المقاربة الذهنية في الدين وفي التكنولوجيا واحدة. أنت تستنبط مجهولات من معلومات. تستخرج المعرفة من مبادئ أولية تعتبر ثابتة في صدقيتها. تصل هذه المبادئ في ثباتها الى درجة القداسة. تبتعد هذه المبادئ في الدين كما في التكنولوجيا. في العلم الحديث أنت تسأل وتشك. تضع المبادئ الأولية على المحك. ترتاب في صحتها. صحيح أنك تنطلق منها الى التكنولوجيا، لكن العلم الحديث يتطوّر بثورات معرفية، تنتهي دائماً ـ أو غالباً ـ بتغيير المبادئ الأساسية عينها. أما في الدين والتكنولوجيا، فإنك تفسّر المبادئ الأساسية. ينتهي الدين في الطقوس التي تعتبر تطبيقات للدين. وينتهي العلم الحديث الى التكنولوجيا التي تعتبر تفسيراً لنظريات العلم الحديث. معظم ما يُسمى إبداع في التكنولوجيا هو تعليب جديد لنظريات قديمة. تسويق جديد لها، دون تساؤل حول صحتها أو عدم ذلك. الطقوس الدينية ممارسات أو تطبيقات لمبادئ تتعلّق بالإيمان. الفقه تطبيق لأصول الدين.
أهل الإسلام السياسي في وصولهم الى السلطة يتركون أمور الحياة اليومية للطقوس الدينية في الدين وللتكنولوجيا في العلم. كلاهما تطبيق لمبادئ ثابتة معلومة. لكنهم ينفرون من مذاهب جديدة تتعلّق بالأصول التي تقدّس ويُمنع التساؤل بها والتشكيك بها خوفاً من الانتقال الى مستويات جديدة من الإيمان. كذلك التكنولوجيا. هي مستحبة. تنال التقدير والتقديس بغير ما يحصل للعلوم الحديثة. هذه الأخيرة مهمتها التساؤل حول مبادئ الكون والعناصر. والتساؤل يقود الى الشك، والشك يقضي على اليقين، وهو سواء وصل الى نظرية جديدة أم لم يصل، يُفرد للشك في العقيدة (العلمية) مكانة خاصة يخاف منها أهل العلم السائد. كما يخاف أهل الدين السائد من كل شك أو عقيدة جديدة ربما انتهت الى مذهب جديد. ويخافون أكثر إذا امتد التساؤل والشك من أصول الدين الى أصول العالم، ذلك أن للدين وجهة نظر تتعلّق بالدين أو بالخالق. هذه النظرية تعتبرها أساساً فيزيقياً وميتافيزيقياً. جاء العلم الحديث منذ نشأته ليهدم نظريات الدين حول نشوء الكون وتسطحه ودورانه، وحول نشوء الإنسان وتطوره، وكذلك بالنسبة للحيوانات والنباتات. وجميع هذه النظريات تقوّض أسس عقائد الدين التي يحافظ عليها حراس الهيكل ويمنعون تسربها لأذهان الناشئة وبقية الناس.
للتكنولوجيا ثقافتها. هذا ما تحاول المجتمعات الإسلامية تجاهله أو منعه. تريد تكنولوجيا الغرب، خاصة السلاح من أجل القمع وكم الأفواه، والحفاظ على ثقافتنا الموروثة في آن معاً. وهذا تناقض داخلي هو في صميم الحرب الأهلية عندنا
يصر الإسلام السياسي على الاحتفاظ بالدين الموروث واستيراد تكنولوجيا الغرب دون ثقافة الغرب. وكما أن ثقافة الغرب المناوئة لعقائد الدين ومؤسساته (الإصلاح الديني والإصلاح الديني المعاكس في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر) أنتجت ثقافة جديدة مكان ثقافة الغرب القروسطية، كذلك فإن هذه الثقافة ولّدت تكنولوجيا، هي بدورها ولّدت ثقافة جديدة، مرّت بالرأسمالية ثم الليبرالية، ثم النيوليبرالية.
