام.
الصيغة الفيدرالية الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، ويمكن القول أنها أقرب إلى الإخفاق بسبب عدم وجود فهم مشترك لها، ناهيك عن النقص في الثقافة الفيدرالية، بل وعدم الإيمان بها أو التعامل معها باعتبارها صيغة مؤقتة، وهناك من ينتظر إعادة القديم إلى قِدمه، أي العودة إلى الدولة المركزية. في حين هناك من يتطلع إلى الانفكاك عن الدولة المركزية وصرامتها وعسفها.
ما كنت أؤمن به، وما أزال، يقوم على ركنين أساسيين:
أولهما؛ الأخوّة العربية-الكردية، وكنت قد دعوت إلى أول حوار عربي ـ كردي، وذلك قبل نحو 3 عقود من الزمان، وفي إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كنت أترأسها في لندن، وتبقى هذه الصيغة قابلة للتفعيل والإضافة والتطوير باستمرار إرتباطا بالحقوق الإنسانية والعلاقة بين الشعبين الصديقين، ولا سيّما بين النخب ويمكن استحضار حوار مثقفي الأمم الأربعة (الترك والفرس والكرد والعرب)، وكان هذا المشروع الذي بدأ في تونس بمبادرة كنت قد دعوت إليها منذ عقد نيف من الزمان قد لقيت صدى كبيراً وأهمية أكبر باحتضانها من جانب سمو الأمير الحسن بن طلال، الذي نظم لقاء مهماً في عمان في 22/7/ 2018 تحت عنوان “أعمدة الأمة الأربعة”.
وثانيهما؛ حق تقرير المصير للشعب الكردي انطلاقا من إيماني القانوني والقول بالفكرة الكونية لحق تقرير المصير بما فيه الإتحاد الاختياري الأخوي أو تكوين كيانية مستقلة (دولة) تكون ظهيراً وداعماً لدول المنطقة في اطار النضال المشترك والأهداف المشتركة وعلاقات الصداقة والتضامن، خصوصاً بين العرب والكرد ضد الأعداء المشتركين.
وإذا ما أريد لصيغة الفيدرالية أن تستمر وتتعزز وتترسخ لا بد من إعادة النظر بجوانبها المختلفة عبر تفاهم بين القوى السياسية وحوار مجتمعيّ بعيد المدى يأخذ المصالح المشتركة بعين الاعتبار، وإلا ستكون هذه الفيدراليّة، كما وصفها الصديق المفكر البروفسور شيرزاد النجار وهماً، وهو محق بذلك، خصوصاً إذا ما أخذنا صيغ الفيدراليات واختصاصاتها على المستوى الكوني، وهي موجودة ومطبّقة في نحو 30 بلداً.
لا بد من إجراء مراجعة وتدقيق ووضع صيغ جديدة معقولة ويمكن تطبيقها بروح الثقة المتبادلة وغير خاضعة للمناوشات اليوميّة والمزايدات السياسية الانتخابية وغير الانتخابية أو الارتياح الشخصية، بل وضع صيغ قانونية وتفاهم شامل ومصالح تجمع إربيل ببغداد في ظل دولة موحدة ومستقرة بموزايكها المتعايش وهوياتها الفرعيّة والجامعة.
إذا استمر الوضع كما هو حالياً، فإن الأزمة ستفرّخ أزمات أخرى، وهذه ستكون مُستحكَمة، بل ستتحول إلى بؤرة من بؤر الصراع المستدامة، لا سّيما حين تلتف حولها مصالح مكتسبة أو محاولات لإلغاء ما هو متحقق في ظل استمرار عدم الثقة بين السلطة في بغداد التي يفكر بعض أركانها بطريقة مركزية شديدة الصرامة أحياناً، وبين بعض القوى في الإقليم التي تفكر بطريقة بعيدة عن تصوّر بغداد، لدرجة الانفكاك حين يصبح التفاهم مستحيلاً، الأمر الذي يخلق هوّة تتسع مع مرور الأيام ويصعب ردمها، وتوقع ومآلاتها.
