“منذ قيام التظاهرات الكبيرة في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 2019 على خلفية الأزمة الاقتصادية الصعبة في الدولة، من الواضح أن الأرقام الاقتصادية الجافة التي تعكس التدهور في الوضع في لبنان تحولت إلى ظواهر ملموسة تكشف تفكُّك البنى التحتية ومؤسسات الدولة اللبنانية.
على الصعيد الاقتصادي، تهاوت الليرة اللبنانية وخسرت 90% من قيمتها خلال العامين الأخيرين، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد نحو 40% بين 2018 و2020، والدين الخارجي للبنان الذي يُعتبر من أكبر الديون في العالم لا يزال يكبر، ووصل إلى 170% من الناتج الوطني العام. الدولة واقعة في عجز ومنظومة المصارف غارقة في أزمة سيولة ومهددة بالانهيار. على هذه الخلفية ترتفع معدلات الفقر بسرعة ومن المتوقع أن يصبح 75% من السكان تحت خط الفقر.
الشلل السياسي الكامل وعدم وجود حكومة فاعلة قادرة على تجنيد قروض خارجية لإنقاذ لبنان من الحفرة التي وقع فيها يزيدان الآزمة تفاقماً. منذ الانتخابات في سنة 2018 قامت حكومات في لبنان بمهماتها الكاملة لمدة 16 شهراً في مقابل 23 شهراً شهدت حكومات انتقالية (تصريف أعمال) في ظل اتصالات سياسية لا نهاية لها لتأليف حكومة جديدة.
لا يظهر في الأفق تغيّر سياسي في لبنان بسبب إصرار النخب الطائفية الفاسدة على عدم التنازل عن تقاسُم السلطة التي تعتبرها مصلحة وجودية من جهة، ومن جهة أُخرى عجزها عن إدارة شؤون الدولة بصورة ناجعة من خلال النظام الطائفي الحالي. هذا الواقع المعقد يعيق قيام نظام حكم بديل غير طائفي يقوم بحل المشكلات الاقتصادية الضخمة التي يعانيها لبنان ويؤدي إلى تغيير ملموس في نوعية حياة المواطنين التي تتدهور.
في ظل الأزمة السياسية في لبنان يفحص الاتحاد الأوروبي، بضغط من فرنسا، فرض عقوبات على زعماء سياسيين في لبنان يعرقلون تأليف حكومة والقيام بإصلاحات في الدولة لاعتبارات طائفية، ويقودون الدولة نحو انهيار اقتصادي. وبذلك يحذو الاتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة التي فرضت عقوبات على السياسي المسيحي الأبرز جبران باسيل بتهمة الفساد والمسّ بحكم رشيد في لبنان.
المساعدة الإيرانية للبنان مطروحة، ومن المعقول أن تسبق إيران المنظومة الدولية التي تتردد في المشاركة في ترميم لبنان ما دام غارقاً في أزمة سياسية ولم تؤلَّف حكومة في بيروت
التضافر بين أزمة اقتصادية وطائفية وسياسية وصحية حادة – وصفها البنك الدولي بأنها واحدة من أخطر ثلاث أزمات في العالم – يسرّع في عمليات تفكُّك الدولة اللبنانية ويتسبب بأضرار هائلة لمواطنيها ولنوعية حياتهم…
أي تداعيات على إسرائيل؟
الأزمة العميقة التي يعانيها لبنان، والتي ستزداد تفاقماً، هي مبدئياً أخبار سيئة لإسرائيل. مرحلة عدم الاستقرار التي يدخل فيها لبنان كدولة وانهيار بناه التحتية ومؤسساته يخلق بالنسبة إلى إسرائيل دولة فاشلة أُخرى في الشمال إلى جانب سوريا.
تفكُّك الدولة اللبنانية سيكون له تداعيات استراتيجية سلبية على إسرائيل على الصعيد السياسي- الأمني:
أولاً؛ تعاظُم سيطرة حزب الله على لبنان في المدى المتوسط:
حزب الله هو الكيان الأكثر تنظيماً في لبنان، والذي يحظى بدعم دولة إقليمية عظمى – إيران – التي تقدم له دعماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ولدى حزب الله شبكة خدمات واسعة يقدمها إلى السكان الشيعة في الجنوب اللبناني تعمل بالموازاة مع مؤسسات الدولة، وخصوصاً عندما تتوقف هذه المؤسسات عن العمل (خلال أزمة الكورونا برز جهاز صحي بديل شغله حزب الله).
ثانياً؛ ازدياد النفوذ الإيراني في لبنان:
لقد أثبتت إيران في الماضي أنها تعرف كيف تستغل أوقات الأزمات في لبنان لتوسيع نفوذها في الدولة. مثلاً بعد حرب لبنان الثانية [حرب تموز/يوليو 2006] أرسلت مساعدة إنسانية سريعة إلى القرى الجنوبية (أكياس من الأرز، وإعادة بناء البنى التحتية التي تضررت خلال الحرب وغيرها). الآن أيضاً المساعدة الإيرانية للبنان مطروحة، ومن المعقول أن تسبق إيران المنظومة الدولية التي تتردد في المشاركة في ترميم لبنان ما دام غارقاً في أزمة سياسية ولم تؤلَّف حكومة في بيروت. الأمين العام لحزب الله (السيد) حسن نصرالله سبق أن طرح عدة مرات إمكان وصول ناقلات نفط إيرانية إلى لبنان.
