المقارنة بين ”طالبان” وفيتنام.. ”حرام شرعاً”!

حمل مشهد الإنسحاب الأميركي من افغانستان إغراء المقارنة بنظيره الذي شاهده العالم قبل ستة وأربعين عاماً في فيتنام، فمثلما تعلق ألوف الفيتناميين بأذيال الطائرات الأميركية في مدينة سايغون طمعاً بالهروب من مرحلة ما بعد الإنتصار المدوي للرايات الحمراء، كانت جموع الأفغان في مطار كابول تخطو الخطى نفسها، متسولة جناح طائرة أو باباً يفتح لها ثغرة للفرار من نظام ”طالبان”.

إغراء المقارنة يتوسع إلى ما يتجاوز ظواهر المشهد، وليتصل بعمق السؤال عما إذا كانت ”طالبان” مدرجة في إطار حركات التحرر الوطني كما هي حال قوات ”الفيتكونغ” التي تعاونت مع أشقائها الفيتناميين الشماليين لإخراج القوات الأميركية من جنوبي فيتنام.

عنصر الإغراء الثاني يتمثل في إيمان أو عدم إيمان حركة ”طالبان” بالهوية الوطنية الجامعة للأفغان، فهذه إشكالية يكتنفها ضباب كثيف، فثمة فارق شاهق بين أن تصل حركة عسكرية ـ إيديولوجية إلى السلطة فـ”تحكم الأرض”، وبين حركة تحرر وطني مهما كانت إيديولوجيتها تتسلم مقاليد الحُكم انطلاقاً من رؤية مسبقة ركيزتها ”وحدة الشعب”، ففي الحالة الأولى، لا ضير من الإستمرار بالسلطة حتى لو فرغت الأرض من ناسها، وفي الحالة الثانية تتمحور آليات الحُكم حول الإلفة الوطنية وبرامج التنمية والرفاهية، مما يؤدي تلقائياً إلى تعزيز وحدتين: وحدة الشعب ووحدة الأرض، وهو الأمر الذي درجت عليه السلطات الفيتنامية منذ توحيد فيتنام عام 1975، واستكملته بالقفزة  الكبرى في عام 1986 حين سلكت طريق ”التجديد المستمر” المعروف بـ”دوي موي”، وسيأتي الحديث عنه بعد حين.

وأما عنصر الإغراء الثالث فينحصر في وعي وإدراك ”طالبان” لمفهوم ”الإمارة”، وحدودها الجغرافية، صحيح أن حركة ”طالبان” أعلنت عن قيام ”إمارة أفغانستان الإسلامية” بعد دخول قواتها العاصمة كابول، مما يوحي بأفغنة المفهوم، إلا أن المحمول الفكري والتراثي لـ”طالبان” يناقض ظاهر الإعلان، أو على الأقل يضعه في موضع الشك، فالموروث الفكري والتاريخي لمفهوم ”الإمارة” الذي تغذت ”طالبان” من أبجديته ونصوصه، لا يعترف بحدود ولا بجغرافيا، وما الحدود في ذلك المفهوم إلا حيث تصل ”أقدام المجاهدين”، وفي تاريخ ”المسالك والممالك”، ما يغني عن ”البيان والتبيين” في هذا المجال.

منذ نشوء ”طالبان” تعاقب على قيادتها ثلاثة أمراء هم الملا محمد عمر والملا اختر منصور والملا هبة الله أخوند زاده، والثلاثة من قبائل ”الباشتون”، وهذا بحد ذاته يثير حفيظة الإنتماء الوطني لدى المكونات الأفغانية الأخرى، وخصوصاً الطاجيك الذين يشكلون نسبة 29% من مجموع الأفغان

