أصبحت العقوبات – تدابير تتخذتها دولة ما لتعطيل التبادل الاقتصادي مع دولة أخرى – الحل الأول تقريباً لكل مشكلة سياسية خارجية تواجهها الولايات المتحدة. خلال ولايته الأولى، كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تضع ما معدله 500 كيان كل عام تحت بند العقوبات لأسباب تتراوح بين انتهاكات حقوق الإنسان والانتشار النووي وانتهاكات السيادة الإقليمية. تضاعف هذا الرقم خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، بينما فرض الرئيس جو بايدن، خلال الأشهر الأولى فقط من ولايته الحالية، عقوبات جديدة ضد كل من ميانمار (بسبب انقلابها)، ونيكاراغوا (بسبب القمع)، وروسيا (بسبب القرصنة). ولم يغيّر بايدن بشكل جذري أياً من برامج العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب بإستثناء رفع تلك التي كانت مفروضة على المحكمة الجنائية الدولية. واكتفت إدارته بمعاقبة بعض المسؤولين السعوديين على مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ولم تتخذ أي إجراء ضد المملكة، رغم مطالبة نشطاء حقوق الإنسان بالمزيد، الذين طالبوا أيضاً بمعاقبة الصين لاضطهادها الأقلية العرقية من الأويغور، والمجر لتراجعها الديموقراطي، وإسرائيل بسبب معاملتها للفلسطينيين.
قد يكون الاعتماد على العقوبات الاقتصادية أمراً طبيعياً إذا كانت فعَّالة، أي إذا نجحت واشنطن في إجبار الدول “الهدف” على فعل ما تريده. لكنها ليست كذلك. فقد وجدت دراسة خاصة عن “فعَّالية العقوبات”- أجرتها جامعة نورث كارولينا في عام 2014، واعتمدت فيها على مجموعة بيانات خاصة – أن العقوبات تؤدي، في أفضل الأحوال، إلى تنازلات خلال ثلث ونصف الوقت. كما خلصت دراسة أجراها مكتب المساءلة الحكومية عام 2019 إلى أنه حتى الحكومة الفيدرالية لم تكن بالضرورة على دراية بوقت تنفيذ العقوبات، وأن المسؤولين في وزارات الخزانة والخارجية والتجارة “لا يقيسون مدى فعَّالية العقوبات في تحقيق أهداف السياسة الأميركية”.
الحقيقة هي أن تركيز واشنطن على العقوبات ليس له علاقة بفعَّاليتها بل بشيء آخر: التدهور الأميركي. لم تعد الولايات المتحدة قوة عُظمى بلا منازع، وبالتالي لا يمكنها أن تُلقي بثقلها بالطريقة التي اعتادت عليها. فقد تراجعت قوتها العسكرية وتأثيرها الدبلوماسي، لا سيما بعد عقدين من الحروب والركود والاستقطاب والآن جائحة COVID-19. يُترك رؤساء الولايات المتحدة المحبطون مع عدد أقل من الأسهم في جعبتهم، ويسارعون للوصول إلى الأداة السهلة والمتاحة للعقوبات.
أسلحة الحرب الباردة
لكن المشكلة تكمن في أن العقوبات ليست مجانية: تساهم في توتير العلاقات مع الحلفاء، وتستعدي الخصوم، وتفرض مصاعب اقتصادية على المدنيين الأبرياء. وهكذا، فإن العقوبات لا تكشف التراجع الأميركي فحسب، بل تسرعه أيضاً. ومما زاد الطين بلَّة، أن هذه “الأداة” تزداد بُهتاناً كل عام. ومن المرجح أن تكون العقوبات في المستقبل أقل فاعلية: مع تدخل الصين وروسيا بسعادة لإنقاذ الجهات الفاعلة المستهدفة ومع سأم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها من التطبيق المتكرر للضغط الاقتصادي. ستجعل هذه التطورات مجتمعة الدولار الأميركي أقل مركزية للتمويل العالمي، مما يقلّل من تأثير العقوبات التي تعتمد على تلك الهيمنة.
