مسجد “مونت لاجولي” تجربة رائدة في العمل الإسلامي في فرنسا

مشروع العمل الإسلامي الآخذ في النمو والسائر في طريقه نحو الاكتمال والإنجاز التام في منطقة مونت لاجولي (Mantes-la-Jolie)، أكبر ضواحي باريس، حيث القسم الأكبر منها مأهول بجالية إسلامية (مغربية/ جزائرية وإفريقية)، هي أشبه بـ"صورة مصغّرة عن المغرب العربي" بأسواقه وحوانيته ومطاعمه ومقاهيه.

مشروع العمل الإسلامي هذا الذي حمله الدكتور عبد العزيز الجوهري منذ زمن، وشرع في تنفيذه منذ سنتين، هو عمل إسلامي قويم ونموذجي في بلد غير إسلامي يستضيف أكثر من خمسة ملايين مسلم يعيشون فيه ويعملون على أرضه. ويتمثّل هذا العمل في بناء مسجد جديرٍ بوظائف المسجد كاملةً، لا خدمةً لأبناء الجالية الإسلامية المترامية الأطراف في فرنسا فحسب، وبخاصةً في منطقة مونت لاجولي، بل خدمةً أيضاً لأبناء المنطقة كافة بكل مكوناتها الاجتماعية من عرب وسود وفرنسيين وغيرهم، طبقاً للعمل الأخلاقي الإسلامي، وبحسب العبارة الشائعة على ألسنة المسلمين: “جارك بخير، أنتَ بخير”! وذلك عملاً بما أوصت به الرسالة المحمدية من احترام الجار ومراعاة حرمة الجوار.

يتميّز هذا المشروع بكفاءة المسجد وقدرته على تأدية وظيفته الدينية على أتمّ وجهٍ من تعبّد وصلاة، وعلى تأدية الوظائف المتممة لوظيفته الدينية، في الوقت نفسه، أي الوظائف التربوية والتعليمية والأخلاقية والاجتماعية التي تقضي بتقديم الخدمات الاجتماعية والمساعدات الإنسانية على اختلاف أنواعها. فالمشروع الكبير الذي شرع بتنفيذه د. عبد العزيز الجوهري، بمساعدة جمعيات ومؤسسات مختلفة وعدد كبير من أبناء الجالية الإسلامية في فرنسا بعامة وفي منطقة “مونت لاجولي” بخاصة، يرمي إلى بناء مسجد يقوم بدوره الديني والتربوي والتعليمي والاجتماعي، ليوفّر للجالية الإسلامية، علاوةً على كل أسباب العبادة، خدماتٍ شتّى: فبالإضافة إلى قاعة الصلاة الفسيحة والمزدانة بالآيات القرآنية المخطوطة على جدرانها (بريشة الخطّاط المبدِع جلال الدين البومسهولي) ومنبر الخطبة الذي يعتليه إمام المسجد كل يوم جمعة، ثمة قاعة مجاورة تضم مكتبة حافلة بالكتب النفيسة التراثية والحديثة، وباللغتين العربية والفرنسية، وتوفّر للقارئ فهماً لرسالة الإسلام وتبحث في مشكلات المسلمين الراهنة سواء في بلدانهم الأصلية أم في بلدان الهجرة، فتزوّد القارئ بوعيٍ يحصّنه من الانسياق وراء أفكار سلبية لا بل هدّامة تزعم أنها من الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء، لأنها تزرع الضغينة والعداوة بين المسلمين أنفسهم أولاً، ثم بينهم وبين جيرانهم الفرنسيين في الأحياء والأماكن التي يقيمون فيها أو يعملون فيها. هذا الوعي بالذات هو حصانة تصون المسلمين من الوقوع في فخاخ المتأسلمين.

