في ماهيّة الإسلام: الطرق إلى الله كثيرة (8)
EPSON MFP image

في قصيدته الشهيرة التي تبدأ بـ(دع عنك لومي فإن اللوم إغراء.. وداوني بالتي كانت هي الداء)، وهي ردّ على المتكلّم إبراهيم النظّام (ت. 835) الذي هدّده بعقاب الله لمجونه، يقول أبو نواس (ت. 814): (وقل لمن يدعي في العلم فلسفة.. حفظت شيئا وغابت عنك اشياء). سخرية أبي نواس من النظّام هدفت لتذكيره أنّه مهما كثر استحواذ العالم للعلم وكبر شأنه فيه، يبقى جاهلاً للكثير من جوانبه.

قام الكثير من العلماء في عصر الاسلام الكلاسيكي، وتحت حجج مختلفة أهمها مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، بتنصيب أنفسهم لوعظ الناس، كأنّ رأيهم في الدين هو الرأي وقولهم هو القول وكلّ رأي آخر كفر وضلال.

الدافع إلى تصويب رأي أو سلوك الآخرين يمكن أن ينتج عن عفويّة أو عصبيّة من دون أن يكون بالضرورة واعياً أو مدركاً للتفاصيل والعوامل التي أثّرت في الآخرين ودفعتهم للقيام بأمور معيّنة أو الإدلاء برأي معين.

لقد تنبّه معظم العلماء المسلمين إلى إشكاليّة عنجهية الرأي (ووقعوا في فخّها ايضاً في حالات كثيرة). نمت عندهم عادة تكرير عبارات أشهرها “والله أعلم” عند الانتهاء من كتابة موضوع أو إعطاء وجهة نظر في الدين. عبارة “والله أعلم” تدلّ على قناعة القائل أنّ رأيه قوي ونابع عن معتقدات أو مشاهدات أو براهين أو تحليلات، لكنّ صوابيّته ليست مطلقة وتتحمل الخطأ.

من الأمثلة عن ذلك ما يقوله ابن قتيبة (ت. 889) في وصف كتابه “عيون الأخبار”:

“هذا الكتاب، وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام، دال على معالي الأمور، مرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناه عن القبيح، باعث على صواب التدبير وحسن التقدير ورفق السياسة وعمارة الأرض. وليس الطريق إلى الله واحداً، ولا كلّ الخير مجتمعاً في تهجد الليل وسرد الصيام وعلم الحلال والحرام. بل الطرق إليه (الله) كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير”.

وابن قتيبة هو من أعيان علماء الإسلام – لقّبه ابن تيمية (ت. 1328) بخطيب أهل السنّة  – ولكتبه التي عالجت مواضيع دينية عديدة دور رائد في التراث السنّي، أرست بعض القواعد لمعتقدات شائعة ولمنهجية في مقاربة وقراءة المصادر الدينية. في كلامه أعلاه نقد واضح لمن يعتقد أنّ طريقه إلى الله هي الطريق الوحيد الصحيح، أو أنّ جهده الديني أو علمه في أمور الشرع هي الأصلح للناس أجمعين. حتى الدين، من أجل أن يكون صالحاً يتطلّب ذلك صلاح الزمان، ولا يكون الزمان صالحاً من دون صلاح الحكّام، وصلاح الحكّام يتوقّف على رضا الله وعلى حكمتهم وحكمة رعيتهم.

كان بإمكان ابن قتيبة أن يقول إنّ صلاح الدين والدنيا هو بالانقياد والتطبيق الأعمى لما جاء به القرآن والسنّة النبويّة، لكنّه لم يقل ذلك بتاتاً. ما قاله هو أنّ الطرق إلى الله كثيرة، وأنّ أفضل البشر ليس بالضرورة أكثرهم صياماً وعبادةً.

يستوقفنا أيضاً في كلام ابن قتيبة أنّ الدين ليس فقط القرآن والسنّة والشرع، بل ثمة أمور كثيرة يحتاجها الناس والمجتمع: الأخلاق ودرء القبيح والتدبير الصائب والسياسة الراشدة وحتّى مبادئ العيش والتكاثر. نستشعر هنا وعند أبي نواس أنّ الرأي، مهما علا شأنه وقويت حجّته، يبقى رأياً لصاحبه، وليس بالضرورة لكل الناس.

يُعبّر الرأي عن قناعة راسخة لكنّها تحتمل الخطأ، مثلما أنّ الرأي الآخر هو خاطئ لكنّه يحتمل الصواب. ومن سخرية القدر أنّ كثيرين في عصرنا هذا نسوا أو تناسوا أهميّة هذا الأمر، فأصبح الإسلام عندهم فقط عبارة عن حفظ لبعض الأحاديث والآيات القرآنية، والتسابق بالفتاوى والأراء الفقهية

حتّى أن رموز التطرف في الإسلام أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة (ت. 1350) أقرّوا (ولو على مضض) بأنّه ليس هناك من طريق واحد إلى الله. يقول ابن قيّم مثلاً في كتابه “طريق الهجرتين وباب السعادتين”:

“وأما ما يقع فى كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها، رحمة منه وفضلا، فهو صحيح.. وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى الله، وما يرضيه متعدد متنوع.. بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه التى جعلها الله سبحانه لرحمته، وحكمته كثيرة متنوعة جدا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم.. ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوتّه وقبوله. ومن هنا يُعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد بل تنوع الشريعة الواحدة مع وحدة المعبود ودينه، ومنه الحديث المشهور: “الأنبياء أولاد علات دينهم واحد”.. فشبّه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها وإن تعددت فمرجعها كلها إلى أب واحد”.