يجب على واشنطن أن تستخدم العقوبات بشكل جراحي وباعتدال. يجب وضع نهج أكثر انضباطاً في فن الحكم الاقتصادي، يوضح فيه المسؤولون الهدف من إجراء معين ومعايير إلغاء هذا الإجراء، مع التذكر دائماً أن هناك أدوات أخرى تحت تصرفهم. العقوبات هي أداة متخصصة، ولإستخدامها على أفضل وجه يجب أن تخضع لرقابة. يجب على صانعي السياسة أن يتعاملوا معها كـ”مشرط جرَّاح” وليس كـسكين للجيش السويسري.
كان فن الحكم الاقتصادي مكوناً حيوياً للدبلوماسية الأميركية منذ الأيام الأولى للجمهورية. كرئيس، حثَّ توماس جيفرسون على تمرير قانون الحظر لعام 1807 لمعاقبة المملكة المتحدة وفرنسا النابليونية لمضايقتهما السفن الأميركية. كان هذا الجهد لفرض العقوبات كارثة. في الماضي، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى الأسواق الأوروبية أكثر بكثير مما كانت تحتاجه المملكة المتحدة وفرنسا من دولة ناشئة في العالم الجديد. لقد كلَّف قانون الحظر الولايات المتحدة أكثر بكثير مما تكبدته القوى العظمى الأوروبية. ومع ذلك، استمرت الولايات المتحدة في استخدام التجارة كأداة رئيسية للسياسة الخارجية، مع التركيز على فتح أسواق خارجية للتصدير وتشجيع الاستثمار الأجنبي في الداخل. كان هذا طبيعياً نظراً لحجم الجيش الأميركي المتواضع جداً في القرن التاسع عشر. إن تفوق الجنيه البريطاني في التمويل العالمي في ذلك الوقت يعني أيضاً أن الدولار الأميركي لم يكن عُملة مهمة. كانت التجارة هي الطريقة التي مارست بها الولايات المتحدة الدبلوماسية من الأساس.
التدهور الأميركي يتسارع.. حرب الخليج الثانية أجبرت صدام حسين على الإنسحاب من الكويت وليس العقوبات
في نهاية الحرب العالمية الأولى، جدَّدت الولايات المتحدة حماستها للعقوبات التجارية كوسيلة لتنظيم السياسة العالمية. حثَّ الرئيس وودرو ويلسون الأميركيين على دعم عصبة الأمم بالقول إن سلطتها في المعاقبة ستكون بمثابة بديل للحرب. وقال في عام 1919: “الأمة التي نقاطعها هي أمة على مرأى من الاستسلام. طبّقوا هذا العلاج الاقتصادي السلمي الصامت والقاتل ولن تكون هناك حاجة إلى القوة. إنه علاج رهيب”. كان الأميركيون غير مقتنعين، والولايات المتحدة لم تنضم أبداً إلى عصبة الأمم. في النهاية، فشلت العقوبات التي فرضتها عصبة الأمم في ردع إيطاليا عن غزو إثيوبيا عام 1935 أو وقف أي عمل عدائي آخر أدى إلى الحرب العالمية الثانية. على العكس من ذلك، ساعد الحظر الذي فرضته واشنطن على الوقود والمواد الحربية الأخرى المتجهة إلى اليابان في التعجيل بالهجوم على بيرل هاربور.
أدت الحرب الباردة إلى توسيع مجموعة أدوات فن الحكم الاقتصادي المُتاحة للولايات المتحدة. لأول مرة، قدمت الدولة قدراً كبيراً من المساعدات الخارجية الثُنائية والمتعددة الأطراف؛ كان وقف تلك المساعدات وسيلة سهلة لممارسة الضغط الاقتصادي. جاء أنجح استخدام أميركي للعقوبات الاقتصادية في هذه الفترة خلال أزمة قناة السويس عام 1956. يومها منعت واشنطن المملكة المتحدة من سحب احتياطياتها من صندوق النقد الدولي للدفاع عن عملتها بعد الغزو البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي لمصر. وأجبر الاندفاع اللاحق على الجنيه الإسترليني لندن على سحب قواتها.