الجوهري: استعادة المسجد لوظائفه الإنسانية والأخلاقية، خصوصاً في بلاد أجنبية يجب أن تكون هدفاً يضعه نصب أعينهم القيّمون على المساجد، وبخاصة في المجتمعات الغربية التي تعيش فيها جاليات إسلامية تصبو إلى ممارسة واجباتها الدينية، من دون إثارة خلافات دينية ومذهبية

أما الخدمات التي يقدمها المسجد، فتتمثل بتعليم اللغة العربية لأبناء المسلمين المولودين في فرنسا والذين يحتاجون إلى تعلّم العربية. ويقدّم مسجد مونت لاجولي خدمات طبية إسعافية من خلال المستوصف الطبي والعيادة التي يعمل فيها أطباء متطوعون مسلمون ومسيحيون، من جنسيات مختلفة. وفي المسجد جناح يضم مطعماً ومطبخاً مزوّداً بتجهيزات حديثة ويقدّم وجبات طعام يومية للفقراء والمساكين. ويضم البناء الذي يشتمل على هذه الأجنحة، جناحاً لإيواء المشردين الذين لا مأوى لهم. وتمتد خدمات المسجد الإنسانية إلى تقديم المساعدة للمحتاجين والأسَر الفقيرة، فالشاحنتان الصغيرتان اللتان تبرّع بهما للمسجد محسنون مؤمنون بأهمية العمل الإنساني والخيري، تتحرّكان في اتجاهين: جمْع وتوضيب المواد والمؤونة الغذائية التي يتبرّع بها محسنون، أو التي تمّ التعاقد في شأنها بين المسجد وبين كبريات المخازن في فرنسا، ثم توزيعها على الأسر المحتاجة. فهذه التجربة الفريدة والرائدة في فرنسا لاقت صدىً طيّباً في أوساط المسلمين والمسيحيين على السّواء، وتحظى بدعمٍ واسع من الجميع، أفراداً ومؤسسات؛ ذلك أنّ العمل الخيري رسالة تحملها جميع الأديان.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بناء المسجد خضع لقانون تخطيط العمران المدني المحلي والملزِم لجميع مشاريع البناء على كامل أراضي المنطقة. ومبنى المسجد مصنَّف في فئة “مُنشأة للعبادة وذات تجهيزات مؤهّلة لاستقبال للجمهور، خدمةً للمصلحة الجماعية والنفع العام”.

يبلغ مجموع مساحة أرضية المسجد 813.69 متراً مربّعاً. تتسع أرضية الحديقة عند مدخل المسجد لـ 82 شخصاً، ويتّسع الطابق الأول لـ 594 شخصاً أي ما مجموعه 676 شخصاً. في الطابق الأرضي 11 وحدة (قاعة) وفي محيط الحديقة 6 وحدات أي ما مجموعه 17 قاعة، بينها وحدة مخصصة للاجتماعات ووحدة للمحاضرات ووحدة للمؤتمرات الصحافية وأخرى لعرض أفلام وثائقية وأخرى لوسائط الإعلام المتعددة (ملتيميديا). غير أن تنفيذ هذا المشروع يواجه عراقيل يضعها في طريقه جماعةٌ تناصبه العداء وتسعى إلى تخريبه وإفشاله، وهي بطبيعة الحال، جماعة تمثل الاتجاه السلفي الذي يمارس سلطة استبداد ديني في المساجد يتمثل بإلقاء خطب نارية لا غاية لها سوى تجهيل المصلّين. حتى أنه يمكن القول بأن ثمة حرباً غير معلنة تدور بين المساجد في فرنسا؛ فبعض هذه المساجد يحرّض على الانطواء على الذات، ويحضّ على نبذ الآخر بحجة أنه غير مسلم، في حين يدعو البعض الآخر إلى التآخي بين المسلمين وغير المسلمين من أتباع ديانات أخرى، فالناس كل الناس، “صنفان، إمّا أخوة لك في الدين وإما أخوة لك في الخلق” بحسب ما تقتضي رسالة الإسلام ﴿إنّا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾. على أنّ العالَم لم يعُد “دار حرب لأنها دار كفر، ولا دار سلام لأنها دار إسلام”، كما يزعم المتأسلمون، فحين تصبح دار الكفر تلك التي لا يكون فيها الحكم للإسلام، يجرّد مفهوم الدار من دلالته، ويفقد الدار إحالته إلى اتساع ممكنات الإيمان، ويُغلَق الباب دون عالميّة الإسلام وعياً مضمراً بحق كلّ الخلق في أن يعيشوا بسلام.

