العلاقات الروسية الأميركية تتدهور.. لماذا؟

ما نشهده من توتر متصاعد في هذه الأيام بين واشنطن وبكين، بشأن "قضية تايوان"، لا يحجب المسار المتوتر والمتصاعد على خط العلاقات الأميركية ـ الروسية.

حلّت الدبلوماسية الأميركية فيكتوريا نولاند ضيفة على بيروت آتية من موسكو في الأسبوع المنصرم. محصلة المحادثات الأميركية ـ الروسية كانت “كارثية”، وفقاً لألكسندر مركوريس رئيس تحرير موقع “ذي دوران” الواسع الانتشار في أوروبا والولايات المتحدة.

كان من السهل على المراقبين أن يحكموا على المحادثات الأميركية ـ الروسية بالفشل مسبقاً قبل إنعقادها، لكن هذا الإستنتاج تأكدّ في ما بعد للأسباب الآتية:

أولاً؛ ما زالت النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وخاصة في إدارة جو بايدن تعتقد أنها ممسكة بزمام الأمور وأنها تستطيع فرض إملاءاتها على الجميع، خصوماً وحلفاء على حد سواء. فلا شريك لها في صنع القرار وحصد نتائجه إذا كانت إيجابية.. وتوزيع الخسائر على حلفائها إذا كانت سلبية. وهذه الحالة المتحكمة بالعقل الأميركي تعود إلى الأيديولوجية المتجذرة في وعي النخب الأميركية باستثنائية الولايات المتحدة وأنها المعيار الأخلاقي الذي يجب أن يخضع له العالم.

ثانياً؛ ما زالت النخب الحاكمة الأميركية رافضة لقراءة المستجدات التي ليست لصالحها وإن قرأتها فإنها تعتبرها ظرفية وعابرة. وبالتالي تشعر الولايات المتحدة بأنها لمّا تخلع القّفازات وتكشّر عن انيابها تستطيع اخضاع العالم. لكن هذا التقدير فشل في محادثات مسؤولي الإدارة مع الصين في مطلع العام الحالي في انكوراج وها هي تفشل في فرض املاءاتها على روسيا في محادثات نولاند مع الروس في موسكو، الأسبوع الماضي.

ثالثاً؛ شخصية فيكتوريا نولاند المعروفة بشدّة عدائها لروسيا، فهذه السيدة المتحدرة من أصول اوكرانية يهودية، لا تؤهّلها صفاتها وتاريخها لإجراء المحادثات مع موسكو. فمن يريد تعطيل المفاوضات وإفشالها مع روسيا يرسل أشخاصا كفيكتوريا نولاند.

رابعاً، حرصت نولاند على القول بأنها تقوم بزيارة موسكو بناء على طلب الرئيس الأميركي، وهذا أمر غريب لأنها تأتي في المرتبة الثالثة في وزارة الخارجية الأميركية. فلماذا يكلّفها الرئيس مباشرة بذلك؟ وهل أرادت أن تقول إنها لم تكن صاحبة تلك الفكرة؟ فإذا كان كذلك فهي خذلت الرئيس في المهمة التي كلّفها بها وإذا لم يكن كذلك فمن يتحمّل مسؤولة الفشل؟ هناك إشارات عديدة صادرة عن البيت الأبيض تفيد بأن الرئيس الأميركي يريد تخفيف التوتر مع روسيا لأنه متعب من التصعيد ولأنه يريد التفرّغ إلى الملف الصيني. يقود ذلك للقول إن فشل مهمة نولاند لا يخدم توجه بايدن بل اجندة المحافظين الجدد الذين يعتبرون روسيا خطراً وجودياً على الولايات المتحدة وليس الصين. فالصراع حول الأولويات في السياسة الخارجية ينعكس سلباً على الأداء ليس فقط في الملفّين المذكورين بل في مختلف الملفات الخارجية التي تهم الولايات المتحدة.

خامساً؛ كان في طليعة الشخصيات التي التقت بها فيكتوريا نولاند في موسكو سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية وديمتري كوزاك مدير مكتب الرئيس الروسي، لكنها لم تجتمع بسيرجي لافروف وزير الخارجية.. ولا بالرئيس فلاديمير بوتين. دارت معظم المحادثات أثناء الزيارة حول شرق أوكرانيا، وبات واضحاً أن نولاند غير معنية بالاستماع إلى وجهة النظر الروسية بل جاءت لتملي الشروط والمطالب على روسيا وهذا ما لم ولن تقبله القيادة الروسية التي كانت مدركة مسبقاً طبيعة مهمة نولاند.