ثالثاً؛ إستمرار وتسريع تسلُّح حزب الله:
ازدياد الوجود والنفوذ الإيراني إلى جانب ضعف آليات الرقابة والسيطرة للدولة اللبنانية من شأنه أن يخلق بيئة مثالية تمنح الحزب حرية العمل لمواصلة بناء قوته بدعم من إيران. بناءً على ذلك، من المحتمل أن يتواصل ويتسارع مشروع بناء القوة العسكرية للحزب بمساعدة إيران، من خلال التشديد على إنتاج صواريخ دقيقة لضرب إسرائيل وقدرات جوية متطورة وغيرها.
رابعاً؛ قيود على حزب الله:
سيضطر الحزب إلى التركيز على التحديات الداخلية ومواجهة الانتقادات الداخلية والدولية بشأن دوره في تفاقُم الأزمة وضد السلاح الذي يحتفظ به خارج سيطرة الدولة. هذا الواقع من المتوقع أن يفرض على الحزب قيوداً بشأن كل ما له علاقة بتحدي إسرائيل على الحدود في إطار معادلات مختلفة، والتدخل في أوقات التصعيد، أو الاحتكاك بين إسرائيل وحماس وإيران، وبالتأكيد الدخول في مواجهة شاملة مع إسرائيل.
في ضوء الأزمة الحالية في لبنان من المتوقع أن تنخفض درجة التساهل الدولي إزاء ضرب البنى التحتية بصورة كبيرة، وهو ما يفرض على إسرائيل أن تفحص من جديد مدى صلاحية فكرة تدمير لبنان في إطار حرب مستقبلية
خامساً؛ إمكان الانفجار يزداد:
حزب الله سيُظهر حساسية شديدة إزاء محاولة إسرائيل استغلال الوضع لضرب قدراته العسكرية. في هذه الظروف يزداد إمكان التصعيد في أعقاب عمليات إسرائيلية استباقية حتى لو كانت محدودة جداً.
سادساً؛ تآكل الردع الإسرائيلي:
كلما تسارع تفكُّك الدولة اللبنانية كلما تعيّن على إسرائيل أن تأخذ في اعتبارها أن تأثير الردع الذي ينطوي عليه ضرب البنى التحتية للدولة اللبنانية سيتآكل. علاوة على ذلك، في ضوء الأزمة الحالية في لبنان من المتوقع أن تنخفض درجة التساهل الدولي إزاء ضرب البنى التحتية بصورة كبيرة، وهو ما يفرض على إسرائيل أن تفحص من جديد مدى صلاحية فكرة تدمير لبنان في إطار حرب مستقبلية.
سابعاً؛ حدود أقل استقراراً:
يجب الاستعداد لظواهر هرب وهجرة وتهريب وعمليات عدائية، وكذلك إمكان أن تستغل التنظيمات الفلسطينية الوضع لزيادة هجماتها ضد إسرائيل مع التركيز على إطلاق الصواريخ.
ثامناً؛ مساعدة دولية كبيرة للجيش اللبناني:
تخوُّف المجتمع الدولي من “خسارة لبنان” من المتوقع أن يعزز إيمانه بضرورة مساعدة الجيش اللبناني. يُعتبر الجيش اللبناني المؤسسة الوحيدة التي تمثل بنية رسمية غير طائفية، والوحيدة القادرة على تشكيل بديل من حزب الله في المستقبل. بناءً على ذلك، على إسرائيل العمل في مواجهة الساحة الدولية للتأكد من عدم حصول الجيش اللبناني على سلاح متقدم يمكن أن يقع بين أيدٍ غير الجيش اللبناني ويهدد الجنود الإسرائيليين في سيناريو تصعيدي.
تاسعاً؛ المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية لترسيم الحدود البحرية:
يبدو أن تفاقُم الوضع في لبنان يزيد حاجته إلى حل الخلاف مع إسرائيل بصورة تسمح للشركات الدولية بالبدء بالتنقيب عن مخزون الغاز في الدولة وتؤمّن تدفّق العائدات المطلوبة التي يحتاج إليها مثل الهواء للتنفس. من جهة ثانية الشلل السياسي وعدم وجود حكومة فاعلة سيجعلان من الصعب على لبنان اتخاذ القرارات المطلوبة للدفع قدماً بالمفاوضات نحو تسوية مع إسرائيل.
عاشراً؛ ازدياد التدخل الأجنبي في لبنان:
من المتوقع أن يعمق تفاقُم الأزمة تدخّل لاعبين إقليميين ودوليين فيما يتعلق بالمساعدة والحلول الاقتصادية والسياسية. من مصلحة إسرائيل أن تقود الولايات المتحدة هذا التدخل وأن تؤخذ مصالحها في الحسبان في الدبلوماسية الدولية بشأن قضايا لبنان.
ما هي أهداف إسرائيل في هذا المجال؟
تعزيز قدرات وصلاحيات القوات الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) لكن من دون زيادة عددها؛ استمرار عملية تصنيف حزب الله بأكمله (ذراعاه السياسية والعسكرية) كتنظيم إرهابي؛ اشتراط تقديم المساعدة إلى لبنان بالطلب الدولي من حزب الله وقف تعاظُم قوته وعملياته العسكرية في المناطق المدنية؛ تقليص النفوذ الإيراني في لبنان بالإضافة إلى ترميم نفوذ السعودية ودول الخليج والمعتدلين في لبنان”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).