“الشيخ حاتم”، في الرواية، هو عالم الدّين الذي عَرِف كيف يستغلّ الظرف المؤاتي من أجل صعود سلّم الشهرة والمال والتشابك الإجتماعي سريعًا، من خلال برامج تلفزيونية تتحكم بمادتها شركات الإعلان التي ترعاها. بمعنى أدّق، برامج دينيّة غبّ طلب أصحاب رؤوس المال والشركات الكبرى المهيمنة في البلد، والتي يملك زرّ صعودها وهبوطها المتنفّذون في الدولة.
بعيدًا عن الخلفيّة السياسيّة والفكريّة التي حكمت عقل إبراهيم عيسى في روايته، يبرز التشابه بين أردوغان و”الشيخ حاتم”، في كون الشخصيّتين، تعيشان بوجهين مختلفين، واحدٌ للجمهور البسيط الذي يحبّذ المواضيع الجذابة والمثيرة، لكن الفارغة من المحتوى والعمق المؤثر، والتي تنطلق مع بدء وميض الضوء الأحمر الصادر عن كاميرا البثّ المباشر، فتصنع منه بطل اللحظة وفارسها، ووجه آخر، حيث يعود “النجم” إلى واقعه الحقيقي مع انطفاء وميض الضوء وانقطاعه عن الجمهور، فيترك مهاراته اللغويّة وفنّه الخطابي، ليواجه مشاكله الواقعية كأيّ إنسان آخر، بأبعاده العاطفيّة والأخلاقية والنفسيّة، بعيدًا عن المثاليّة المفرطة التي تُقولبه فيها الكاميرا أمام الجمهور.
حزب العدالة والتنمية
في البداية، لا بدّ من التّذكير، أنّ ولادة حزب العدالة والتنمية جاء نتيجة انشقاق أردوغان ورفاقه، عن حزب الفضيلة الذي كان يرأسه أبُ الإسلام السياسي في تركيا الراحل نجم الدين أربكان، في لحظة انهيار اقتصادي داخلي، رافقتها تغيرات إقليمية ودولية، فكان أن سارع أردوغان إلى تلقف اللحظة مع من كانوا حلفاءه في نهاية تسعينيات القرن المنصرم. لحظة إستثنائيّة لتقديم حزب ذي توجّه ليبرالي علماني يتماهى مع النموذج الغربي، حظي بمباركة أميركية وبدعم من أصحاب رؤوس المال والأعمال والشركات داخل تركيا.
منذ ولادة حزب العدالة والتنمية في تركيا، لم يبادر هذا التنظيم الناشىء إلى التباهي بأنّه حزب إسلاميّ، حيث صرح عبد الله غول في اليوم الثاني للتأسيس بأنّ “حزبنا ليس حزبًا دينيًا”. صحيح أن أحمد داوود أوغلو (وزير الخارجية وقتذاك) نظّر في البدايات إلى حاجة تركيا أن تكون أكثر صدقًا مع عمقها الحضاري، أي أكثر انفتاحا على تاريخها الإسلامي والعثماني، وذلك كون هذا العمق يمنحها حضورًا قويًا على الساحتين الإقليمية والدولية. في الواقع، هذا الحزب بتصوّراته وتوجّهاته تبنى عقيدة إقتصادية نيوليبراليّة ينعدم فيها أي تدخل للدولة في إقتصاد السوق. هو حزب ديموقراطي محافظ (هكذا يُعرّف هو عن نفسه)، وهذا ما دفع الرأسمال المحلّي والخارجي إلى دعمه والوقوف إلى جانبه ومساهمته في الإنقلاب على مواقع النفوذ الأتاتوركيّة لاحقًا.
يشير أستاذ العلاقات الدولية هنري باركي في مقالة له تحت عنوان “سياسة تركيا الخارجية والشرق الأوسط” إلى العوامل الجديدة المحركة للنشاط التركي في الشرق الأوسط تحديدًا والعالم بشكل عام. العامل الأول، بحسب باركي، هو التغيير الهيكلي العميق الذي حوّل الإقتصاد التركي من اقتصاد يتطلع إلى الداخل، إلى اقتصاد قوي تدفعه حاجة التصدير الى البحث المستمر عن أسواق خارجية جديدة. أما العامل الثاني، فهو طموحات حزب العدالة والتنمية في تحويل تركيا إلى لاعب إقليمي أولا وعالمي ثانياً، ما يعني حاجة تركيا إلى الشعور بالثقة بالنفس والتماسك، وهو ما نجح الحزب في إرسائه.
