لا داعي للتذكير بأن مصر الدولة العربية الأولى التي واكبت واعترفت باستقلال لبنان في أربعينيات القرن الماضي، إذ شكّلت القاهرة مركزاً للتفاوض على استقلال لبنان عام 1943، واستضافت اجتماعاً حضره كل من رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري ورئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح برعاية رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس باشا، حيث تحول فندق “شيبرد” في القاهرة إلى حيز لتنسيق الاتفاق على الاستقلال والصيغة، فكانت ولادة الجمهورية الأولى.
وقد بلغت العلاقة المصرية اللبنانية أوّجها فى زمن جمال عبد الناصر، خصوصاً بعد إنشاء الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة المصرية ـ السورية). لم يكن وجود لبنان كدولة جوار مع دولة الوحدة هو مصدر الإهتمام فقط. لطالما كانت الدولة المصرية تعتبر أن الأردن وسوريا ولبنان جزءٌ لا يتجزأ من الأمن القومي المصري.
بعد رحيل عبد الناصر وتولي أنور السادات حكم مصر، استمرت العلاقة الوطيدة بين مصر ولبنان، إلى أن شهدت أول توتر في تاريخ البلدين، مع توقيع إتفاقية كامب ديفيد عام 1978، من دون إغفال ما كان يعنيه لبنان في تلك المرحلة، كساحة تقاطعات دولية وإقليمية كان حضور منظمة التحرير الفلسطينية أحد أبرز ركائزها.
لاحقاً، مهدت قمة عمان (8 تشرين الثاني/نوفمبر1987) لعودة مصر إلى الصف العربي، بتأكيد مقرراتها “أن العلاقات الدبلوماسية بين أي دولة عضو في الجامعة العربية وبين مصر عمل من أعمال السيادة تقررها كل دولة بموجب دستورها وقانونها”. بعدها، تسارعت وتيرة التطبيع العربي مع مصر، وتوّجت في العام 1990 بإنخراط مصر وسوريا مع حوالي 30 دولة في تحالف دولي وعربي وإسلامي بعنوان “تحرير الكويت من الإحتلال العراقي”.
لقد خبر المصريون الصيغة اللبنانية جيداً، ويعتقد البعض أنه لو قُدّرَ لعبد الناصر أن يعيش أكثر لكان بإمكانه منع حصول الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، مستشهدين بحكمته في مقاربة أحداث العام 1958 وتبعات “حلف بغداد” وشراكته في تأسيس حقبة الستينيات اللبنانية الماضية (طبعاً مع عوامل أخرى أبرزها نكبة العام 1948)، والتي جعلت حاكم دبي محمد بن راشد يحلم بإحالة إمارته إلى مدينة تشبه بيروت ذاك الزمن.
عملاً بقاعدة أرسطو العلمية؛ “الطبيعة تخشى الفراغ”، ثمة سؤال هنا؛ هل يملك لبنان من العلم والمعرفة والدبلوماسية والخبرة لتحضير العناصر الفيزيائية المطلوبة لجذب “أم الدنيا” أكثر إليه؟
وحتى لا نغرق في التاريخ، فإن حقبة رفيق الحريري (1992ـ 2005)، شكلت حقبة ذهبية في تاريخ العلاقات المصرية اللبنانية، وبرغم “الثورة المصرية” (2011) وتداعياتها الماثلة أمامنا حتى يومنا هذا، فإن مصر اليوم هي الدولة العربية الأكثر حضوراً في المشهد الداخلي اللبناني. ومن يراقب كيفية تعامل مصر في مرحلة ما بعد إنفجار مرفأ بيروت، لا يسعه إلا أن يُقدر غيرتها اللبنانية، وهذا ما يجعل البعض يتمنى أن تنخرط مصر أكثر في الملف اللبناني برغم تعقيداته وتشابكاته العديدة.
لقد شهدنا مؤخراً أحداثاً دامية في الطيونة كادت تطيح بالسلم الأهلي وأعادت إلى الأذهان صور الحرب الأهلية، فيما اكتفت الحكومة المصرية على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير أحمد حافظ، بالقول “إن مصر تتابع بقلق بالغ تطورات الوضع فى لبنان، وتأسف لما شهدته الساحة اللبنانية من أحداث اليوم.. وإن مصر تدعو كافة الأطراف اللبنانية إلى ضبط النفس، والابتعاد عن العنف تجنباً لشرور الفتنة”.