لكن العقوبات الأميركية فشلت في معظم الأوقات. في السنوات الأولى من الحرب الباردة، حظرت واشنطن حلفاء السوفييت لمنعهم من الوصول إلى الموارد والتقنيات الحيوية. لقد نجح هذا الحظر كعمل احتواء. لكن العقوبات المصممة لفرض تغييرات في السلوك لم يكن لها تأثير يُذكر، حيث تدخل الاتحاد السوفيتي ببساطة لتقديم الدعم الاقتصادي للدول المُستهدفة. في أوائل الستينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، عندما شدَّدت الولايات المتحدة حظرها على الصادرات إلى كوبا، لعب السوفييت دور “شريان الحياة” الاقتصادية لنظام فيدل كاسترو من خلال توجيه كميات هائلة من المساعدات إلى هافانا. في وقت لاحق من الحرب الباردة، استخدمت واشنطن العقوبات الاقتصادية للضغط على الحلفاء والخصوم على حد سواء لتحسين سجلهم في مجال حقوق الإنسان. إلى جانب النجاح النادر لفرض عقوبات على حليف وثيق، لم ينجح الضغط الاقتصادي إلا عندما جاء من تحالف متعدد الأطراف واسع النطاق، مثل العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري.
جلبت نهاية الحرب الباردة دفعة أولى من الأمل بشأن العقوبات. ومن منطلق أن الإتحاد السوفييتي لم يعد يستخدم حق النقض تلقائياً ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بدا من الممكن أن تحل العقوبات التجارية المتعددة الأطراف محل الحرب، تماماً كما حلم ويلسون. لكن سُرعان ما أثبت الواقع عكس ذلك. ففي عام 1990، بعد غزو العراق للكويت، فرض مجلس الأمن حظراً تجارياً شاملاً على العراق. وقد أدَّت هذه العقوبات الساحقة إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى النصف، إلا أنها لم تستطع إجبار صدام حسين على الانسحاب من الكويت. احتاج الأمر شن حرب الخليج الأولى لتحقيق ذلك. استمرت العقوبات المفروضة على العراق بعد الحرب، لكن التكاليف الإنسانية كانت هائلة: ارتفعت معدلات وفيات الأطفال على بشكل كبير، وظلَّ دخل الفرد ثابتاً لمدة 15 عاماً. في الوقت نفسه، نجح العراق بتضخيم التكاليف الإنسانية للعقوبات. وتوصل صانعو السياسة إلى الاعتقاد بأن العقوبات التجارية كانت أداة فظة تضر بالمدنيين العاديين ولا تجعل النُخب المستهدفة تغيير سلوكها. لذلك بحثوا عن عقوبات أكثر ذكاء يمكن أن تضرب الائتلاف الحاكم لنظام صدام.
إنه الدولار!
يبدو أن مركزية الدولار الأميركي تلعب دوراً رئيسياً في هذه السياسة. ابتداء من أواخر التسعينيات، جعلت الولايات المتحدة من الصعب على أي مؤسسة مالية الدخول في معاملات بالدولار مع الحكومات أو الشركات أو الأشخاص الخاضعين للعقوبات. وتسارعت وتيرة هذا الإجراء بعد 11 أيلول/سبتمبر. فالبنوك الأميركية والأجنبية تحتاج للدولار الأميركي حتى تعمل؛ ومجرد التهديد الضمني بحرمانها منه يجعل معظم البنوك في العالم مترددة في العمل مع الكيانات الخاضعة للعقوبات، وطردها فعلياً من النظام المالي العالمي.
أثبتت هذه العقوبات أنها أقوى. ففي حين أن القيود المفروضة على التجارة تحفز الجهات الفاعلة في القطاع الخاص على اللجوء إلى عمليات السوق السوداء، فإن الديناميكية المعاكسة تلعب دوراً في الإجراءات المتعلقة بالمعاملات الدولارية. ونظراً لأن المؤسسات المالية تهتم بسمعتها العالمية وترغب في البقاء في حظوة المنظمين الأميركيين، فإنها تميل إلى الامتثال بشغف للعقوبات، وحتى التخلص، وبشكل استباقي، من العملاء الذين يُنظر إليهم على أنهم “خطرون”.