الإخوان المسلمون.. هجرة مستمرة
في مقالة تحت عنوان “المشهد السعودي بين السلفيّة والإخوان”، يشرح أستاذ علم الإجتماع السياسي الدكتور عبد الله فيصل آل ربح ظروف نشأة الإخوان المسلمين وآلية تطورهم وحركتهم. لقد شكلّ إعلان إلغاء الخلافة من قبل أتاتورك عام 1924 م مادّة مُلهمة للنقاش في الأوساط العلمية الإسلامية حول أهميّة إبقاء الخلافة كرمز جامع للمسلمين يتكفّل بتوحيد سعيهم لنيل الإستقلال والحصول على أسباب النهضة والتقدّم كما يشير آل ربح. وفي هذه الظروف، يضيف الكاتب، أسّس الشيخ حسن البنا عام 1928م جماعة الإخوان المسلمين كجماعة دعويّة تُروّج إلى اتّخاذ الإسلام نهجًا لإدارة المجتمع ولحكم الدولة.
استطاع العقل البراغماتي للجماعة التعايش مع نظام الحكم الملكيّ الدستوريّ في مصر الذي ضمن التعدديّة السياسيّة تحت مظلّة الملك، وراحت تتمدّد في دولٍ أخرى بقيادات محليّة. ثم حدث انقلاب حركة الضباط الأحرار عام 1952 م فقامت الحركة فور تسلمها السلطة بحلّ الأحزاب السياسيّة جميعًا مستثنية جماعة الإخوان من ذلك القرار (ربما بسبب حجمها ونفوذها الكبيرين حينذاك)، ليحتدم الصّراع لاحقًا بين الرئيس جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين على حكم وإدارة مصر، ثم جاءت محاولة اغتيال عبد الناصر لتُبرر حلّ الجماعة، وإعدام سيّد قطب الرمز الإسلامي الحركي الأبرز، وزجّ قسم من قيادات الإخوان في السجون، وتهجير قسم آخر، ذهب عدد منهم إلى السعودية، في ظلّ احتدام الصراع بين مصر الجمهورية القومية، والسعوديّة الملكيّة “الإسلامية” (الصراع أيضاً بين مرجعية الأزهر الشريف والمرجعية الوهابية في السعودية).
في مقال آخر له تحت عنوان “السروريّة، ما هو أبعد من سرور”، يُبين آل ربح عمليّة التفاعل التي حدثت بين الوهابيّة والإخوانيّة، وتأثير كلّ حركة على فكر الأخرى، كما يشرح عمليّة التبادل المصلحي بين كلّ من نظام الحكم في السعودية وقيادة الإخوان المسلمين، حيث اجتمعا على عداء عبد الناصر ومحاصرته ومحاولة إسقاط حكمه.
شكل غزو صدام حسين للكويت عام 1990 م نقطة تحوّل كبيرة في العلاقة بين السعودية والإخوان المسلمين، حيث ظهر الخلاف السياسي المستند على خلفيّة عقائدية إلى العلن وبقوّة بين الطرفين. ففي حين دعا الملك الراحل فهد بن عبد العزيز القوّات الأميركيّة للمجيء إلى “بلاد المسلمين” من أجل حمايتها وإخراج قوّات صدّام حسين من الكويت، وقف قادة الإخوان وعلى رأسهم أبرز رموزها سفر الحوالي وناصر العمر وسلمان العودة في وجه هذه الدعوة، واعتبروا وجود القوات الغربيّة الكافرة، أشدّ خطرًا وتهديدًا مما قام به الرئيس العراقي السابق، ومعها بدأت عمليّة التطهير والتهجير مرّة أخرى لقادة الحركة في اتجاهات متعدّدة.
تركيا والإخوان
في كتابهما “صعود الإسلام السياسي في تركيا”، يعود الكاتبان أنجيل راباسا وف. ستيفن لارابي إلى جذور تشكل الأحزاب والجمعيات السياسية الإسلامية، بحيث يُعيدانها إلى الإصلاحات التي تمت في المرحلة العثمانية المتأخرة وإلى طبيعة التحول السياسي الذي تم بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923م، الذي سعى لجعل تركيا دولة علمانية غربية حديثة من خلال “ثورةٍ فوقية”. هذا التحوّل الإسقاطي على المجتمع التركي، لم يسمح باقتلاع العمق الإسلامي لعامّة الشعب، خاصة أهالي القرى والأرياف حيث استمرّ تأثير الحركات الصوفية على عموم الناس هناك.
يعتبر الكاتبان أن إنشاء النظام المتعدد الأحزاب عام 1946م شكل نقطة تحوّل في حركة الإسلام السياسي في تركيا، بحيث أصبح الإسلام عاملًا هامًّا في جذب أصوات النّاخبين، على اعتبار أن الدولة العلمانية المتشدّدة لم تقضِ على روح الإسلام بل أقصته بفعل عوامل قهريّة بشكل عام. ثم جاء صدام الإخوان المسلمين في مصر مع الرئيس جمال عبد الناصر ليشكل عاملا محفزًا للجماعة كي تخترق الساحة التركيّة. كان صاحب الدور الأكبر في ذلك سعيد رمضان من خلال مشاركته في العديد من المؤتمرات التي عمل من خلالها على توثيق الصلة بالمثقفين الإسلاميين بتركيا.
