“الفجر الجديد” لجنوب السودان يتحول إلى كابوس مطلق

تجربة إستقلال جنوب السودان بقوة دفع أميركية ـ إسرائيلية مدعاة للتبصر. محرر الشؤون الخارجية في صحيفة "الغارديان" البريطانية سيمون تيسدال، يقول إن نحو 400 ألف شخص قتلوا منذ حصول جنوب السودان على إستقلاله.. وها هو العنف يلوح في الأفق مرة أخرى.

الاستقلال ليس دائماً ما يُزعم أو يُعتقد أنه كذلك. بعض الدول التي انضمت مؤخراً إلى أسرة الأمم المتحدة عانت الكثير وكافحت طويلاً حتى وقفت على أقدامها. في عام 2017، قسّم الانفصاليون وطنهم كاتالونيا إلى قسمين. وفي عام 2014، نجح الناخبون الاسكتلنديون في إجراء استفتاء عام للاستقلال. لكن، أيام المجد الذي حققته حركات التحرر في العالم الثالث عندما أطاحت بالأنظمة الاستعمارية، تبدو اليوم وكأنها من زمن غابر وبعيد.

جاء جنوب السودان، الذي أحيا الذكرى العاشرة لميلاده الأسبوع الماضي (9 تموز/ يوليو)، متأخراً عن حزب الاستقلال الأفريقي PAI (بالفرنسية: Parti Africain de l’Indépendance، أول حزب يطالب بشكل قاطع بالاستقلال عن الحكم الفرنسي في عام 1957). وكان نتاج إتفاق مُعقد للغاية تمَّ في عام 2005 لوضع حدّ لحرب أهلية طاحنة عصفت بالبلاد طيلة عقود طويلة. وكان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وفي إطار سعيه لتسجيل رصيد في انجازات عهده، هو من كتب كلمات ذلك الاتفاق – كمن يكتب كلمات أغنية. يومها صرح أوباما قائلاً: “اليوم هو تذكير بأنه بعد كل عتمة حرب، هناك نور فجر جديد ممكن لا محال”.

تجربة تعثرت

ومع ذلك، فقد ثَبُتَ أن هذا “الفجر الجديد”، ووفق كل المقاييس، كان فجراً زائفاً. جنوب السودان كان عبارة عن تجربة تعثرت – كان “الضوء الذي فشل”، بحسب عنوان الرواية الأولى للكاتب الإنكليزي الحائز على جائزة نوبل روديارد كيبلينج (نُشرت في1891)، والتي تدور معظم أحداثها المهمة في السودان وبور سعيد. ففي عام 2013، أي بعد عامين فقط من الاستقلال، أغرقت الفصائل العرقية المتنافسة البلاد في الحرب، تماماً كما هدد نائب الرئيس ريك مِشَار (أحد أمراء الحرب، وهو من قبيلة النوير، تلقى تعليمه في جامعة برادفورد) أثناء حديث أجريته معه في جوبا في تموز/يوليو من ذلك العام.

لقد أراد ريك مِشَار أن يتنحى سيلفا كير، رئيس جنوب السودان وزعيم قبيلة الدينكا. في حين كان لدى الأخير مخططات أخرى. ففي الحرب التي استمرت خمس سنوات، لقي ما يقرب من 400 ألف شخص مصرعهم ونزح الملايين. واليوم، تحذر الأمم المتحدة من “العودة إلى صراع واسع النطاق”، بسبب تصاعد العنف الطائفي والتوترات السياسية.

إن عدم الإستقرار حالة مزمنة بين بلدان القرن الأفريقي، وليست حكراً على جنوب السودان. ومن المفارقات الفاقعة أن هذه المعضلة المشتركة، المتجذرة منذ القرن التاسع عشر بسبب التدخل الأوروبي في المنطقة، هي ذاتها التي تتفاقم الآن بسبب فك الارتباط الغربي

والمثير للدهشة، أن كير لا يزال رئيساً للبلاد ومِشَار هو نائبه المتمرد. أما منظمات المجتمع المدني السودانية فتريد من الرجلين أن يستقيلا، لكنهم في الوقت نفسه يخشون من أن تستغل قوات الأمن أي فراغ قد يحصل. فثمة شائعات مستمرة عن انقلابات عسكرية وشيكة. والانتخابات جرى تأجيلها. كما أن الاتفاق الذي أُبرم العام الماضي من أجل تقاسم السلطة لم يُنفذ بالكامل بعد.

