“الهيبة”.. من سركيس إلى بايدن مروراً بعاشوراء بغداد!

سقطت هيبة الولايات المتحدة الأمريكية في مستنقع هزيمة استراتيجية في أفغانستان لم ينتج عنها عودة طالبان إلى السلطة وحسب بل إستشعار كل حلفاء أمريكا في شتى أنحاء العالم بالعراء والبرد. هزيمة لا بد وأن تَستدرج لاعبين دوليين أو إقليميين لملء الفراغ. ربما نكون أمام إعادة صياغة نظام دولي وإقليمي جديد مع الانسحاب الأمريكي من كابول.. والشرق الأوسط حتماً لن يكون بعيداً عنه أو خارجه.

ثمة عبارة مرصوفة بين أروقة أكثر مباني المؤسسات الفدرالية الامريكية حراسة وأشهرها دعاية. مؤسسة مترامية الاطراف تتخذ من الصمت المريب سياسة إلى درجة انها تكرّم جنودها القتلى بنجوم معلقة لا تحمل اسماءهم تماشياً مع مذهبها في العمل السري. العبارة صاخبة بمضمونها: “كل يوم هو الثاني عشر من سبتمبر (أيلول)”.

ليس من عادة اهل الأمن والإستخبارات ان يبيحوا بخططهم. غير ان اهل وكالة المخابرات المركزية الامريكية (CIA)، وهم مجبولون بصناعة المؤامرات وحفظ الاسرار جاهروا بنواياهم بكل وضوح: لن ننسى اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). لن نغفر ولن نسامح. هم يقولون بصوت عالٍ نحن أقوياء حتى في ضعفنا. سننتقم في كل يوم.

من قال ان امريكا لا تحب الشعارات. الدولة صاحبة شعار “الحلم الامريكي” و”الله يبارك امريكا” هي دولة ولّادة شعارات. دولة قادرة على صياغة ثقافة العالم و”قِيمه” تملك من القوة الناعمة ما يعادل ترسانة مليونية من الصواريخ النووية، حتى صار عالم السوشيل ميديا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ يصنع رئيس أميركا (نموذج فوز دونالد ترامب قبل خمس سنوات لولاية أولى وأخيرة).

الإمبراطورية الأمريكية تنتج الشعارات أكثر من السياسات. إنتاج الشعارات ليس حكراً على أهل الفن والثقافة والاقتصاد في أمريكا. لو قرأنا تاريخ نشأة الإمبراطورية سنجد شغفاً سياسياً بهذا النوع من القوة الناعمة. كل رئيس في البيت الأبيض يبحث عن شعار (لوغو) لعهده. الرئيس الشاب جون كينيدي. الرئيس الفلاح جيمي كارتر. الرئيس المؤمن رونالد ريغان. الرئيس بوش الابن الذي اعتقد انه يد الله في الأرض. هذه الدولة استطاعت وبرغم التحديات الداخلية والعالمية أن تبني فاصلا بيروقراطيا بين الشعارات والسياسات، لكأنها تدرك أن ما يحرك الدول هو حسابات القدرة وليس الرغبة. حافظت البيروقراطية على وتيرة عمل تفرّق بين الشعارات والسياسات، الأولى وقود والثانية طاقة. هكذا هيمنت الإمبراطورية على العالم طيلة القرن العشرين.

قال إلياس سركيس لجوني عبده إنه يريد توحيد البندقية تحت راية الجيش الوطني وإعادة بناء الدولة ومعها الاقتصاد المنهك وجمع قادة الأحزاب والميليشات المتقاتلة تحت قبة البرلمان. لم يتمالك رجل الأمن والمعلومات نفسه فسأل رئيسه: “انت تريد سياسة لإدارتك أم إدارة لسياستك”؟

تمت صياغة مصطلح “القرن الأمريكي” في العام 1941 في مقالة للكاتب هنري روبنسون لوس، مؤسس مجلة “تايم” الأميركية والشخصية الأكثر تأثيراً في تاريخ الولايات المتحدة. إقترح لوس في مقالته “أنه يمكننا أن نجعل الأممية الأمريكية شيئاً طبيعياً حقاً بالنسبة إلينا في عصرنا مثل الطائرة أو الراديو”. رؤية تحققت غداة الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر.