وعموماً، فإن مفهوم ”الإمارة” ينتظر سلوكاً طالبانياً عملياً لا يمكن أن ترتسم ملامحه إلا بعد استقرار الأوضاع (في حال استقرت) في افغانستان والإمساك الكامل بزمام السلطة، وبإنتظار مآلات الأحداث وتعاقبها، فإغراء المقارنة مع النموذج الفيتنامي، سيبقى مفتوحاً، ولعل التطرق إلى الركائز والمفاهيم التي انطلق منها “الطالبانيون” والفيتناميون في إدارة مرحلة ما بعد خروج قوات الإحتلال، قد يعطي تصوراً أولياً ومسبقاً، عما يمكن أن تبقى افغانستان عليه من جمود وتحجر، وعما وصلت إليه فيتنام من نهوض علمي وتطور اقتصادي، من المتوقع أن يجعلاها خلال عقد ونيف في طليعة دول العالم.

ـ في النموذج الطالباني أولاً: منذ نشوء حركة ”طالبان” تعاقب على قيادتها ثلاثة أمراء هم الملا محمد عمر والملا اختر منصور والملا هبة الله أخوند زاده، والثلاثة من قبائل ”الباشتون”، وهذا بحد ذاته يثير حفيظة الإنتماء الوطني لدى المكونات الأفغانية الأخرى، وخصوصاً الطاجيك الذين يشكلون نسبة 29% من مجموع الأفغان، وإذا ما تمت الإشارة إلى التعيينات الإدارية والوظيفية التي اعتمدتها ”طالبان” خلال مرحلة حكمها، فإن وزيراً واحداً من غير ”الباشتون” تقلد حقيبة وزارية هي التعليم، وهو من “الأوزبك”، مثلما جاء في دراسة قيمة لكرم الحفيان نشرها ”المعهد المصري للدراسات” في السادس والعشرين من تموز/ يوليو 2019.

هذا السؤال الذي يغور في عمق الحساسية الوطنية الأفغانية، ترفع من وتيرته القلقة المواجهات الدامية بين الطاجيك والأوزبك والهزارة من جهة، وبين ”طالبان” من جهة ثانية منذ لحظة نشوئها وتمددها السريع ابتداء من عام 1994، وكذلك وقوف الثلاثي المذكور داعماً لعملية إسقاط النظام الطالباني في عام 2001 بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ويطرح كل ذلك على نصف الأفغان تقريباً، سؤالاً بالغ الأهمية حيال نظام الحُكم المقبل في افغانستان، وهل هو نظام وطني أفغاني أم انه نظام باشتوني قبلي؟.

بحسب المنطوق السياسي لحركة ”طالبان”، ستقيم ”الإمارة” نظاماً سياسياً يعتمد على تطبيق ”الشريعة الإسلامية”، وهذا المنطوق أو هذا الخطاب، يقتضي التنقيب في أدبيات ”طالبان” عن مفاهيمها لطريقة الحُكم وإدارة البلاد، والبداية من مؤسسها الملا عمر:

في كلمة ألقاها الملا محمد عمر في الرابع من نيسان/ابريل 1996، حدد فيها أهداف حركة ”طالبان” ومحددات النظام الذي ترغب الحركة في إقامته، ومن بين تلك الأهداف: أن يكون قانون الدولة مستمداً من الشريعة الإسلامية؛ تعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة؛ اختيار منهج إسلامي شامل لجميع المدارس والجامعات وتدريس العلوم العصرية؛ أسلمة اقتصاد الدولة والإهتمام بالتنمية في جميع المجالات.

قد يكون من الأهمية والضرورة التوقف عند رؤية الملا عمر عن ”المنهج الإسلامي الشامل لجميع المدارس والجامعات”، فرغم تأكيده على تدريس العلوم العصرية، يبدو قوله حمّال أوجه وتفسيرات، ففي عدد (آب/اغسطس2014) من مجلة ”الصمود” الشهرية شبه الناطقة بلسان الحركة ”أن الإمارة الإسلامية أثبتت أنها تحتضن مشروعاً تربوياً فكرياً على أساس العزة والكرامة وعدم الرضا والهوان”، وتساءلت المجلة نفسها (حزيران/يونيو 2021) ”ما معنى أن تكون الدولة مسلمة ومواد الدراسة في المدارس والجامعات وفق المناهج الغربية”؟