والحال أنّ رحمة الله تسع كلّ الناس، جميع الناس، لأنه إله الناس، وتتعدّد الطرق إليه بعدد أنفاسهم. أما المتأسلمون التكفيريون فقد أوهمونا أنّ القرآن يدعو إلى الشدّة والعنف والقتل، في حين أنّ الآية الكريمة ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ﴾ (المائدة: ٢٨) تشير إلى نهج التسامح الذي يحضّ عليه الإسلام. ومعلومٌ أن “الدين نصفه معاملة”، فكيف يتعامل المسلمون اليوم مع من وقف من الأجانب إلى جانب المسلمين، ووفّر لهم الأمن والأمان الذي حرموا منه في أوطانهم؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن نعوّل اليوم على مفاهيم قديمة أوجدتها سياقات تاريخيّة مخصوصة في فهم الواقع المعاصر بتعقيداته وتحدّياته، بعد التحوّلات الكبرى التي جرت في تاريخ العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين؟

الجوهري: “على المسجد أن يكون مكاناً واضحاً، مكاناً لا يبدو أن الناس يختبئون فيه، أو يخبّئون فيه ما يفعلونه. وهكذا أيضاً يجب أن تكون إدارة المسجد، شفّافةً واضحة، وأن يكون تمويل المسجد شفافاً، بعيداً عن أي تمويل مشبوه”

يشكو العمل الإسلامي في فرنسا من الخلافات بين القيّمين عليه، وهي خلافات قائمة على علاقات التحاسد والمزايدات الهادفة إلى المنفعة الشخصية والفردية، والتي تتلِف روحية العمل الإسلامي الأخلاقية. ويرى د. عبد العزيز الجوهري، أنّ “استعادة المسجد لوظائفه الإنسانية والأخلاقية، خصوصاً في بلاد أجنبية يجب أن تكون هدفاً يضعه نصب أعينهم القيّمون على المساجد، وبخاصة في المجتمعات والبلدان الأجنبية، وتحديداً الغربية التي تعيش فيها جاليات إسلامية تصبو إلى ممارسة واجباتها الدينية، من دون إثارة خلافات دينية ومذهبية، بل بالتآخي والتوادّ مع أبناء هذه المجتمعات من غير المسلمين، ومن دون إثارة النعرات الانفصالية التي تحاربها روحية الدين وسويّة الإسلام”.

إقرأ على موقع 180  معاهدات الحرب العالمية الأولى.. إعادة رسم العالم (4)

ولا يختلف العمل الإسلامي في فرنسا، أو في أي بلد غير مسلم، عنه في أي بلد إسلامي إلا من حيث كون الفئات الاجتماعية التي تتشكل منها المجتمعات تنتمي إلى جماعات وشعوب أكثر تنوعاً لجهة العادات واللغات والمعتقدات الدينية، ما يطرح المزيد من المسؤوليات التربوية والتعليمية والأخلاقية على القائمين بالعمل الإسلامي في المجتمعات الغربية، وبخاصة في ما يتعلق بمسألة الجوار والتجاور التي يوصي الإسلام باحترامها وصون حقوق الجار وحفظ الذمام والوئام معه؛ ومعلومٌ أنّ هذه المسألة هي الأساس في اشتعال الحروب في العالم، فعلاقات الجوار هي في الوقت نفسه أساس السلام وأساس الخصام، لا بين الأفراد والجماعات فحسب، بل بين الدول أيضاً، فالحروب تنشأ بين دول متجاورة لا ترعى حرمة الجوار، كما اتفاقيات السلام تقوم بين الدول المتجاورة.

