أطلقت المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية غير المباشرة في فيينا، والمحادثات الموازية السعودية ـ الإيرانية في بغداد، مساراً متشابكاً لحوارٍ استراتيجي من شأنه أن يُفضي إلى تفاهم على إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة” أو الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا. وقد نجح الأوروبيون في مهمّة التوسط في العملية الرامية إلى إعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وذلك بفضل صيغة أنهت لعبة الشروط والشروط المضادة التي كان يطرحها الطرفان الأميركي والإيراني قبل الانخراط في التفاوض.
تراوح السيناريوات في شأن الحصيلة المرتقبة لمفاوضات فيينا على خلفيّة ارتباك إسرائيلي يتأرجح بين رفض إحياء الاتفاق والإذعان للإصرار الأميركي على التوصّل إلى اتفاق مع إيران، بين العودة إلى اتفاق 5+1 (2015) من دون تغيير في بنوده وإلغاء العقوبات المفروضة على إيران؛ أو التوصل إلى اتفاق معدّل يأخذ في الاعتبار تطوّر القدرات العسكرية الإيرانية خصوصاً في مجال الصواريخ الباليستيّة، فضلاً عن إشراك دول عربية خليجية في المحادثات؛ أو العمل للتوصل إلى اتفاق جديد موسّع يقارب البرنامج النووي الإيراني في إطار دور إيران الإقليمي المتعاظم وانعكاساته على نظام التوازن الشامل منطقة الشرق الأوسط وعلى سياسات التطبيع الإسرائيلية – العربية.
السيناريو الأوّل: العودة إلى التزام الاتفاق النووي الذي تمّ التوصل إليه في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، والذي أشرف على الجانب الأميركي المُفاوض خلاله فريق يقوده الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن؛ وذلك مع بعض الضمانات التي تطلبها واشنطن لحلفائها مثل إسرائيل والسعودية، في مقابل الاعتراف بمكانة إيران والقبول بدورها الإقليمي في الشرق الأوسط.
صار واضحاً من رصد اتجاهات النقاش السياسي الإسرائيلي، أن التركيز بات مصوّباً على ما بعد الاتفاق النووي، بعدما تمّ إبلاغ المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والأمنيّين والعسكريين أن إدارة بايدن ماضية في عملية التفاهم مع إيران
السيناريو الثاني: تقترح واشنطن سلّة من الشروط المترابطة تشمل، إلى ضوابط للبرنامج النووي، السلاح الصاروخي الباليستي لإيران وتوسع نفوذها الإقليمي عبر ما يسمى “محور المقاومة” وأذرعه السياسية والعسكرية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. وهذا التوجه المرفوض من إيران، كان دفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى التنصّل من الاتفاق النووي ورفضه، وهو لا يتطابق مع التوجهات المعلنة للإدارة الأميركية الحالية.
السيناريو الثالث: المفهوم الناظم لتقدّم المفاوضات والذي تعزّزه في الواقع “رسائل التهدئة” في سوريا والعراق والخليج، هو أن عمليّة التسوية تحت عنوان أزمة الملف النووي يفترض أن تستبطن بالتزامن الحوار حول الدور الإيراني في الإقليم، وإن كان هذا المسار لا يطلُّ برأسه على طاولة المفاوضات في فيينا. فالولايات المتحدة تدرك أن الدول العربية المتحالفة معها في المنطقة، معنيّة بهذا “الحوار الإستراتيجي” لاعتبارات أمنية وجيوسياسيّة عقب تجربة السنوات الست منذ توقيع الاتفاق النووي، والتي غلبت عليها أجواء حرب باردة وحروب بالوكالة (سوريا، اليمن) بين إيران وهذه الدول العربية.
تحوّلات بنيويّة؟
قد يكون ضرباً من المغالاة، الحديث عن تحوّلات إقليمية بنيويّة تنبثق من التقارب الأميركي – الإيراني. لكن الأمر الواقع، أن ثمّة مناخات وفاقية محرّكها تسوية إقليمية مرتقبة تدفع اللاعبين الإقليميين إلى التحوّط إزاء ارتداداتها المحتملة أو إعادة التموضع لاستقبال نتائجها. وتتصدّر هذه الظاهرة، المحادثات السعودية – الإيرانية في بغداد المرشّحة لأن تكون أرض لقاء وتعاون بين العرب والإيرانيين، فضلاً عن خطوات التطبيع المصرية التركية، عقب قطيعة طويلة تُوّجت بالتموضع التركي على الساحة الليبية التي تتّسم بأهمية حيوية بالنسبة إلى الأمن المصري، والتقدم نحو بؤرة التنافس الدولي في شرق المتوسط.