إذاً، يقرّ ابن قيّم بأن ما يرضي الله متعدّد ومتنوّع، وهو شيء أراده الله، يختلف مع اختلاف استعدادات الناس (العقلية والنفسية والبدنيّة) وزمانهم وأماكنهم. كلّ امرىء يسلك الطريق التي تناسب وضعه وعقله. ليس هذا فقط، بل أراد الله أيضاً، برأي ابن قيّم، أن يكون هناك شرائع، وحتّى في نفس الشريعة هناك خلاف وتنوع.

إقرأ على موقع 180  التراث، السياسة، الإستشراق والحجة القوية

وحين ينتقد الإمام الغزالي (ت. 1111) في كتاب “إحياء علوم الدين” بعض أهل التصوّف الذين يؤمنون أنّ رأيهم وطريقتهم هي الوحيدة الصحيحة، يقول:

“وكلام المتصوفة أبداً يكون قاصراً، فإنّ عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه.. لا يهمه أمر غيره إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله وأحواله. وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم. فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والبعد. والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً مع الإشتراك في أصل الهداية”.

هنا أيضاً، يدل كلام الغزالي إلى أنّ الطرق إلى الله كثيرة، وأنّ رأي شيخ صوفي بصوابيّة طريقه وقناعاته تنطبق عليه فقط وعلى حاله وأحواله، ولا تنطبق بالضرورة على غيره من المتصوفة أو على الناس أجمعين. ويمكن لأحدهم أن يسلك أيّاً من طرق التصوّف، أو أن يسلك طرقاً أخرى. الله وحده يعلم مَن مِن العباد أكثر هداية وعلماً من الآخرين.

حتّى الفقيه والفيلسوف ابن رشد (ت. 1198) كان له كلام في هذا الموضوع في كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” (وللتوضيح، كلمة الحكمة هنا تعني الفلسفة). يقول ابن رشد أن هناك ثلاثة أصناف من الناس:

“صنف ليس هو من أهل التأويل أصلاً، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب.. وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة. وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة. وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرّح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور”.

ما يعنيه ابن رشد أنّ فهم الناس للشريعة وللدين يجب أن يتماشى مع أحوالهم العقلية. وعلى أساس ذلك، يسلك كلّ فريق طريقه. ويذهب ابن رشد بعيداً في حجّته إذ يقول أنّ على أهل الحكمة (وهم عددهم قليل) عدم مشاركة الخطابيين والجدليّين بتأويلاتهم للدين لأن ذلك فوق طاقة هؤلاء العقلية. بمعنى آخر، إذا قام أهل الفلسفة بمشاركة من هم أدنى منهم عقلاً بآرائهم وفلسفتهم وحججهم في الدين، ينتج عن ذلك ضياع هؤلاء وقيامهم بتفسير الدين كأنّهم فلاسفة فيقعوا في الكفر. إذاً لكلّ مقام مقال، كما يقول المثل المعروف. (للأمانة، يجب القول أنّ ابن رشد وقع في مهالك الرأي حين كفّر من يقوم بتعريف العامّة على طبيعة تفكير الفلاسفة ونهجهم وحججهم).

يدلّ هذا البحث على حقائق كثيرة كانت من المسلمات (الصامتة في معظم الأحيان) في الفكر الاسلامي الكلاسيكي. أهمّها أن الرأي يعبّر عن قناعة راسخة لكنّها تحتمل الخطأ، وأنّ الرأي الآخر هو خاطئ لكنّه يحتمل الصواب. ومن سخرية القدر أنّ كثيرين في عصرنا هذا نسوا أو تناسوا أهميّة هذا الأمر، فأصبح الإسلام عندهم فقط عبارة عن حفظ لبعض الأحاديث والآيات القرآنية، والتسابق بالفتاوى والأراء الفقهية، والتسابق في إظهار علامات التدين، والتسابق في التحريم والتكفير. تناسوا أو نسوا أنّ الرأي لا يكون إلا في إطار آراء تتصارع وتتعايش مع بعضها البعض، وتنتج مجتمعةً حكمة ومنفعة للناس وصلاحاً لزمانهم وحكامهم. لذلك علينا أنّ نذكّرهم بما قاله أبو نواس معدّلاً: (قل لمن يدعي في الدين فلسفة.. حفظت رأياً وغابت عنك آراء).

مجدداً، صدق الغزالي عندما قال إن الطرق إلى الله كثيرة.. ووحده الله يعلم مَن مِن العباد أكثر هداية وعلماً من الآخرين.

(*) الجزء التاسع: الإسلام والشعر.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "فقه الرجال" في الإسلام.. إفتئات على المرأة والقرآن (2)