من الأسباب الرئيسية لفشل جنوب السودان: سوء الحكم، والافتقار إلى الكثير من القدرات في أرض كانت بالأساس تفتقر، قبل عام 2011، إلى بنى تحتية ومؤسسات ذات مصداقية – ويمكن القول إن البلاد لا تزال كذلك حتى اللحظة. ثمة سبب آخر هو الفساد المنتشر في البلاد على نطاق ملحمي. فقد قيل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة العام الماضي إن “النُخب السياسية تقاتل من أجل السيطرة على الموارد، وفي هذه العملية تسرق النُخب ذاتها مستقبل شعوبها”.

بسبب سوء الإدارة والجشع، تحطمت كل الآمال في أن يجلب نفط جنوب السودان وثرواته المعدنية الرخاء والإستقرار للجميع. هناك حاجة ماسة إلى زيادة المشاركة والاستثمار الدوليين. لكن الاتحاد الأفريقي و”إيغاد” (IGAD الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية) يبدوان عاجزين، في حين أن الحكومات الغربية تلقى الصد والرفض من قبل المحسوبين على كير. وبريطانيا مثال على ذلك. ففي العام الماضي، انسحبت القوات البريطانية المساندة لبعثة الأمم المتحدة في جوبا. والآن يجري قطع المساعدات التي تقدمها الحكومة البريطانية بشكل مباشر إلى حكومة جنوب السودان.

الإنزلاق إلى البؤس

في الأثناء، تواصل وكالات الإغاثة تكريس جهودها الهائلة من أجل مساعدة سكان جنوب السودان، الذين تزداد محنتهم حدَّة. فقد أشار تقرير الأمم المتحدة لشهر حزيران/يونيو الماضي أن مستويات انعدام الأمن الغذائي بلغت أعلى مستوياتها منذ الاستقلال. وهناك حوالي 8.3 مليون شخص بحاجة لمساعدة إنسانية (حوالي ثلثي إجمالي السكان)، بينما يعاني 1.4 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية وبشكل حاد.

لقد سلطت الأمم المتحدة الضوء على “قضايا النزاع، التهجير القسري، الفيضانات، فقدان سبل العيش، جائحة كورونا، عدم قدرة السكان على الوصول إلى الرعاية الصحية والمدارس، بالإضافة طبعاً إلى الهجمات التي تتعرض لها المجتمعات المحلية” كعوامل رئيسية تدفع البلاد نحو الإنزلاق في نفق من البؤس لا نهاية له. وحتى الآن، لم يتم جمع سوى 497 مليون دولار فقط من أصل 1.68 مليار دولار، هو قيمة حصة جنوب السودان من التمويل الدولي المطلوب لهذا العام.

إقرأ على موقع 180  الإستحقاق الرئاسي السوري.. مفتاح التغيير الداخلي العميق

ساهمت عملية إعادة التأهيل الجزئي للسودان، التي بدأت في أعقاب الإطاحة بنظام عمر البشير الإسلامي عام 2019، في تفاقم محنة جنوب السودان بشكل غير مباشر. فبالرغم من أن برنامج الإصلاح الذي تبنته الحكومة الانتقالية في الخرطوم كان مثيراً للجدل على الصعيد المحلي، إلا أنه أقنع الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي بتبني نهج أكثر وداً.