مع تزايد قوة العقوبات الأميركية، حقَّقت بعض المكاسب الملحوظة. قامت إدارة جورج دبليو بوش بقمع تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، بينما كانت الحكومات تتراجع للاحتفاظ بإمكانية الوصول إلى النظام المالي الأميركي. وصعَّدت إدارة أوباما العقوبات على إيران، الأمر الذي دفع البلاد للتفاوض على صفقة تقيد برنامجها النووي مقابل رفع بعض العقوبات. هدَّدت إدارة ترامب برفع التعريفات وإغلاق الحدود الأميركية المكسيكية لإجبار المكسيك على اعتراض المهاجرين من أميركا الوسطى؛ وتعاونت الحكومة المكسيكية بنشر الحرس الوطني لمنع التسلل عبر الحدود.
لكن مع كل نجاح، كان هناك المزيد من الإخفاقات. فمنذ عقود، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بيلاروسيا وكوبا وروسيا وسوريا وزيمبابوي، دون تحقيق نتائج ملموسة. صعَّدت إدارة ترامب من الضغط الاقتصادي على إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا كجزء من حملات “الضغط الأقصى” واعتمدت الجهود أيضاً على ما يُعرف باسم “العقوبات الثانوية”، أي تهديد الدول والشركات التابعة للطرف الثالث بالإكراه الاقتصادي إذا لم توافق على المشاركة في فرض عقوبات على الهدف الأساس. ورغم تكبد الهدف تكاليف اقتصادية باهظة إلا أنه لم يقدم أي تنازلات. حتى فنزويلا، الدولة الاشتراكية المُفلسة التي تعاني من التضخم المُفرط في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، لم تستسلم.
عقوبات الارتداد
هناك العديد من المشكلات المتعلقة بالطريقة التي تستخدم بها الولايات المتحدة حاليا العقوبات الاقتصادية. الأكبر هي الأكثر شيوعاً: مع أقصى ضغط يأتي الحد الأقصى من المطالب. تريد الولايات من كوريا الشمالية وإيران أن تتخليا عن السلاح النووي، وتريد من فنزويلا أن تنهي الحكم البوليفاري. بالمقابل يعتبر حُكام هذه البلدان هذه المطالب بمثابة تغيير للنظام. لذا، ينبغي أن لا نتفاجأ كونهم اختاروا تحمل الألم الاقتصادي بدلاً من تقديم مثل هذه التنازلات الضخمة.
الرؤساء الأميركيون حريصون دائماً على فرض عقوبات ولكنهم قلقون من إزالتها، حتى لا يتهمون بأنهم ضُعفاء في السياسة الخارجية
موضوع إيران يسلط الضوء على مشكلة إضافية: الطبيعة الأحادية المتزايدة للضغط الاقتصادي الأميركي. حتى وقت قريب، كانت واشنطن قادرة على فرض عقوبات مالية بالتعاون الصريح أو الضمني مع الحُلفاء. عندما قرَّرت إدارة ترامب إعادة فرض عقوبات مالية على طهران، فعلت ذلك رغم اعتراضات الحلفاء الأوروبيين. نجحت الإدارة في تصعيد الضغط الاقتصادي من خلال التهديد بفرض عقوبات ثانوية على دول أخرى. امتثلت الدول، وزادت المناورة التكاليف على إيران، لكن النجاح جاء على حساب توتر في العلاقات طويل الأمد.
في الوقت نفسه، أصبحت واشنطن أكثر راحة في معاقبة القوى العظمى الأخرى. لكن ما يَصلح مع المكسيك لا يعمل مع الصين أو روسيا. الأهداف الكُبرى لديها المزيد من الموارد لاستخدامها في المقاومة. ربما تكون العقوبات قد ردعت موسكو، بعد غزوها أوكرانيا، عن اتخاذ إجراءات عدوانية ضد محيطها، لكن ذلك كان أقل التوقعات. وبالمثل، فشلت الرسوم الجمركية العديدة وغيرها من الإجراءات التي فرضتها إدارة ترامب على الصين في عام 2018 في تحقيق تنازلات جوهرية من بكين. الحرب التجارية التي انطلقت لتحويل اقتصاد الصين من رأسمالية الدولة إلى نموذج أكثر ملاءمة للسوق جاءت بنتائج عكسية، وأضرت بقطاعي الزراعة والتكنولوجيا المتطورة في الولايات المتحدة. وبحسب وكالة “موديز إنفستورز سيرفيس” Moody’s Investors Service، تتحمل الصين 8% فقط من التكاليف الإضافية للتعرفات الجمركية؛ تم دفع 93% منها من قبل المستوردين الأميركيين، وتم نقلها في النهاية إلى المستهلكين بأسعار أعلى.