في مطلع القرن الحادي والعشرين وتحديداً في الثاني عشر من سبتمبر (أيلول) انولدت لحظة استثنائية في مسار التاريخ الأمريكي. لحظة اندمجت فيها مصالح الدولة مع مشاعرها. تجسدت هذه اللحظة امام سيد البيت الابيض. رجل يبحث عن مجد يضاهي مجد والده الذي سبقه إلى المنصب ذاته. فما كان منه الا ان تفاعل مع اللحظة بكل ما تحمل من تعبئة نفسية ممهورة بختم المؤسسة الامريكية. إندمجت المصالح بالمشاعر فأنتجت حالة إنتقام هجينة بلا إستراتيجية محددة.

دفع شعار الانتقام امريكا الدولة الى البحث عن الوسيلة لا عن الغاية. إلتبست الحدود الفاصلة بين السياسات والشعارات. هناك فرق بين السياسات العامة للدولة وشعارات ادارة الدولة. الاولى ثابتة والثانية متحركة. شخص الرئيس ليس عنصراً مقرراً لأن صنع السياسات مهمة تقع على عاتق مؤسسات الدولة مجتمعة. أما شعارات الادارات المتعاقبة.. فلا تتجاوز السقف الاستراتيجي للدولة.

لم يجد جورج بوش الابن من يشرح له الفرق بين السياسة والادارة. شعار الانتقام كان اقوى من اي كلام تحت سقف المنطق. كأنه تيار كهربائي عظيم صعق البيروقراطية الامريكية وعطل خلاياها الدماغية.

لم يجد بوش الابن من يهمس في اذنه كما همس الضابط اللبناني جوني عبده في اذن رئيس جمهورية لبنان إلياس سركيس (1976 ـ 1982). تكلم سركيس كثيراً داخل قصره المحاصر بمدافع المتقاتلين، من لبنانيين وجنسيات متعددة. دولته تنهار وسيادة بلده مثقوبة من كل الجهات وحدود نفوذه لا تتجاوز عتبات قصر بعبدا. استدعى سركيس رئيس مخابراته في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. قال سركيس لجوني عبده إنه يريد توحيد البندقية تحت راية الجيش الوطني وإعادة بناء الدولة ومعها الاقتصاد المنهك وجمع قادة الأحزاب والميليشات المتقاتلة تحت قبة البرلمان. لم يتمالك رجل الأمن والمعلومات نفسه فسأل رئيسه: “انت تريد سياسة لإدارتك أم إدارة لسياستك”؟

أمريكا لم تسقط لان شعاراتها سقطت، ولم تفشل لان علمها كان يحرق في الساحات والشوارع. وبالتأكيد لم تخسر الحرب في العراق وأفغانستان لان رئيسها شُتم او حتى ضُرب بحذاء. امريكا الإمبراطورية سقطت لأنها باتت أسيرة لحظة سياسة انتقامية تناقض حقائق تاريخية وتعارض شخصية جغرافية هما علة وجودها.

 الضابط الأمريكي سأل أحمد الشلبي “من أمر بمثل هذا التحرك الشعبي في بغداد”؟ أجابه الشلبي “إنه الإمام علي، هذا شخص مقدس عند أهله”. استفسر الأمريكي قائلاً “هل لديك تواصل معه”؟ أجاب الشلبي “ممكن، ماذا تريد أن أقول له”؟ “أطلب منه أن يتحاور معنا”، قال الضابط الأمريكي.. وانتهى الحوار بين الرجلين!

في العراق كان التناقض التاريخي فاضحاً. درس تعلمه قائد القوات الأمريكية في بغداد في أول أيام إحياء عاشوراء بعد الغزو الأمريكي مباشرة. في هذا اليوم خرج المسلمون الشيعة في بغداد كما هي عادتهم. خرجوا مشياً متجهين نحو مرقد الإمام الحسين. يوم “الركضة” كما في اللهجة العراقية الدارجة خرج آلاف العراقيين بكل تلقائية منتشرين في شوارع بغداد، الأمر الذي أصاب الجنود الأمريكيين بحالة رعب. إتصل القائد العسكري الأمريكي بأحمد الشلبي، أحد قادة المعارضة العراقية ممن عادوا على متن الدبابات الأمريكية. سأل الأمريكي “صديقه” الشلبي كيف فات الاستخبارات الأمريكية عدم رصد الانتفاضة الشعبية العراقية المفاجئة والسريعة. أدرك الشلبي هشاشة ثقافة صديقه الأمريكي وعدم إلمامه بالتاريخ الإسلامي، فقرر أن يلعب على وتر هيبة قوات التحالف وإخفاق جهازها الأمني.