ينمو مشروع المسجد الإنساني ببطء لضعف الإمكانات المالية الضرورية للقيام بأعبائه، ولكنه ينمو باستمرار لأنه يلقى قبولاً وإقبالاً من أبناء المنطقة المسلمين وتعاطفاً من أبنائها غير المسلمين الذين مدّوا يد المساعدة وتطوّعوا للقيام بأعمال شتى، ومن دون مقابل، كما لاقى تجاوباً مع مؤسسات ومنظمات إسلامية وغير إسلامية أبدت استعدادها لإنجاح المشروع؛ وفي ذلك أسمى آيات التعاون والتآخي بين الجماعات والشعوب والأديان. ويسعى الجوهري، علاوةً على تحقيق الهدف المعماري (مشيراً إلى ضرورة بناء مئذنة للمسجد وتزويده بمصعد أو رافعة لمساعدة المعوّقين على الوصول إلى قاعات الطابق العلوي) إلى تحقيق أهداف مواكبة، فهو يحرص على جعْـل المسجد “نقطة التقاء وتقاطع بين الُبُعدَين: العامودي (الروحاني) والأفقي (الناس)”؛ فالمسجد، كما يقول الجوهري، هو “تاريخياً، مكان يأتيه الناس جميعاً، ومكان يعبره الجميع ومن أبواب كثيرة يمكن للمرء من خلالها الخروج والدخول بحرية من دون قسرٍ ولا إكراه، والمسجد تاريخياً ليس مكاناً مقفلاً، بل هو مكان مفتوح، يفتح للناس السُبُل في كل الاتجاهات: مكان عبور واجتياز، والهدف النهائي هو جعله مساحة نشاط دائم يمتدّ إلى خارج المسجد، وخارج مواقيت الصلاة، ولا سيّما يوم الجمعة.

وعلاوةً على الدورات التعليمية، هناك أيضاً المعارض الثقافية والفنية والندوات الفكرية والمؤتمرات واللقاءات الأدبية، التي من شأنها أن تجعل المسجد مكاناً جذاباً، ومركزاً ذا رسالة ثقافية”. ويُضيف الجوهري قائلاً: “في فرنسا يمكن أن تكون المساجد أماكن متكاملة ومفتوحة للناس جميعاً، بمن فيهم غير المسلمين، ما يُتيح للمساجد أن تتعاون مع الجمعيات المحلية، فيوفّر لها ذلك التعاون حيّزاً لعرض أنشطة معينة، فعلى سبيل المثال، شارك مسجد مونت الجنوبي في أنشطة “تيليثون” (Téléthon) وهو موضوع لا يقتصر على المسلمين وحدهم. وعلى سبيل المثال أيضاً، يمكن تركيب كوخ (شاليه) أمام المسجد خلال شهر رمضان لبيع العديد من المنتجات والسلع والأطباق والمواد الغذائية، ما يشكّل فرصةً للترحيب بأهالي مونت لاجولي وغيرها من المناطق المجاورة، سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين. وهذا يسمح لنا بلقاء الناس ونشر رسالة المسجد. ولا بدّ للمسجد ان يعتمد الشفافية وأن يُزيل كل أسباب الغموض التي تجعل غير المسلمين يتوجّسون أو يجفلون منه. لذا، على المسجد أن يكون مكاناً واضحاً، مكاناً لا يبدو أن الناس يختبئون فيه، أو يخبّئون فيه ما يفعلونه. وهكذا أيضاً يجب أن تكون إدارة المسجد، شفّافةً واضحة، وأن يكون تمويل المسجد شفافاً، بعيداً عن أي تمويل مشبوه”.

بطبيعة الحال، معالجة العنصرية ضد المسلمين في البلدان الغربية تطلّب الكثير من الجهود التي يجب أن تبذلها الحكومات والجمعيات والأحزاب الغربية. وحول هذه المسألة الشائكة يوضح د. الجوهري: “إنّ ما يعنينا نحن بوصفنا مسلمين في هذه المعالجة، هو أن يتخلّق القيّمون على العمل الإسلامي في الغرب بمكارم الأخلاق؛ وهذا شرط لا بدّ أن يتوافر في تلك المعالجة، ولو أنه شرطٌ غير كافٍ، وإنما يجب أن تلازمه وتؤازره شروط أخرى من الجانب الآخر، إن هو شاء حقاً وصدقاً نزع فتيل الكراهية بين خليط الشعوب التي تكوّن مجتمعاته”.

المشروع الذي يحمله د. عبد العزيز الجوهري نظرياً وينفّذه عملياً، نجده فكرةً واضحةً في مؤلفات العديد من المفكرين العرب، كما في كتاب “الإسلام في الأسر. من سرق الجامع”؟ للمفكر الليبي الكبير الراحل الصادق النيهوم.

Print Friendly, PDF & Email
حسين جواد قبيسي

كاتب لبناني مقيم في فرنسا

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الصحوة الإسلامية تؤثر في العلاقات الدولية منذ مطلع السبعينيات