وإذا كان انفجار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في نطاق هبّة “سيف القدس” لمواجهة العدوان الصهيوني على القدس والمسجد الأقصى والفلتان الاستيطاني اليهودي، لم يُسفر عن تعثّر أو إحباط في مسار المفاوضات الإيرانية – الأميركية (وإن كان التصعيد الإسرائيلي الوحشي ضد قطاع غزّة والتحريض ضدّ حركة حماس قد أثارا تساؤلات في شأن الافتراق الأميركي – الإسرائيلي حول الاتفاق النووي)، فإن عودة القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية باعتبارها المسألة المركزية في نظام الصراع في الشرق الأوسط، وضعت الأمور مجدداً في نصابها. فقد تهاوت الخدعة الصهيونية التي تقوم على تهريب الأزمة الإسرائيلية من حقل التناقض الأساسي مع الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل دحر الاحتلال والاستيطان الكولونيالي.
سوف يبقى مؤجّلاً حتى إشعار آخر، البحث عن ترتيب إقليميّ يتطلب قيام بُنية للأمن والاستقرار لا تزال شروطها غير متوافرة، وذلك في مرحلة انتقالية تشهد اختلال آليات الضبط وفضّ النزاعات
لقد صار واضحاً من رصد اتجاهات النقاش السياسي الإسرائيلي، أن التركيز بات مصوّباً على ما بعد الاتفاق النووي، بعدما تمّ إبلاغ المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والأمنيّين والعسكريين أن إدارة بايدن ماضية في عملية التفاهم مع إيران. وفي ضوء هذا التطور لم يكن في وسع الإسرائيليين سوى التحوّل إلى المطالبة بضمان تفوّقهم العسكري مع التشديد على أن مصدر قلقهم هو موضوع الصواريخ الدقيقة، خصوصاً أن حرب غزّة الأخيرة أظهرت فاعلية المعادلة الصاروخية.
آفاق التطبيع
يبقى السؤال حول مآلات دينامية التطبيع والمصالحة والتي تبدو على ارتباطٍ باتجاهات التقارب والتفاهم بين إيران وأميركا والسعودية. ما هي آفاق وحدود هذه الظاهرة المعقّدة؟ وما هي النتائج التي يمكن توقّعها من الانفراج الإقليمي النسبي؟
المحادثات السعودية – الإيرانية انطلقت في بغداد باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من مسار مفاوضات فيينا، والهدف هو التوصل إلى تفاهمات مشتركة، خصوصاً حول ملف حرب اليمن، الشغل الشاغل للسعوديين، بعد الاتفاق على إعادة العلاقات القنصلية والديبلوماسية بين الرياض وطهران[1]. وكانت السعودية قطعت العلاقات مع إيران في العام 2012 ردّاً على تظاهرة تعرّضت للسفارة السعودية في طهران احتجاجاً على إعدام رجل الدين السعودي الشيعي الشيخ نمر النمر.
ويبدو أنّ المسؤولين السعوديين توصلوا إلى اقتناع مفاده أنهم غير قادرين على تسوية الأزمة اليمنيّة ووضع حدٍّ للنزاع من دون طهران التي تملك مفاتيح إخراجهم من هذا المأزق. ويمكن أن نتصور أن العودة الأميركية إلى المفاوضات النووية في إطار إحياء الاستراتيجية الرامية إلى تحويل التركيز من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى (الصين)، وتالياً تفكّك العوامل التي تفرض بقاء القوات الأميركية بحجمها الحالي في منطقة الخليج بذريعة حمايتها من إيران، دفعت الرياض إلى فتح صفحة جديدة مع طهران لتفادي العزلة واستعادة شيء من المبادرة.
واللافت للانتباه أن المحادثات السعودية – الإيرانية تزامنت مع تصريحات متلفزة لوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان تحدّث فيها للمرة الأولى عن إيران معتمداً خطاباً إيجابيّاً يوحي بمقاربة سعوديّة واقعيّة للدور الإيراني في الحرب اليمنيّة، بعيداً عن تضخيم هذا الدور وشيطنته كما كانت الحال في الرياض طوال السنوات الماضية؛ كما يوحي بالتوصل إلى قناعة مفادها أن الاستقرار الأمني في الخليج يفترض بالضرورة مشاركة إيران ذات الوزن الكبير على الضفة الأخرى.
أمّا المؤشّر الثاني لظاهرة الانفراج الإقليمي، فهو الانفتاح السعودي على النظام السوري، والذي تمثّلت ترجمته الأولى في زيارة وفد سعوديّ رفيع إلى دمشق في الخامس من أيار/مايو 2021 تمهيداً لإعادة فتح سفارة المملكة هناك. وتأتي هذه الخطوة التي تلقى تشجيعاً من مصر وسبقتها خطوة إماراتية مماثلة، في إطار السعي العربي إلى إعادة سوريا إلى حضن الجامعة العربية، وتالياً محاولة موازنة الدور الإيراني في سياق إعادة تعزيز الحضور العربي في العراق.