مشكلة ذات صلة هي أن الرؤساء حريصون دائماً على فرض عقوبات ولكنهم قلقون من إزالتها، حتى لا يتهمون بأنهم ضُعفاء في السياسة الخارجية. وهذا يجعل من الصعب على الولايات المتحدة الالتزام بمصداقية إنهاء العقوبات. عندما فكر بايدن في رفع بعض العقوبات عن إيران، على سبيل المثال، انتقده المشرعون الجمهوريون ووصفوا قراره بأنه استرضاء ساذج. علاوة على ذلك، فإن العديد من العقوبات الأميركية- مثل تلك المفروضة على كوبا وروسيا- مفروضة بموجب القانون، مما يعني أن الكونغرس وحده هو الذي يمكنه إلغاءها. تخضع بعض البلدان للعديد من العقوبات المتداخلة لدرجة أنها تجد نفسها عالقة في وضع كافكا، غير متأكدة مما إذا كان هناك أي شيء يمكنها القيام به للامتثال.
إن صعوبة رفع العقوبات عن بعض الدول تُعقد جهود الولايات المتحدة للمساومة مع جميع الدول. إذا كانت “الأهداف” لا تعتقد أن واشنطن يمكن أن ترفع إجراءاتها القسرية، فليس لديهم حافز لعناء المفاوضات. ما فائدة الامتثال لمطالب الولايات المتحدة إذا لم يكن هناك مكافأة؟ كان هذا أحد أسباب رفض صدام حسين التفاوض مع واشنطن في التسعينيات وأحد أسباب رفض إيران التفاوض مع إدارة ترامب.
تفرض العقوبات أيضاً خسائر إنسانية. كان من المفترض أن تُقلّل العقوبات المالية المستهدفة من المعاناة المرتبطة بالحظر التجاري الشامل، على أساس النظرية القائلة بأن مطاردة الأنظمة المصرفية والأصول التي يحتفظ بها الفاعلون السيئون من شأنه أن يجنب عامة الناس. حتى العقوبات المالية من المرجح أن تؤدي إلى القمع والفساد والتراجع عن مؤشرات التنمية البشرية.
من ناحية ثانية، تعلمت “الأهداف” التكيف مع الحياة في ظلّ العقوبات. في حالة القوى العظمى مثل الصين وروسيا، فإن هذا يعني إيجاد شركاء تجاريين بديلين؛ خفضت بكين التعريفات الجمركية على الدول الأوروبية في نفس الوقت الذي ردَّت فيه على واشنطن في حربها التجارية. وروسيا استغنت عن معظم الواردات الغذائية الأوروبية لتحفيز الإنتاج المحلي. “الأهداف” أيضاً تستجيب بعقوبات انتقامية، ممَّا يؤدي إلى تصعيد متبادل يفرض تكاليف على المنتجين والمستهلكين الأميركيين. سيزداد هذا الاتجاه فقط عندما تنظر الاقتصادات الكبرى الأخرى إلى العقوبات الأميركية المفروضة ظاهرياً لأسباب تتعلق بالأمن القومي باعتبارها حصاناً مطارداً للحمائية التجارية.