للتكنولوجيا ثقافتها. هذا ما تحاول المجتمعات الإسلامية تجاهله أو منعه. تريد تكنولوجيا الغرب، خاصة السلاح من أجل القمع وكم الأفواه، والحفاظ على ثقافتنا الموروثة في آن معاً. وهذا تناقض داخلي هو في صميم الحرب الأهلية عندنا. تستخدم الثورة المضادة السلاح الغربي المستورد للحفاظ على المجتمع التقليدي والثقافة التقليدية. تريد نتائج العلم الحديث دون تبني أسسه، أي العلم الحديث. يعرف حُكامنا أن استيراد التكنولوجيا لا يتوافق مع المجتمع المغلق الذي يحافظون عليه. لذلك تتبدى الانفجارات الكبرى والحروب الأهلية. جاء الانفتاح على الغرب لاستعمال أسلحته وطرقه المالية الاقتصادية مع الإصرار على المحافظة على الثقافة، وهذا أمر مستحيل. استيراد التكنولوجيا يحتّم استيراد الثقافة التي أنتجته، وإلا تفجّرت مجتمعاتنا. وهذا ما يحدث.
الانفتاح لا يكون جزئياً (تكنولوجياً لا ثقافياً)، بل هو يشمل جميع جوانب المجتمع الثقافية، وأساليب الحياة اليومية، والأفكار الدينية. الانفتاح يكون بالخروج الى العالم وتبني ثقافة الغرب. الخروج من ثقافتنا الموروثة وإنتاج ثقافة جديدة قائمة على النقاش والحوار المفتوحين. ذلك يُسقط الاستبداد عن عرشه ويخرج سدنة الهيكل من أصحاب العمامات من جحورهم. الانفتاح يُدمّر الأسس الثقافية للمؤسسات الدينية ويزعزع أسس الاستبداد. قيادة المرأة للسيارة يعني خروجها من سجن المنزل وكسرها لسلطة الرجل. حضور مباريات رياضية أو كونسرتو غنائي يعني أسساً جديدة للقاء بين البشر والاختلاط والخروج من العزلة. خروج المرأة الى العمل يعني المسير في طريق المساواة مع الرجل. الخروج من البيت بحد ذاته ثورة. الثورة المضادة تعني تناقضات داخلية، لم يعد بإمكانها الاستمرار بالانفتاح دون تغييرات ثقافية. والتغييرات الثقافية تنتج مجتمعات جديدة. الماء تجري تحت أقدام الاستبداد. لا يستطيعون الوقوف مكانهم. ما اعتبروه تبنياً تكنولوجياً محايداً لا أثر له في الثقافة يؤدي الى عكس الانغلاق المجتمعي المفروض بفتاوى الدين. تتقوّض أسس هذه الفتاوى ذاتها. حتى ليبدو أن المجتمع يعيش على أساس الدين. بل الدين يعيش، إذا تطوّر، على أساس المجتمع. مع انفتاح المجتمع ينفتح الدين وتتدفق شلالات الحرية. التكنولوجيا ليست حيادية. تصير التكنولوجيا فاعلة في التغيير الثقافي الذي لا بدّ منه. تنشأ ثقافة جديدة تجرف القديم والمقدّس. تتسابق لدراسة القديم خوفاً من اندثار الذاكرة وفقدان التراث. ما بدأه الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بإعادة إنتاج ثقافتنا، نُكمله نحن بإعادة إنتاج الثقافة الموروثة. مع إندماج هذه الثقافة الموروثة بالمجتمع المتغيّر ستُعتبر الثقافة الجديدة متغيّرة ومخالفة للقديم الموروث. ثم يظهر للجميع بما لا يدع مجالاً للشك أن الانفتاح الذي بدأ محدوداً ووسيلة لأنظمة الثورة المضادة من أجل البقاء سيصير جرثومة تنمو باستمرار لأجل إنفتاح اجتماعي، يتجاوز كل انفتاح سياسي. لا يستطيعون الإبقاء على الأبواب نصف أو ربع مفتوحة. سوف تنفتح الأبواب للسيل العارم.