هذا الموقف لا يتفق مع وزن وتاريخ ورصيد ومكانة الدولة المصرية لدى الشعب اللبناني، فكان الحري بالقيادة المصرية أن تتحرك عملانياً على الساحة اللبنانية، كونها الدولة العربية الوحيدة القادرة على التحدث مع جميع الأطراف اللبنانية، لا سيما مع “حزب الله” الذي لم تنقطع علاقاته يوماً بمصر، حتى في عز احتدام الخلاف بينهما على خلفية توقيف “خلية حزب الله” في نيسان/أبريل 2009 بتهمة تهريب أسلحة إلى غزة عبر الأراضي المصرية.
ومن المفيد هنا التذكير بأن مصر قاربت عدداً من الملفات اللبنانية بطريقة إستثنائية في السنوات الأخيرة، من إنتخاب مفتٍ جديد للجمهورية اللبنانية إلى المشاركة في الفاعلة في الجهود الدولية والعربية التي أدت إلى إطلاق سراح رئيس حكومة لبنان سعد الحريري في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، فضلاً عن حضورها الدائم على خط التماس اللبناني ـ الإسرائيلي في كل لحظة كان يحصل فيها أي توتر في السنوات الأخيرة.
وإذا كانت “أزمة جورج قرداحي”، وهي تتجاوز شخص وزير الإعلام اللبناني ذاته، تدل على وجود قرار سعودي بتأديب لبنان وتدفيعه بعض أثمان “حرب اليمن”، فإن هذا يمكن أن يشكل فرصة لظفر الدولة المصرية بدور أكبر على الساحة اللبنانية، خصوصأ أنها تتكئ على رصيد رسمي وسياسي وشعبي لا يمكن طمسه او محوه من ذاكرة اللبنانيين. رصيد تخطى ما هو سياسي كما ذكرنا آنفاً، إلى ما هو اجتماعي وتربوي وديني، وذلك بإنشاء مصر لجامعة بيروت العربية كأول جامعة تعليمية عربية تبصر النور في لبنان، وما زالت تُصنف بين أبرز الصروح العلمية فيه. واستمرار إرسال البعثات الأزهرية لمساجد لبنان، الأمر الذي يجعل مصر وإلى هذا اليوم المؤثر الأول في دار الفتوى اللبناني، ناهيك عن المساعدات التي قدمتها مصر وما تزال تقدمها، سواء للجيش اللبناني أو على الصعد التربوية والإجتماعية والطبية والصحية (في مواجهة تداعيات إنفجار مرفأ بيروت وتفشي فيروس كورونا إلخ..).. ناهيك عن التطور الأخير المتمثل بجر الغاز المصري إلى لبنان عبر الخط العربي.
وعليه، يستدعي الوضع الراهن الذي يعيشه لبنان حضوراً مصرياً لتعبئة الفراغ الذي خلّفه الاستنكاف السعودي والخليجي في ظل الحصار والعقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية. وعملاً بقاعدة أرسطو العلمية؛ “الطبيعة تخشى الفراغ”، ثمة سؤال هنا؛ هل يملك لبنان من العلم والمعرفة والدبلوماسية والخبرة لتحضير العناصر الفيزيائية المطلوبة لجذب “أم الدنيا” أكثر إليه؟
الجواب عن هذا السؤال صعب للغاية في ظل واقعنا اللبناني بمنازله الكثيرة، بدليل أن الحكومة اللبنانية كان يُفترض بها فور إندلاع أزمة قرداحي إلى تحديد الممكن الذي تستطيعه حتى تستنجد بمصر أو غيرها للعب دور كاسحة الألغام.. ولكن للأسف، ذهبت الحكومة اللبنانية إلى غلاسكو وباريس والدوحة.. ولم تجد ضالتها هناك.
يتندر اللبنانيون على ريادة الدور المصري على الساحة اللبنانية في القرن الماضي، ويتطلعون إلى أن تضطلع “المحروسة” بدور يليق بمكانتها العربية في يومنا هذا.. فهل تكون القاهرة أكثر من بيروت حرصاً على لبنان واللبنانيين؟