بومبيو وصف حملة الضغط الأقصى ضد إيران بـ”الفعَّالة”.. ولم يقل إن إيران في الواقع تُسرع تخصيب اليورانيوم
القلق الأكبر على المدى الطويل هو أن العقوبات المالية يمكن أن تُقوّض مكانة الدولار الأميركي كعملة احتياطية أساسية في العالم. إن الدور البارز للدولار، إلى جانب مركزية أسواق رأس المال الأميركية، هو الذي مكَّن من تفعيل العقوبات المالية في المقام الأول. لكن بعد جيل كامل من هذه العقوبات، يبحث المستهدفون عن بدائل للدولار لحماية أنفسهم من الإكراه. تقدم العملات الرقمية مخرجاً واحداً. فقد طرح “بنك الشعب” الصيني “يوان” رقمياً سيمكن أولئك الذين يستخدمونه من تجاوز الدولار الأميركي بالكامل. حتى حُلفاء الولايات المتحدة في أوروبا طوروا أداة دعم التبادل التجاري (INSTEX)، وهي وسيلة يمكنهم من خلالها التحايل على الدولار والتداول مع إيران. لا عجب إذن أن حصة الدولار الأميركي من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ 25 عاماً في نهاية عام 2020. في الوقت الحالي، لا يزال الدولار هو العملة الاحتياطية العالمية الأساسية. ولكن إذا انخفض استخدامه أكثر، فستتراجع قوة فن الحكم المالي الأميركي.
حقَّقت العقوبات الأميركية بعض الإنجازات المهمة. لكنها أيضاً أبعدت الحلفاء، وفقّرت السكان، وشجعت التنويع بعيداً عن الدولار، وكل ذلك بينما فشلت في توليد الكثير من التنازلات الملموسة. يبدو أن صانعي السياسات قد خلطوا بين فاعلية العقوبات والفعالية. وبقدر ما اعتمد الجنرالات خطأً على تعداد الجثث كمقياس لنجاحهم في حرب فيتنام، يستخدم صانعو السياسة الآن الألم الذي تسببه العقوبات كمقياس للنجاح. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، على سبيل المثال، وصف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حملة الضغط الأقصى ضد إيران بأنها “فعَّالة بشكل غير عادي”. وكدليل على ذلك، أشار إلى أن “الاقتصاد الإيراني يواجه أزمة عملة وتزايد الدين العام وتضخماً متزايداً”. ولم يقل بومبيو أنه على الرغم من كل الآلام الاقتصادية، كانت إيران في الواقع تُسرع تخصيب اليورانيوم.
سياسة المنتجع الأول
إذا كانت العقوبات الاقتصادية شديدة الضعف، فلماذا تتحمس لها نُخب السياسة الخارجية (الأميركية)؟ ببساطة، لأنه من الأسهل فرض العقوبات أكثر من القيام بأي شيء آخر.
لإعادة صياغة جملة Sun-tzu، فإن أفضل نوع من العقوبة تلك التي لا يجب أن تُفرض أبداً. خلال معظم فترة ما بعد الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة قوية جداً لدرجة أن القليل من الدول تجرأت على تحديها حتى لو أرادت ذلك. آخرون تم إقناعهم بالقوة الناعمة الأميركية ليريدوا ما تريده (…) ولكن الآن، مع تراجع الهيمنة الأميركية، هناك ببساطة المزيد من الدول التي لديها مصلحة في تحدي الوضع الراهن. أدَّى الركود الديموقراطي وتآكل النظام الدولي الليبرالي إلى ظهور دول معتدلة تختلف أيديولوجيا مع واشنطن. في الوقت نفسه، جعلت الإخفاقات المرئية للسياسة الأميركية- في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا- التهديد بالإكراه أقل رعباً. ومع تزايد عدد الجهات الفاعلة المستعدة لتحدي المصالح الأميركية، زاد أيضاً الطلب بفرض عقوبات عليها.
في غضون ذلك، انخفض الإقبال السياسي لأدوات السياسة الخارجية الأخرى بشكل كبير. ليس من قبيل المصادفة أنه حتى في الوقت الذي حافظ فيه بايدن على معظم عقوبات إدارة ترامب، فقد احترم أيضاً تعهده بسحب القوات الأميركية من أفغانستان. لقد تسببت الحرب على الإرهاب التي استمرت لجيل كامل في أن يفقد صُنَّاع القرار والجمهور طعم التدخلات العسكرية واسعة النطاق (65% من الأميركيين يعارضون شن حرب ضد أي دولة، وفق “غالوب”. والاستخدامات الصغيرة للقوة العسكرية، مثل ضربات الطائرات بدون طيار والتفجيرات المستهدفة، أصبحت أقل جاذبية سياسية بين نخب السياسة الأميركية).