قد تؤدي الخلافات الداخلية إلى نزاعات واحترابات وصراعات مما سيُنذر بمخاطر جمّة على العراق ودول الإقليم بحكم الترابط والمشتركات
مرجعيات النجف ليست بحاجة إلى عسكر
هناك هدوء بين المكونات الرئيسية (الكرد والسنة والشيعة) حاليّاً، لكن الخلافات داخل البيت الشيعي قائمة لا سيّما بين التيار الولائي وبين التيار الشيعي غير الولائي والأبعد عن إيران؟ ما هو رأيك أن مرجعية النجف تساند الأخير؟ وهل يمكن أن تتحول الخلافات إلى حرب أهليّة بين التيارين؟
تعرف تحفظيّ على مصطلح المكونات، وسبق وأن ذكرت ذلك في معرض تحفظي على الدستور، وكنت قد كتبتُ كتابين بينت ملاحظاتي حول الدستور وألغامه ومشكلاته الراهنة والمستقبليّة، وذلك لإيماني أن الدستور هو القانون الأساس الذي يُحدد طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة وسلطاتها وحقوق مواطنيها وحرياتهم. وقد احتوى الدستور ألغاماً خطيرة كانت وراء العديد من الأزمات العاصفة التي شهدتها، وباستمراره فإن الهوة ستتسع وتزداد عوامل عدم الوحدة والاستقرار في جوفها، خصوصاً في ظل التدافع على المصالح والامتيازات والانقسامات الطائفية والإثنيّة، دون أن ننسى العاملين الإقليمي والدولي الذين يستمر تأثيرهما على نحو شديد وبصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والأمر لا يشمل الشيعية السياسية وحدها، وإنما يمتد إلى ما إصطلح عليه خطأً مقصوداً “المكونات”، وإذا كان ما سُميّ بـ”البيت الشيعي” قد تأسس عشية إنتخابات العام 2005 فإنه ظل ًبيتاً بلا سقف ولا جدران، وهكذا كان التفكك والتآكل قد أصابه بسبب الصراعات والمنافسات الحادة بين الجماعات المكوّنة له، خصوصاً على الزعامة ومراكز النفوذ والامتيازات، وليس عبثاً أن يتهم الجميع الجميع بالفساد وسوء الإدارة، ويحمّل كل فريق الآخر المسؤولية عما آلت إليه الأمور، والأمر يشمل الفرق الأخرى المشاركة في الساحة السياسيّة. وإذا كان السيد السيستاني، وهو أحد المراجع المتنفّذين في النجف قد دعم ما سُميّ بالتحالف الشيعي، فإنه نأى بنفسه بعد ذلك بسبب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها هذا التحالف، الأمر الذي أفقده الكثير من عناصر صدقتيه، خصوصاً حين كان في المعارضة، وأدت ممارسته في الكثير من الأحيان إلى انتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان، بل زادت حتى على ممارسات النظام السابق في العديد من المجالات، لا سيّما الفساد المالي والإداري والسياسي، ناهيك عن الشحن الطائفي ومحاولات التسيّد وإملاء الإرادة.
وإذا كانت ثمة أجنحة في الحشد الشعبي، بعضها سُميّ بالولائي المقرّب من إيران والحليف الأشد معها، فإن هناك “حشود” أخرى بعضها قريب من مرجعية السيستاني، وبما أن خطر “داعش” قد اضمحل، خصوصاً بعد تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرته، فإن الملّح في الأمر يتطلّب تعزيز وتقوية القوات المسلحة العراقية: الجيش، وقوات الشرطة، والمخابرات والأجهزة الأمنية والإستخبارية وشرطة المرور والنجدة ومكافحة الجريمة، ناهيك عن جهاز مكافحة الإرهاب، وهو ما يعوّل عليه كقوة نظامية هدفها حماية الوطن وأمنه وسيادته.
وأظن أن أية صيغة موازية سوف تخلق نوعاً من التعارض والتصادم، – حتى وإن ألحقت بالجيش نفسه، لا سيّما إذا اختلفت مرجعياتها. وأعتقد أن مرجعيّات النجف ليست بحاجة إلى جناح عسكري يحميها لأنها بحماية الدولة وإحترامها وتقديرها، وذلك واجب على الدولة وقواتها الأمنيّة.
وسواء كان وجود الجناح القريب من السيستاني أو الفريق القريب من إيران أو غيرهما ضرورة لدعم القوات المسلحة ضد خطر “داعش”، فإن تلك الضرورة التي أملتها الحاجة لتأسيس الحشد الشعبي قد استنفذت أغراضها، ويمكن لأفراده الانتقال إلى المؤسسات المدنيّة والخدميّة، لا سيّما لمن يصلح منهم، لكي لا يخلق أيّ تعارض أو مراكز قوة يتم استغلالها لإضعاف الدولة تارة باسم الولائيين وأخرى بالضد منهم، وستبقى الخلافات قائمة بحكم المنافسة.
وعلى الدولة أن لا تتهاون في ذلك وأن تبسط سلطانها على جميع أراضيها ومواطنيها وتحقق سيادتها الداخلية والخارجية وتحميّ حدودها من أي تدخل أو تهديد، فتلك إحدى وظائفها الأساسية، وإلا لماذا هي إذن دولة إن لم تستطع ذلك، وخصوصاً حماية أرواح وممتلكات المواطنين؟
ثلاثة إحتمالات تنتظرنا
قاد عدم الاستقرار السياسيّ والأمنيّ إلى اغتيال مرشحين وناشطين مدنيين وصحافيين، وهذا ما أثار غضب الشارع العراقي، وقد رفعت تظاهرات الأسابيع المنصرمة شعار “من قتلني”، وهو مطلب شعبي، وهناك أطرافاً سياسية دعت إلى مقاطعة الانتخابات المقبلة، فهل ستؤدي هذه الأوضاع إلى تأجيل الانتخابات؟
أعتبر غضب الشارع مشروعاً، فإن لم تستطع الحكومة وقف القمع والاغتيالات ومحاسبة المسؤولين، فماذا تنتظر من الشارع غير الاحتجاج، وحمداً لله فإن الأمور لم تتطور إلى عنف وعنف مضاد، وقد تحلىّ المتظاهرون بوعيّ عالٍ وإرادة قوية ولم ينجرّوا إلى العنف الذي حاولت قوى معلومة ومجهولة جرّهم إليه. وقد تمتع المتظاهرون برباطة جأش وصبر وثقة بالنفس وقاوموا الرصاص بصدور عارية، فعنفان لا يولّدان سلاماً وجريمتان لا تنجبان عدالة، ورذيلتان لا تنجبان فضيلة.