إقرأ على موقع 180  عالم العقل الذي لا عقل له

سأل الضابط الأمريكي ضيفه العراقي وبجدية تامة “من أمر بمثل هذا التحرك الشعبي في بغداد”؟ أجابه الشلبي “إنه الإمام علي، هذا شخص مقدس عند أهله”. استفسر الأمريكي قائلاً “هل لديك تواصل معه”؟ أجاب الشلبي “ممكن، ماذا تريد أن أقول له”؟ “أطلب منه أن يتحاور معنا”، قال الضابط الأمريكي.. وانتهى الحوار بين الرجلين!

كم من حدث تاريخي فات قادة القوات الأمريكية في أفغانستان؟

النزول الى البر الأسيوي جاء معارضاً لشخصية الدولة التي ارادت ان يكون الثاني عشر من سبتمبر (أيلول) هو كل يوم. هذه الدولة البحرية يناقض نزولها الى البر جيناتها التكوينية. الدولة المحمية بالمحيطين الأطلسي والهادئ نزلت الى أفغانستان في وسط أسيا، ثم العراق في غرب أسيا، مدفوعة بشعار الانتقام. النزول البري الامريكي هو ردة فعل بقيادة كبرياء الدولة ومشاعرها وليس عقلها. عندها وقعت امريكا في الفخ الذي نصبته لنفسها.

في يوم الثاني عشر من سبتمبر (أيلول)، بدأ العد العكسي لنهاية دولة الشعارات. هل يصبح مستغرباً ألا ينام بعض حلفاء أمريكا عند مشاهدتهم المشاهد المخزية والتاريخية في مطار كابول؟

إختارت أمريكا “محاربة الإرهاب”، شعاراً مكملاً لشعار الانتقام.. هدفان يحتملان أن يكونا مجرد شعارات لا سياسات. لعل قادة الإمبراطورية الأمريكية تناسوا أهم قاعدة في العلوم العسكرية. قاعدة تقول إنه لا يستطيع اي جيش تسليح نفسه من غير معرفة عدوه. الارهاب ليس عدوا. هو سلاح العدو. الاسلام ليس عدوا بل هو دين من يسمى “العدو”. من يفسر كيف قررت القوة الأمريكية الصلبة أن تحارب في أفغانستان “مقبرة الإمبراطوريات” ثم في “عاصمة الدنيا” بغداد؟

الشعار كان أقوى من السياسة. أصحاب العقول الحامية و”المروسة” سيطروا على مقادير الدولة الأمريكية. في الحربين الكورية والفيتنامية كان الهدف واضحاً: وقف التمدد الشيوعي وبناء حائط سد أمام التوغل السوفييتي. مع ذلك انسحبت القوة الأمريكية من البر الفيتنامي الى البحر بخسارة لا بهزيمة. خسارة تحولت لاحقاً إلى ربح بالقوة الناعمة وبالإقتصاد. كوريا الجنوبية ما زالت تستضيف قواعد عسكرية أمريكية لكن أمريكا بنت هناك دولة بكل معنى الدولة.

في العام ١٩٩٠م تباهى الرئيس بوش الاب بنجاح حرب تحرير الكويت من صدام حسين. اذاع يومها انها كانت “حرباً نظيفة”. ثم دعا اهل العراق للمطالبة بحريتهم. انتفض العراق في الجنوب فقامت قوات النظام العراقي بسحق الانتفاضة. بالرغم من ذلك استطاعت امريكا تبني سردية الانتصار لأنه ببساطة كان لها هدف وحيد: تحرير الكويت. بالرغم من ذلك خسر الرئيس بوش الأب وواشنطن لم تنهزم.

ليست هناك حرب نظيفة بمقدار أنه ليست هناك هزيمة للحرب بطريقة لائقة او ظريفة. الحرب هي عندما تعجز الدبلوماسية عن الحل. المدافع هي وسيلة من وسائل التفاوض. لكن للمدفع اهداف وشروط. الهزيمة الامريكية لم تحصل بسبب غياب الهدف، بل لتعدد الاهداف وبالتالي شروط النصر. كلما قلّ عدد الاهداف زادت نسبة نجاح العمل العسكري.. والعكس صحيح.

في يوم الثاني عشر من سبتمبر (أيلول) تكدست شعارات الامبراطورية فوق بعضها البعض طامسة أهدافها السياسية.

في يوم الثاني عشر من سبتمبر (أيلول)، بدأ العد العكسي لنهاية دولة الشعارات. هل يصبح مستغرباً ألا ينام بعض حلفاء أمريكا عند مشاهدتهم المشاهد المخزية والتاريخية في مطار كابول؟

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد إنتصار بوتين في أوكرانيا.. أو إنكساره!