ثم جاء صعود البروفيسور نجم الدين أربكان مؤسس حركة “ميللي غوروش” أي الرأي الوطني، لتفرض أمرًا واقعًا بتحول الإسلام إلى فاعل مؤثر لم يعد بالإمكان تجاوزه على الساحة السياسية ـ الحزبية في تركيا. لا شيء يدلّل على انتماء “ميللي غوروش” يومًا للإخوان المسلمين، لكنّ علاقتها وتأثرها بالجماعة كان واضحًا وجليًا، وكذلك علاقة أربكان بقادة الجماعة ومفكريها في مصر خاصة والعالم العربي والإسلامي عامة.
في بداية تأسيس حزب العدالة والتنمية، في العام 2001، كان موقف الإخوان من الحزب الوليد ضبابيًا ومتوجسًا نوعًا ما، باعتباره يُمثل انشقاقًا عن الحركة الإسلامية الأم، بحسب الباحث الفلسطيني المختص بالشأن التركي سعيد الحاج. لكن أفول مرحلة أربكان وتقدم ونجاح مشروع العدالة والتنمية في تطوير الإقتصاد وفكفكة قبضة الدولة الأتاتوركية، ترك أثره عميقًا على قيادات الإخوان ولا سيما الشبابية منها، وبدل أن يكون فكر الإخوان هو المؤثر على عقل حزب العدالة والتنمية، أصبح العكس هو الواقع. ثم جاء ما سُمي بـ”الربيع العربي” ليكشف حاجة الإخوان لنموذج، أيّ نموذج، يعطيهم التصوّر الملائم لطريقة إدارة الحكم، فكان نموذج حزب العدالة والتنمية الذي نسخ العديد من المبادىء الجوهرية التي نادى بها الإخوان على مدى عشرات السنين، فأصبحت رسالة الرئيس المخلوع مرسي لرئيس الكيان الإسرائيلي وإمضاء رئيس الحكومة المغربي الإخواني على قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني مثالًا واضحًا على انقلاب “إخوان أردوغان” على ثوابتهم الأصيلة.
خسائر لا تنتهي
لقد استفاد أردوغان من قوّة وشعبية الإخوان المسلمين في كل من سوريا ومصر وتونس وليبيا تحديدًا للحدّ الأقصى الممكن خاصة بعد “الربيع العربي”، وهذه قضية لا تحتاج إلى كثير شرح أو توضيح. لكن ما يحتاج إلى الكثير من البحث، هو أين استفاد الإخوان العرب من تركيا؟ وما الذي قدّمته تركيا لهم، سوى أنّها علّمتهم المزيد من البراغماتية الإنتهازية التي قد تتناسب مع تركيبة المجتمع التركي.
اليوم، يُعيد أردوغان تقييم سياساته الخارجية. لم يعد الإخوان الحصان الرابح، وجميع أحزابهم تقريبا أقصيت من السلطة، والمصالح البراغماتية التي علمها أردوغان للإخوان العرب لا تحتمل الإنتظار كثيرًا. فاستخراج غاز المتوسط يحتاج لإعادة العلاقة مع مصر عبد الفتاح السيسي، ما يعني وجوب تهذيب الخطاب التركي ضد النظام المصري وحتى إسكاته ويسري ذلك أيضًا على إخوان مصر الذين تحتضنهم تركيا.
وبالعقلية البراغماتية ذاتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغ التبادل التجاري بين تركيا والإمارات 7.4 مليار دولار عام 2019، وتعد الإمارات أكبر مستثمر عربي خلال 18 عاما في تركيا بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي. من المنطقي أن لا يتخلى أردوغان كليّة عن الإخوان، لكنّه يبرع في عملية صرفهم و”تصريفهم” ومقايضتهم وفق ما تقتضيه مصلحة إستمراره على رأس السلطة.
بالعودة إلى رواية “مولانا”. يكتشف “الشيخ حاتم” الذي أخذته نشوة الصعود المفاجىء إعلاميا وماليا وتودّد رموز السلطة له، أنها جميعها لم تكن سوى وهمٍ تتحكم فيه مراكز السلطة والنفوذ الحقيقيّة في البلد، وأنّه لم يكن أكثر من أداةٍ أو ألعوبة بيد هذه القوى، بإشارة منها تمتلىء الشاشات به حين تقتضي مصلحتهم، وبإشارة أخرى، يتحوّل إلى ممثّل إعلاني هزيل يضع صوته على دعاية لشركة صغيرة لشاب غير معروف. رواية إبراهيم عيسى فيها الكثير من العبر.