الانتخابات تحتاج إلى أجواء طبيعيّة وسلميّة وآمنة وإلى ضمانات للمرشح والناخب وإلى وضع حد للتزوير والتلاعب. وقد كانت إنتخابات العام 2018 أقرب إلى المهزلة، ولم يشارك فيها أكثر من 20% في أحسن الأحوال بحسب تقديرات كثيرة معتمدة.
وحتى لو جرت الانتخابات، فالقانون الانتخابي الجديد تم تفصيله لمصلحة المجموعات الكبيرة التي توزعت على المناطق، وستحاول ابتلاع الكتل والشخصيات المستقلة، علماً بأن الكثير منها لا يعوّل على الانتخابات، بل إنها مُحبَطة ومتشائمة من النتائج التي تقول عنها أنها معلبّة ومعروفة سلفاً، حتى سيتم تدوير الزوايا واستبدال أشخاص من الاتجاه والتوّجه نفسه، فهل سيؤدي ذلك إلى التغيير المنشود الذي دفع المتظاهرون أكثر من 700 شهيد ونحو 20 ألف جريح بسببه، أم أن “شرعيّة” القوى الحاكمة سيتم تكريسها في ظل نظام محاصصاتي يقوم على الزبائنية والمغانم تحت عنوان “ديمقراطية التوافق”؟.
هذه الأخيرة إذا كانت صالحة فإنها لفترة انتقالية ولدورة أو دورتين انتخابيتين، وليس إلى ما لا نهاية بحيث بات عرفاً رئاسة الجمهورية للكرد، والبرلمان للسنيّة السياسية، ورئاسة الوزراء للشيعية السياسية، والوزارات السيادية كالخارجية والمالية والداخلية والدفاع والعدل موّزعة على ما يُطلق عليه “المكونات” فمن لم يلحقه التوزيع الثلاثيّ للرئاسات يضع عينه على الوزارات السيادية شرطاً للتوافق، خصوصاً من القوى المتنفذّة.
وهناك ثلاثة احتمالات قد تظهر في المشهد السياسي خلال الأشهر القادمة وفقاً للدراسات المستقبلية للعلوم السياسية:
أولها؛ تحسن الوضع وانتخابات في ظل رقابة دولية ومنافسة شديدة تفتح ثغرة في مجلس النواب لصالح قوى لم تجرّب حظها في الميدان، وإن كان الأمر محدوداً، لكن قد يشكّل خرقاً وإن كان بسيطاً في الميدان.
وثانيها؛ بقاء الوضع على ما هو عليه، وهذا يعني تراجعه بعد مراوحة، وقد يستغرق الأمر دورة أخرى جديدة بعد دورة تشرين/أكتوبر القادم، إن تم إجراء الانتخابات فيها أو حتى إن تأجلت لغاية العام 2022 بحيث تُجرى في موعدها الاعتيادي.
وثالثها؛ تدهور الوضع بحيث يصعب معه إجراء الانتخابات حتى بموعدها، وقد يكون للصراع الأمريكي – الإيراني دوره في ذلك، خصوصاً إذا احتدم، علماً بأن هناك قوى عراقية مقربة من إيران ستحاول استهداف المصالح الأمريكية، ومثل هذا الأمر يعقّد المشهد السياسي. قد تؤدي الخلافات الداخلية إلى نزاعات واحترابات وصراعات شيعيّة – شيعيّة، وسنيّة – سنيّة، وكرديّة – كرديّة، مما سيُنذر بمخاطر جمّة على العراق ودول الإقليم بحكم الترابط والمشتركات. وينبغي على العقلاء أو من تبقّى منهم أن يفكر لا بمصلحة الطائفة أو الإثنية أو الجهوية أو العشائرية أو المجموعة الحزبية التي ينتمي إليها لأن التفتت التشظيّ أو الانقسام سيشمل الجميع بلا استثناء ولا أحد يستطيع أن يعفيّ نفسه من المسؤولية أو يتجنّب العواصف.
(*) ينشر هذا النص بالعربية بالتزامن مع نشره باللغة الكردية على حلقتين في مجلة “كولان” في تموز/يوليو 2021. وقد أجرى الحوار رئيس تحرير “كولان” فرهاد محمد.