لأكثر من 80 عاماً، كانت الولايات المتحدة على استعداد لتقديم مساعدات أجنبية وترتيبات تجارية تفضيلية إلى البلدان كوسيلة لتشجيع السياسات الخارجية الأكثر قابلية للتكيف. لكن على مدى العقد الماضي، تخثرت سياسات الانفتاح الاقتصادي. لم تكن المساعدات الخارجية مرغوبة على الإطلاق، لكنها أصبحت أقلّ من ذلك في هذا العصر الشعبوي. بالنسبة للتجارة، تستبعد كل من منصة ترامب “أميركا أولاً” وشعار بايدن “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى” صفقات التجارة الحرة الجديدة. وحتى لو أراد رئيس مثل هذا الاتفاق، فإن الاستقطاب السياسي سيجعل تمرير الكونغرس عبئاً ثقيلاً.
العامل الآخر الذي جعل العقوبات أكثر جاذبية هو النفوذ الإضافي الذي منحته العولمة للولايات المتحدة. تزيد الشبكات الاقتصادية المعولمة من قوة المحاور المركزية، وتقف الولايات المتحدة في مركز معظمها. نظراً لأن نسبة عالية جداً من المعاملات العالمية تشمل البنوك الأميركية، فقد تمكَّنت واشنطن من تسليح الترابط الاقتصادي أكثر مما كان يعتقد الكثيرون. بل إنها استغلت العلاقات الاقتصادية مع حلفائها. قبل أن تنطلق العولمة حقاً، كانت الدول مترددة في معاقبة الحلفاء في المعاهدة، لأن الحلفاء سعوا وراء شركاء اقتصاديين جُدد، وستعاني الدولة المبتدئة نتيجة لذلك. ومع ذلك، فإن قوة الشبكات المالية الأميركية تقلّل من قدرة حلفاء الولايات المتحدة على إيجاد بدائل للدولار (على الرغم من أن هذه القوة شجعت هذه الدول على البحث عن بدائل طويلة الأجل للدولار).
التخلص من العادة
تواجه الولايات المتحدة عدداً متزايداً من تحديات السياسة الخارجية ومع ذلك لديها مجموعة متقلصة من الأدوات لإصلاحها. وفي الوقت نفسه، فإن أداتها المفضلة، العقوبات، آخذة في النفاد بسبب الاستخدام المتكرر. يبدو أن إدارة بايدن تدرك المشكلة. فقد وعدت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بمراجعة سياسة العقوبات الأميركية لضمان استخدام الإجراءات “بشكل استراتيجي ومناسب”. ولكن ما الذي يعنيه عملياً تغيير مثل هذه السياسة الراسخة؟
تحتاج الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات أقل في كثير من الأحيان. فحتى لو كان لأي عمل فردي من أعمال الجزاءات معنى، فينبغي لواضعي السياسات أن ينظروا في الأثر الإجمالي للعديد من الجزاءات. هذا لا يعني عدم فرض عقوبة؛ يتعين على الولايات المتحدة التصدي لانتهاك المعايير، كما هو الحال عندما أجبرت بيلاروسيا طائرة ركاب مدنية في أيار/مايو على احتجاز مراسل صحفي. ولكن كلما قلَّ عدد العقوبات المفروضة، زادت فعَّالية تلك التي يتم فرضها.
يعمل الإكراه الاقتصادي بشكل أفضل عندما تكون الدولة التي تفرض العقوبات لا لبس فيها بشأن الظروف التي سيتم بموجبها التهديد والتشريع والرفع. وللحفاظ على قدرتها المستقبلية على استخدام فن الحكم الاقتصادي، يجب على الولايات المتحدة طمأنة الدول الأخرى بأنها ستطبق العقوبات بذكاء. يجب أن توضح، قولاً وفعلاً، أنها تتحول إلى عقوبات في ظلّ ظروف ضيقة ومحدَّدة بدقة. ويجب أن تُرفع العقوبات بسرعة وتسمح باستئناف التبادل عبر الحدود عندما تمتثل الجهات الفاعلة للمطالب المعلنة.