هناك إشارات عديدة صادرة عن البيت الأبيض تفيد بأن الرئيس الأميركي يريد تخفيف التوتر مع روسيا لأنه متعب من التصعيد ولأنه يريد التفرّغ إلى الملف الصيني. يقود ذلك للقول إن فشل مهمة نولاند لا يخدم توجه بايدن بل اجندة المحافظين الجدد الذين يعتبرون روسيا خطراً وجودياً على الولايات المتحدة وليس الصين

سادساً؛ لوحظ أن المحادثات كانت شديدة التوتر والدليل أنه لم يصدر أي بيان مشترك أو حتى منفصل سواء عن الخارجية الروسية أو الأميركية حول نتائج اللقاءات التي أجرتها نولاند، وهذا ما يؤكّد أنه لم يتّم الاتفاق على أي موضوع.. وحتى في الملفات الأقل حساسية كملف المناخ والحد من التسليح الاستراتيجي حيث كان من الممكن التوصل إلى تفاهم ما. بدا واضحاً من خلال مجريات الزيارة ومآلاتها صعوبة التوصل إلى تفاهم أو تسوية في الظرف الراهن في العديد من الملفات. لكن من المفيد الإشارة إلى تصريح أدلى به ريابكوف لمحطة “آر تي” الروسية وقال فيه أن “بعض الاتفاق المتواضع تمّ التوصل إليه وهو مواصلة التواصل ولكن على مستوى منخفض من التمثيل الدبلوماسي. وهذا يدل على أن الولايات المتحدة وروسيا لا تريدان قطع شعرة معاوية لعدم الوصول إلى مواجهة مفتوحة تؤدّي إلى حرب عالمية ثالثة ولكن، في الوقت نفسه، بدت الدولتان غير مستعدتين للبحث في العمق في الملفات المشتركة.

سابعاً؛ كان لافتاً للإنتباه عدم إعارة الإعلام الروسي الإهتمام المعتاد لمثل هذه الزيارات الأميركية. وقد أشارت صحيفتان روسية، هما “نيفافيزيما غازيت” و”كومرسانت”، إلى الزيارة بخجل، بينما لم تحظَ الزيارة بالتغطية الإعلامية المألوفة من الجانب الأميركي، ما يدّل على مدى الجفاء الموجود بينهما. والجدير بالذكر أن للرئيس بوتين قولٌ مأثورٌ مفاده أن “الولايات عاجزة عن عقد أي اتفاق”.

إقرأ على موقع 180  للعراق ثِقله الإقليمي.. والسوداني "يحفُر" حضوره خارجياً

في مطلق الأحوال، حقّقت الزيارة أهدافها لدى الفريق المتشدّد في الإدارة الأميركية الذي يريد التصعيد في العلاقات مع روسيا، وهذه العلاقات في أدنى مستوياتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي حيث تسرّب عن بعض المسؤولين الروس التفكير الجدّي بتجميد العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة. لذلك، لا جدوى للتفاوض مع الأميركيين الذين يعجزون عن عقد أي اتفاق وفقا لتقدير روسي وصيني في آن واحد.  بهذا المعنى، جاءت زيارة نيولاند في سياق أميركي روسي متوتر، إذ أن المحافظين الجدد المتحكمّين في السياسة الخارجية في إدارة بايدن يعتقدون أن التراجع الأميركي نسبي ويعود إلى ضعف باراك أوباما وغوغائية دونالد ترامب، وبالتالي فإن الظهور المتشدّد يعيد للولايات المتحدة هيبتها حتى تفرض إرادتها على العالم وتمنع وجود أي منافس يذكر لها.

غير أن هذا المعتقد ضُرب في الصميم عندما كتب روبرت كاغان، زوج فيكتوريا نولاند والمنظر الأبرز للمحافظين الجدد، في مقال في أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي أن الولايات المتحدة تواجه أخطر أزمة دستورية في تاريخها وأنها على ابواب “حروب أهلية” وحالات انفصالية بين الولايات والدولة الاتحادية. ولا نغالط كاغان في تقييمه لأننا وصلنا إلى تلك النتيجة منذ عدّة سنوات. لكن إذا كان الأمر هكذا فكيف يمكن الاستمرار بسياسة التعالي والإملاءات على الخصوم وعلى الحلفاء إذا أصبح مصير الولايات المتحدة قاب قوسين وأدنى؟