لا يمكن الأخذ بالتكنولوجيا دون الأخذ بالعلم الحديث. ولا يمكن الأخذ بالعلم الحديث دون كسر طوق التقليد حول رقبتنا. صراعنا من أجل البقاء هو صراع بيننا وبين أنفسنا كي نعرف أنفسنا. نحرر أنفسنا فنعرف الله
الانفصام الاجتماعي (وداخل كل فرد) الذي حصل في القرن العشرين سيتحوّل الى تطوّر في القرن الحادي والعشرين، حيث تنتج التكنولوجيا ثقافتها بعد أن تعممت خاصة مع انتشار الآلة الذكية. ما حاول جمال عبد الناصر فعله عن طريق التصنيع الثقيل وبرنامج استبدال الواردات بصناعات محلية للتصدير، سوف يُحقّق عن طريق توسّع استخدام التكنولوجيا الحديثة خاصة ما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي. أدى استخدام الآلة الذكية إلى تدمير علاقات المجتمع السائدة. يظهر نوع جديد من الفردية. ليس الفرد في علاقته مع الآخرين بل الفرد في علاقته مع آلة يحملها في جيبه أو يضعها على مكتبه أو سريره (Laptop). فردية حزينة لكنها مصممة على أن لا تتوقّف. سيتدخل المالكون والمشرفون على الشبكات العنكبوتية لإنتاج معلومات ومعرفة تضخ الى أدمغة المستخدمين؛ لكنها إذا نجحت سيصير البشر مجرد كائنات روبوتية يستجيبون لما يُلقى إليهم ولما يخضعون له من سيل وتدفق معلومات؛ أو أن البشرية ستسير في الطريق الآخر حيث الضمير هو أساس الفردية. الضمير الأخلاقي المستمر منذ ما قبل التكنولوجيا، والذي لا بدّ منه كي يستعيد الفرد مكانته التي ما إن استبشر بها في البداية حتى فقدها تحت تأثير سيل المعلومات المتدفّق الى دماغ، بحيث لا يبقى للضمير أو الإرادة الإنسانية مكان. مع تدمير الانغلاق، انغلاق المجتمع، ظن الفرد أنه يكرّس نفسه. لكنه فقد ذلك. الآن هو يستعيد فرديته مع الضمير والإرادة. يبدو ذلك في الثورة العربية عام 2011 والثورة اللبنانية عام 2019. يبدو ذلك عند العرب أكثر مما عند الشعوب الإسلامية الأخرى. هذه لم تخض حديثاً حروباً ضد الاستبداد. وهي عن طريق دولها تتلاعب بالعرب وبمجتمعاتهم. أنتجت الثورة المضادة، كما القضاء على ثورة 2011، قلقاً عند العرب. قلق الوجود وقلق الضمير وقلق الإرادة. القلق بما فيه الشك الذي أنتج العلم الحديث تبدو بوادره عند العرب بما لا يتاح لغيرهم من المجتمعات الإسلامية التي يبقيها الاستبداد مجتمعات مغلقة تدور حول ذاتها. القلق الوجودي عند العرب يجعلهم يتهيأون للقفز أمام الشعوب الإسلامية الأخرى، ويجعلهم يتخلصون من العقل المستريح الذي لا يزال مسيطراً عند غيرهم ويشلهم عن التقدّم. سيخرج العرب من عبودية التكنولوجيا ومن انغلاق المجتمع.
يتشكّل العلم الحديث من ملاحظة الطبيعة ويصدر الإيمان من النفس البشرية. قال الراغب الأصبهاني في كتابه “تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين”: قال العلماء مرة: “أول شيء يلزم الإنسان معرفته نفسه. وقالوا مرة: أول ما يلزمه معرفة الله. وليس بين هذين القولين منافاة..” وتقول الآية الكريمة في الكتاب العزيز: “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”. وقال الإمام علي: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”. لا يتنافى الإيمان عن العلم الحديث، بل تحتاج المجتمعات الإسلامية المعاصرة الى العلم الحديث كي لا تبقى هامشية. لا يمكن أن تتقدم إذا اقتصرت على التكنولوجيا، خاصة على استيرادها. عليها فهم العلم الحديث واكتسابه كجزء من ثقافتها والتجاوب مع متطلبات العلم الحديث للخروج من انغلاقها على نفسها، وعزلتها، وعزوفها عن الاندماج في الثقافة الحديثة. لا يمكن الأخذ بالتكنولوجيا دون الأخذ بالعلم الحديث. ولا يمكن الأخذ بالعلم الحديث دون كسر طوق التقليد حول رقبتنا. صراعنا من أجل البقاء هو صراع بيننا وبين أنفسنا كي نعرف أنفسنا. نحرر أنفسنا فنعرف الله. تغيب هذه المعرفة مع العزلة التي نفرضها على أنفسنا لأنه يغيب عنا العالم. غيبة الله من أنفسنا تعمي بصائرنا. ينبثق المهدي السني والمهدي الشيعي من أنفسنا فنخرج الى العالم. ونندمح بالعالم ويكون لنا مكان فيه. عندها لن يكون النصر مستحيلاً. أما ما يقال عن أسلمة العلم الحديث فهذه محاولة بائسة مصدرها العجز وستكون مؤدية الى المزيد من الكوارث والهزائم. وهذا ما سيكون موضوع حديثنا القادم.