يمكن للسلطة التنفيذية اتخاذ بعض الخطوات الملموسة لتوضيح نهج الولايات المتحدة، مثل أن تنشر وزارة الخزانة أو البيت الأبيض إستراتيجية اقتصادية للحكم كل خمس سنوات. يتم توجيه استخدام القوة من خلال سلسلة من الوثائق الاستراتيجية الرسمية، بما في ذلك استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني. يجب تطبيق منطق مماثل على الضغوط الاقتصادية. إن وزارة الخزانة، على وجه الخصوص، ستحصل على خدمة جيدة من خلال الصياغة الواضحة لنهجها تجاه العقوبات الاقتصادية.
لن تختفي العقوبات.. الصين وروسيا أصبحتا ناشطتين في الإكراه الاقتصادي.. وقوى طموحة، مثل السعودية، جرَّبت يدها أيضاً في هذا المجال.. وسيكون هناك المزيد في المستقبل
لكي تكون استراتيجية الحوكمة الاقتصادية مفيدة، يجب أن تتضمن مبادئ توجيهية واضحة بشأن متى يتم فرض العقوبات لغرض الاحتواء أو تغيير سلوك دولة أخرى. العقوبات المصممة للاحتواء تشبه الحظر الاستراتيجي المفروض على الاتحاد السوفيتي وحلفائه خلال الحرب الباردة. في عالم تتنافس فيه القوى العظمى، يجب أن يكون مثل هذا الحظر جزءاً من فن الحكم الأميركي. من خلال إعلان بعض الإجراءات الاقتصادية على أنها احتواء، يمكن للحكومة الأميركية القضاء على أي توقعات بتحقيق تنازلات.
تتمثل إحدى طرق تخفيف الضغط على العقوبات كأداة سياسية في الترويج لبدائل قابلة للتطبيق، لذا يجب أن تسلط استراتيجية الحوكمة الاقتصادية الضوء أيضاً على الحوافز الاقتصادية المختلفة التي يمكن أن تتدلى منها حكومة الولايات المتحدة. يحتاج صانعو السياسة إلى العودة إلى مجال استخدام إغراء الوصول إلى السوق الأميركية كوسيلة لتعزيز المزيد من السلوك البناء في السياسة العالمية. ويشمل ذلك إجراء مناقشات مع الشركات الأميركية التي يتعين عليها تنفيذ العقوبات ووضع ضمانات لإنهاء العقوبات بالفعل عندما يُفترض بها ذلك.
إن إجراء مراجعة منتظمة وبشكل سنوي – جنباً إلى جنب مع تقييم الآثار الإنسانية للعقوبات – من شأنه أن يساعد صانعي السياسات في تحديد الوقت المناسب للتخلي عن حملة معينة من الضغط الاقتصادي.
يجب على الكونغرس أن يشرع في إدخال بند انقضاء الوقت في أي تشريع عقوبات جديد. قد تحتاج بعض العقوبات إلى أن تظل سارية المفعول لفترة أطول، لكن طلب تصويت جديد من شأنه أن يوفر على الأقل نقاط اتخاذ القرار حيث يمكن عكس التأثير المتواصل للعقوبات المستمرة. كما يمكن أن يوفر لبعض المسؤولين المنتخبين طريقة جيدة للخروج من طريق مسدود للسياسة.
طريقة أفضل
لا يمكن ولن تختفي العقوبات في أي وقت قريب. أصبحت القوى العظمى الأخرى، مثل الصين وروسيا، ناشطة بشكل متزايد في فرض عقوبات. استخدمت الصين مجموعة من الإجراءات غير الرسمية لمعاقبة اليابان والنرويج وكوريا الجنوبية وحتى الاتحاد الوطني لكرة السلة خلال العقد الماضي. وفرضت روسيا عقوبات على الجمهوريات السوفيتية السابقة لردعها عن الانضمام إلى مبادرة الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية. كما أن القوى العظمى الطموحة، مثل المملكة العربية السعودية، جرَّبت يدها أيضاً في الإكراه الاقتصادي. وسيكون هناك المزيد من العقوبات في المستقبل، وليس أقل.
(*) ترجمة بتصرف عن “فورين آفيرز”