برغم احتمال اشتداد التنافس نتيجة للإنكفاء الأميركي بين قوى دولية تتموضع بدرجات متفاوتة على مسرح الشرق الأوسط، ولها مصالح متشابكة مع قوى وأطراف إقليميّين، فإن مصلحة التوازن الإقليمي واحتواء التهديد الإسرائيلي يُفترض أن يدفعا نحو ترجيح كفّة الانفراج وإن بتعدّد المبادرات والمراكز
المنظومة السيستاميّة
لا يمكن فصل التحوّل في السياسة الإقليمية التركية لجهة التطبيع والمصالحة مع مصر عقب تجربة التورّط في الحربَين السوريّة والليبيّة، عن اتجاهات التقارب الإيرانية – الأميركية وما ترتّب من انعكاسات على التوازن الجيوسياسي لتركيا في مدار المثلث الروسي/الإيراني/التركي، علماً أن القطبين التركي والإيراني يحتاجان دائماً في المنظومة السيستاميّة إلى قطب عربي وازن ومتماسك، وهو ما تحاول مصر استعادته عبر الملف الفلسطيني، والذي يصعب في غيابه تصوّر علاقات تفاعلية متوازنة في “مثلث القوة” العربي/التركي/ الإيراني.[2]
في أيّ حال، لا يزال من السابق لأوانه توقع عودة العلاقات التركية مع مصر إلى سابق عهدها، أي إلى الزمن الذي كان وزير الخارجية ثمّ رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو يعتبر أن مصر هي الركن الأساسي في السياسة العربية لأنقرة. وهذا لا يستبعد أن يكون الرئيس رجب طيّب أردوغان الذي بادر بإرسال وفد تركي إلى القاهرة في مطلع أيار/مايو 2021 للبحث في إصلاح العلاقات الثنائية وإعادة ضخ بعض الدفء فيها بعدما عرفت تدهوراً شاملاً عقب الانقلاب على حكومة الرئيس محمد مرسي، قد توصّل أخيراً في ضوء دروس التورّط في الحرب السورية والصراع المتصاعد مع أوروبا في شرق المتوسط إلى الاستنتاج أن لا أُفق حقيقيّاً لسياسة إقليمية لتركيا من دون ترتيب العلاقة بالقاهرة.
على أن ترقّب حدوث اختراق كبير في ملف حرب اليمن في سياق تفاهم إقليمي دولي حول دور إيران في المنطقة، لن يكون كافياً للبناء على حالة التطبيع الإقليمية والانطلاق منها لإرساء أسس وقواعد للتعاون والتنسيق على النحو السائد في اتحادات وتكتلات إقليمية في آسيا وأميركا اللاتينيّة. ولذلك سوف يبقى مؤجّلاً حتى إشعار آخر، البحث عن ترتيب إقليميّ يتطلب قيام بُنية للأمن والاستقرار لا تزال شروطها غير متوافرة، وذلك في مرحلة انتقالية تشهد اختلال آليات الضبط، وفضّ النزاعات تحت وطأة الانسحاب المتسارع لقوّة عالمية عظمى وعودة قوّة عالمية أخرى إلى المسرح، إلى جانب قوى إقليمية تتنافس على الزعامة، واستقطابات فرعية تحل مكان النظام العربي المتداعي.
وعلى الرغم من احتمال اشتداد التنافس نتيجة للإنكفاء الأميركي بين قوى دولية تتموضع بدرجات متفاوتة على مسرح الشرق الأوسط، ولها مصالح متشابكة مع قوى وأطراف إقليميّين، فإن مصلحة التوازن الإقليمي واحتواء التهديد الإسرائيلي يُفترض أن يدفعا نحو ترجيح كفّة الانفراج وإن بتعدّد المبادرات والمراكز.
[1] بدأت المحادثات السعودية – الإيرانية في التاسع من نيسان/إبريل 2021 في بغداد تحت غطاء من السرّية. وكان محورها الرئيسي الأزمة اليمنية، إضافة إلى شؤون إقليمية أخرى تعني الجانبين. وكشفت صحيفة الفانينشال تايمس هذه المحادثات في 17 نيسان/إبريل، قبل أن تؤكدها الرياض رسميّاً في 7 أيار/مايو وطهران في 10 أيار/مايو.
[2] باراديغم “مثلث القوّة” العربي/التركي/الإيراني، صاغه المفكر الجيوسياسي المصري جمال حمدان. وهو ذهب في أبحاثه إلى وصف “مثلث القوّة” هذا بأنّه محور القوّة في العالم العربي الإسلامي. واتخذ باحثون عرب آخرون هذا الباراديغم أساساً لتصوّر منظومة إقليمية تضم العرب والأتراك والإيرانيين وتستوحي تجربة بناء الاتحاد الأوروبي.