حين خرج الأميركيون من فيتنام، كان الفيتناميون من أفقر شعوب الأرض، و70% منهم، كانوا يعملون في زراعة الأرز، وأغلبهم لم يكن بمقدورهم تناول وجبة ونصف وجبة أرز يومياً، بينما تحتل فيتنام في هذه الآونة المرتبة الثالثة عالمياً في تصدير هذه السلعة الإستراتيجية

كيف تفهم ”طالبان” السياسة وما موقفها من الإنتخابات؟

إقرأ على موقع 180  «الإجهاض» معركة أمريكية باسم حماية الدين

كتب غلام الله الهلمندي (نيسان/ابريل 2021) في مجلة ”الصمود” قائلاً ”وأما السياسة عندنا فهي علم شريف وعمل نبيل، والتعريف الجامع لمصطلح السياسة في الشرع: كل ما يصدر من ولي الأمر من أوامر وأفعال تحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة”.

أين الشعب والإنتخابات؟

يجيب عن هذا السؤال ”أبو خالد” في عدد ”الصمود” (آب/اغسطس 2014)، فيقول ”برزت في أفغانستان هذه الأيام ثلاثة أمور، فكرة الإنتخابات؛ المرشحون؛ وكيفية إجراء الإنتخابات، فكرة غربية هشة القوام شبيهة بالسراب، لأن الإنتخابات لم تكن يوما من الأيام حاجة من حاجات الشعب”.

ـ في النموذج الفيتنامي ثانياً: رب سائل يسأل حول وجود نظائر ومتشابهات عدة بين ”طالبان” والشيوعيين الفيتناميين الذين آلت إليهم السلطة بعد الإنسحاب الأميركي من فيتنام عام 1975، ومن بين أوجه الشبه تلك، الشمولية الحادة التي تجمع الطرفين، وسلطة الحزب الواحد، وعدم الإيمان بالديموقراطية والعملية الإنتخابية.

من  ضمن هذا المنظور، لا شك بوجود متشابهات أساسها الإيديولوجيا المفرطة والمتطرفة، وهي ناشئة بالأصل من رؤية وهمية متضخمة تزعم صوابية تفسيرها لكل العلوم والظواهر، من السياسة إلى الإقتصاد، ومن التربية إلى العلوم، ومن فنون القتال والحرب إلى فنون الشعر والطرب، وتدعي في الوقت نفسه حلولاً لها وعلاجاً.

لكن مع الحالة الفيتنامية، وبإستثناء الإنتخابات وسلطة الحزب الواحد، سرعان ما تجاوز العقل الفيتنامي جموده الإيديولوجي الأحمر، وابتداء من عام 1986، فتح الطريق نحو ”التجديد المستمر” المذكور سابقاً، وأقلع عن الإقتصاد الموجه، وأنتج خليطاً بين ”ثقافة سايغون” و”ثقافة هانوي”، تماماً مثلما فعلت الصين بعد رحيل ماو تسي تونغ، إذ تطلعت إلى تجربة هونغ كونغ فعممتها على الأنحاء الصينية كافة مع الإحتفاظ بدور الحزب الشيوعي كقاعدة للحُكم وناظم وقائد وضابط للحياة السياسية.

حين خرج الأميركيون من فيتنام، كان الفيتناميون من أفقر شعوب الأرض، و70% منهم، كانوا يعملون في زراعة الأرز، وأغلبهم لم يكن بمقدورهم تناول وجبة ونصف وجبة أرز يومياً، بينما تحتل فيتنام في هذه الآونة المرتبة الثالثة عالمياً في تصدير هذه السلعة الإستراتيجية، وأما كيف جرى ذلك؟ فلأن القادة الفيتناميين تأملوا وتفكروا وسألوا: كيف نكرم الإنسان في فيتنام؟ هذا السؤال لم تستغرق الإجابة عليه طويلاً، فالإجابة أوجزها تجديد الفكر المعروف بـ”دوي موي” والقاضي بإنتهاج إصلاحات اقتصادية جذرية.