من غير الواضح بعد ما إذا كان هذا النزاع، مثل العديد من النزاعات الأخرى الممتدة من جنوب كردفان إلى الصومال، يمكن تسويته بطريقة سلمية. وفي هذا السياق الأوسع والأكثر بروزاً، فان آلام ولادة جنوب السودان يجري إخمادها وإغراقها

أميركا وإسرائيل صديقا العدو

لقد أنتج هذا التحول قرضاً بقيمة 2.4 مليار دولار وصفقة لتخفيف الديون بقيمة 50 مليار دولار في الشهر الماضي. وفي العام الماضي، رفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اسم السودان من قائمة الجهات التي تعدها واشنطن راعية للإرهاب. في المقابل، باشرت الخرطوم في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، في إطار ما يسمى باتفاقات إبراهام. ما يعني أن الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين كانتا أكثر الداعمين المتحمسين لإنفصال جنوب السودان في عام 2011، تتعايشان الآن مع عدوه القديم في الشمال (السودان).

إن عدم الإستقرار حالة مزمنة بين بلدان القرن الأفريقي، وليست حكراً على جنوب السودان. ومن المفارقات الفاقعة أن هذه المعضلة المشتركة، المتجذرة منذ القرن التاسع عشر بسبب التدخل الأوروبي في المنطقة، هي ذاتها التي تتفاقم الآن بسبب فك الارتباط الغربي. ويستغل هذا الفراغ والنقص إمبرياليو الموجة الجديدة – الصين ودول الخليج، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة، وروسيا بدرجة أقل – الذين يعتبرون أن الإيثار (العمل على سعادة الآخرين) صار مصطلحاً غريباً بالنسبة إليهم.

سواء كانت بداية جديدة أم لا، السودان نفسه لا يزال يواجه اضطرابات على عدة جبهات. فالشارع السوداني استقبل اتفاق صندوق النقد الدولي بالاحتجاجات والتظاهرات، اعتراضاً على قرار رفع الدعم عن الوقود. والاقتصاد يعاني من أزمة حقيقية، مع اقتراب معدل التضخم إلى نسبة 400٪. فيما الاحتكاك المتزايد بين عناصر الحكومة المدنية والعسكر، ولا سيما قوات الدعم السريع – شبه العسكرية، التي لا ترحم، يعرض عملية الانتقال الديموقراطي للخطر.

آلام ولادة تغرق

هناك مشاكل واضطرابات في غرب جنوب السودان. ففي دارفور، إستؤنفت أعمال العنف بعد فترة هدوء نسبي؛ وعلى الجناح الجنوبي للسودان المحاصر، المتاخم لجنوب السودان؛ كما على طول حدودها الشرقية مع إثيوبيا. إن إحياء النزاع الإقليمي هناك في منطقة “الفشقة”، التي تعود أصولها إلى التدخل الخرائطي البريطاني، يزيد من التوترات بشأن نزوح اللاجئين من ولاية تيغري التي مزقتها الحرب في إثيوبيا.

يؤثر عدم الاستقرار الآن على إثيوبيا أيضاً، التي لطالما اعتبرها الغرب مرتكزاً إقليمياً. فقد تعرض جيش رئيس الوزراء أبي أحمد لهزيمة شاملة بعد أن غزا تيغراي بلا داع. واليوم تتزايد المخاوف من أن يوجه المنتصرون في تيغراي أسلحتهم نحو ولاية أمهرة المجاورة، أو قد يسعون للانتقام من ديكتاتور إريتريا الشرير، أسياس أفورقي، شريك أبي أحمد في جريمة الغزو.

والأكثر خطورة، بطريقة ما، هو أن يحتدم خلاف طويل حول سد النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق. وكانت أديس أبابا قد أكدت في الأسبوع الماضي عزمها استئناف ملء السد، مما أثار غضباً شديداً في كل من السودان ومصر، اللتين من المحتمل أن يفقد كل منهما إمداداته الضرورية من المياه.

من غير الواضح بعد ما إذا كان هذا النزاع، مثل العديد من النزاعات الأخرى الممتدة من جنوب كردفان إلى الصومال، يمكن تسويته بطريقة سلمية. وفي هذا السياق الأوسع والأكثر بروزاً، فان آلام ولادة جنوب السودان يجري إخمادها وإغراقها.

(*) لمراجعة النص الأصلي في  الغارديان

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "منعطف غزة".. الغرب يستعيد خطاب الإستعمار!