إذا كان ثمة رهان على حد أدنى من العقلانية في قيادة الولايات المتحدة لعدم ارتكاب الحماقات، إلا أن سجل الولايات المتحدة يشير إلى أن مسلسل الحماقات لا ينتهي بل يتنامى كمّاً ونوعاً

لسنا هنا إطار تحليل المشهد الداخلي الأميركي ولكن هذا الوضع المقلق قد يؤدّي إلى ارتكاب حماقات لا رجعة عن نتائجها في ما يتعلق بالولايات المتحدة والعالم. وإذا كان ثمة رهان على حد أدنى من العقلانية في قيادة الولايات المتحدة لعدم ارتكاب الحماقات، إلا أن سجل الولايات المتحدة يشير إلى أن مسلسل الحماقات لا ينتهي بل يتنامى كمّاً ونوعاً. فاستفزاز الصين في بحر الصين وترك الاعلام الأميركي يعمل على تأجيج المواقف المعادية لكل من روسيا والصين يدفع إلى المزيد من التلاحم بين روسيا والصين.

وفي مقال مثير للإنتباه نشره موقع “استراتيجيك أند كلتشر” (استراتيجيا وثقافة) الذي يشرف عليه فيليب جيرالدي الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، يقول الكاتب توم كيربي إن سياسة الإدارة الأميركية تجاه الحلفاء والمبنية على عدم اشراكهم بأي منافع ستؤدّي إلى فقدان فعّاليتها في مواجهة روسيا. وبالفعل، جاءت صفقة الغوّاصات الأميركية مع استراليا على حساب فرنسا لتجعل الأخيرة تفكّر جدّيا بإنشاء جيش أوروبي بسبب تعاظم مناخ إنعدام الثقة بالولايات المتحدة، وهذا الموقف كانت تشاطره انجيلا ميركل لكن مع خروجها من الحكم ليس من المؤكّد ان يجاري الفريق الجديد في المانيا الجارة الفرنسية.

هذا يعني أن الذراع الوحيدة المتبقية للولايات المتحدة في أوروبا هي حلف الأطلسي الذي اعتبره إيمانويل ماكرون ميّتاً دماغياً (brain dead). ومهمة الحلف كانت تبرير وجود أميركا في أوروبا ولإخراج روسيا منها ولوضع المانيا في الأسفل. ومن جهة أخرى، تنامي الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا يقلّل من فعّالية الحلف الأطلسي. البديل يصبح بعض دول أوروبا الشرقية وخاصة أوكرانيا أو جورجيا. لكن روسيا لن تسمح بدخول هذين البلدين إلى الحلف الأطلسي وإذا ما تمّت دعوتهما للانضمام فهذا بمثابة إعلان حرب، كما جاء على لسان ديمتري بيسكوف مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريح للقناة الفرنسية الخامسة. ونضيف أن زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن إلى أوكرانيا ساهم في توتير العلاقة مع روسيا حيث اتهم الأخيرة بعرقلة “الحل السلمي” في أوكرانيا كما أنه فتح الباب لإدخال أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف الأطلسي. لذلك لا يمكن اسقاط احتمال مواجهة عسكرية في أوكرانيا و/أو جورجيا بين روسيا وأوكرانيا و/أو بين روسيا وجورجيا تكون فيها منظمة الحلف الأطلسي عاجزة عن تقديم أي مساندة ودعم لهذا الحليف أو ذاك.

وما يزيد من تعقيد الأمور المواقف غير المدروسة لدى المسؤولين في منظمة الحلف الأطلسي حيث قامت الأخيرة بطرد عدد من الدبلوماسيين الروس بدون أي سبب يذكر ولكن بتهمة “التجسس”، فكان الرد الروسي بتجميد العلاقات مع الحلف الأطلسي ما يدل على عدم الاكتراث بكل المنظومة. ويأتي هذا الموقف في سياق التسريبات التي ذكرناها أعلاه حول إمكانية تجميد العلاقات مع الولايات المتحدة. فبغض النظر عن مستوى العلاقات بين روسيا والحلف وحتى الإدارة الأميركية فإن الأزمات القادمة بين روسيا والولايات المتحدة قد لا تجد مجالاً للمعالجة الدبلوماسية والسياسية ما يجعل احتمالات المواجهة العسكرية أكثر جدّية مما كانت عليه حتى الآن.

 

Print Friendly, PDF & Email
زياد حافظ

باحث؛ كاتب إقتصادي ـ سياسي؛ وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والإجتماعي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أميركا تُسقط "المنطاد" ولا تستفز الصين.. الأولوية لروسيا!