لم يتوقف القادة الفيتناميون امام جمود النصوص الحمراء، فالجارة الصينية، كانت نزعت العباءة الماوية قبلهم بسنوات، والإتحاد السوفياتي ـ كما منظومته ”الرفيقة” في أوروبا الشرقية ـ كان يعيش لحظة احتضاره، فأيقنوا أن الواقع أشد بلاغة من النص مهما احتوت ألفاظه ومفرداته محسنات ومزينات، وعلى هذا التصحيح والتصويب ساروا نحو الفصل بين ما هو رأسمالي في الإقتصاد وبين ما هو يساري في نمط السلطة ومعايير تسيير الحكم والدولة، أي أنهم وقفوا في منزلة بين منزلتين على أرض واحدة.

وجراء هذا التحول الفكري، أو التجديد الفكري إذا شاء البعض،  بلغ الناتج المحلي الفيتنامي في عام 2020، ما يقارب 430 مليار دولار، بعدما كان في عام 2013 حوالي 170 مليارا، وبعدما كان حجم الصادرات الفيتنامية عام 2015 قد قارب 162 مليار دولار، وارتفع في عام 2018 الى 245 مليارا، أعلن رئيس وزراء فيتنام، نجوين شوان فوك، أن حجم الصادرات الفيتنامية سيصل إلى 300 مليار دولار في عام 2020، بحسب ما نقلت عنه وكالة ”بلومبرغ” في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2019، ونقلت قناة ”روسيا اليوم” في الخامس من نيسان/ابريل 2017، أن فيتنام ”تخطط لجذب استثمارات أجنبية في مشاريع بنية تحتية بقيمة 480 مليار دولار أميركي ما بين 2017 و2020”.

وفي معرض تحليلها للنهوض الفيتنامي، كتبت صحيفة ”الأهرام” المصرية (6 ـ 9 ـ 2017) “أن أحد عناصر نجاح التقدم الاقتصادي والصناعي فى فيتنام هو التعليم، وقد أدركت السلطات أن التعليم الراقي هو الذى قاد اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين إلى التقدم، فعمدت إلى تطوير التعليم بصورة راقية وخصصت نحو 7% سنوياً من ميزانية البلاد للإنفاق على التعليم”، وفوق ذلك، تمول الدولة الفيتنامية تعليم عشرات آلاف الطلاب الفيتناميين في الجامعات الغربية، بينهم 17 ألف طالب في الولايات المتحدة، مثلما ورد في تقرير منشور على موقع وزارة الخارجية الأميركية في الخامس من آب/أغسطس 2015.

ومضة أولى:

قبل 15 عاماً كان أكثر من نصف الأراضي الفيتنامية لا يعرف الكهرباء، وفي العام الماضي، بات أكثر من 97% منها مضاء بشبكة كهرباء متطورة، وفي عام 2001، كانت نسبة الفقر في فيتنام تتجاوز 60%، وهبطت هذه النسبة إلى17% في عام 2015، وبعدما كانت نسبة الفقر المدقع في عام 1993 بحدود 54%، تدنت في عام 2018 إلى 3%.

ومضة أخيرة:

إذا كان قادة ”طلبان” سيتأملون ويفكرون بأحوال الإنسان كما فعل قادة فيتنام، تجوز المقارنة بينهم بدون ريب، وأما إذا كان خطاب ”الزهد”، وهو الخطاب المتوقع من ”طالبان” سيشكل عماد الإقتصاد في ”الإمارة” المنتظرة، فالمقارنة تقترب من حد ”الحرام” العلمي والوطني والنضالي، وربما ”الشرعي” أيضاً إذا جاز القول والتعبير.

جاء في الحديث النبوي الشريف:”ليس الزهد في التخلي عن الحلال، إنما الزهد في التخلي عن الحرام”.

السلام على من يكرّم الإنسان.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  من معنا.. ومن ضدنا فى أزمة السد الإثيوبي؟