تحظى النبرة الحادّة للخطاب السياسي الشيعي في لبنان بإهتمام كبير من دوائر وحلقات في البيئة المسيحية راكمت خبرة سياسية وحزبية ومخزوناً ثقافياً، وبدت مهتمة بتحليل وتفكيك شيفرة الرسائل الموجّهة في أكثر من مناسبة، سواء تلك التي عبَّر عنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أو الناطق باسم المكنونات العميقة للوجدان الشيعي اللبناني المفتي الشيخ أحمد قبلان.
باتت مسألة التعبير عن فائض القوة في خطاب القيادات السياسية الشيعية أمراً تقليدياً. هناك ضيق بهذا اللبنان الذي ينظرون إليه ويلعبون دوراً رئيسياً وأساسياً فيه، منذ انتفاضة الإمام السيد موسى الصدر (في داخل البيئة الإسلامية أساساً وقبل أي شيء آخر) في ستينيات القرن الماضي، مروراً بالكثير من التحولات وأبرزها تلك التي جعلت حزباً إسلامياً مرتبطاً بعلاقة عقائدية وإيديولوجية مع إيران الثورة الإسلامية ينتشر ويترسخ في البيئة الشيعية اللبنانية ويصبح مرجعية رئيسية في لبنان ورقماً صعباً في المعادلات العسكرية والسياسية للمشرق العربي.
النظام السياسي والباب الواطىء!
حزب لديه قوة عسكرية هائلة ومتطورة ومدربة ومُجربة، منتشرة في لبنان وسوريا والعراق وعلى الأرجح في اليمن (بصيغة خبراء ومستشارين)، لكنه يجد نفسه مضطراً أن يُخفِّض سقفه السياسي لدى دخول الباب الواطئ للنظام السياسي اللبناني؛ باب يُجبرُ أيَّ قوةٍ أن تخفف من غلوائها الفكري والإيدولوجي والسياسي، كما سبق وفعلَ حزب الله نفسه في العام 1992 وفقاً لـ”إستراتيجية التكيف” كما تسميها الباحثة اللبنانية أمل سعد غريب، والتي قادها السيدان عباس الموسوي وحسن نصرالله، على خلاف ما تمسَّك به الشيخ صبحي الطفيلي في مرحلة ما قبل الطائف وما بعده من شعارات وعناوين.
في السياسة اللبنانية المحلية يصبح تأثير حزب الله، في الأمور غير الإستراتيجية، مثل تأثير أي حزب آخر، ويضطر إلى إجراء تحالفات وتفاهمات وإبرام تسويات وتقديم تنازلات. ربما، وعلى الأرجح، لأن مشروعه الأساسي والإستراتيجي لا يتعلق بالسياسة اللبنانية الداخلية
هنا يتزايد الضيق الشيعي. قوة عسكرية وسياسية وعلاقات إقليمية بمحور يتصرف بصفته “المنتصر” عسكرياً، لكنها قوة غير “مصروفة” في شرايين النظام السياسي اللبناني دستورياً كما يجب. في العسكر حسم وأمر وقرار وخبرة وجيوش وجحافل، لكن في السياسة اللبنانية المحلية يصبح تأثير حزب الله، في الأمور غير الإستراتيجية، مثل تأثير أي حزب آخر، ويضطر إلى إجراء تحالفات وتفاهمات وإبرام تسويات وتقديم تنازلات. ربما، وعلى الأرجح، لأن مشروعه الأساسي والإستراتيجي لا يتعلق بالسياسة اللبنانية الداخلية التي “جيَّر” إدارتها المحلية في شكل كبير لحليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهذا ما قاده إلى الإختلاف الكبير مع التيار الوطني الحر حول هذه النقطة بالذات.
لكن في المقابل، يعود هذا الإضطرار إلى الدخول من الباب الضيق، إلى أنه دستورياً لا يزال دور الشيعة في الدولة دون مستوى الحجم والنفوذ الذي يتمتعون به اليوم. أما الدور الذي يريدونه، فلا يزال غيرَ معلوم وغير واضح طالما أن ساعة الإعلان الصريح عن المطالب، من ضمن سياق بحث أسس النظام السياسي لم تُدَق بعد، ولو أن الطروحات وخاصة الفرنسية منها منذ تحولات وتفاهمات ما بعد الـ2005 مع إيران ومؤتمر سان كلو وحتى في عهد إيمانويل ماكرون، لا تزال تَشي بتوسيع الحضور الشيعي في النظام المُقسّم مواقعَ طائفية ومذهبية منذ مائة سنة حتى يومنا هذا. وهذا أيضاً يزيد من الغموض على مستوى الطروحات الشيعية ومن القلق على المستوى المسيحي.
التاريخ والدور
الأهم، والأدق بالنسبة للقراءة المسيحية العميقة – لأنَّ تغيير المعادلات السياسية يبقى أمراً معقولاً ومفهوماً في علاقات القوة والتوازنات – هو النظرة المتبرِّمة بالرواياتِ المؤسسة للكيان اللبناني تاريخياً، والتي سبق التعبير عنها في مناسبات عدة، مواربة أو صراحة، والسعي بالتالي إلى إسباغ روايات أخرى ومقاربة البيئة الشيعية للبنان الذي تراه، من وجهتها. فكيف عساه هذا اللبنان يكون إذا صاغته القوة الشيعية المقاتلة، وإلى أي حد يشبه لبنان الذي “نراه” من وجهة نظر”نا”؟ إلى أي مدى يبقى لبنان الذي حلمت به المسيحية السياسية، تحديداً بالنسبة لما تؤمن به، في كونه وطناً للحريات العامة والخاصة؛ وطناً للتنوع واحترام التعددية وترجمتها؛ وطن الدور المسيحي الفاعل في النظام السياسية، على خلاف حدود الدور المسيحي في المشرق كما في مصر والمحصور بالوجود والحرية الدينية وتحت موافقة السلطات السياسية، عسكرية “وطنية” أم محكومة بقوى دينية؟
إنه لبنانٌ آخر، مجهول. والمجهول مُقلِق. يذهب نحو “الشرق” في الوقت الذي لا تزال تعتبر فيه أوساطٌ مسيحية واسعة، وبعيداً عن تسليمها بتخلي الغرب سياسياً عن الدور المسيحي الفاعل، أنَّ العلاقة مع هذا الغرب على المستوى الثقافي والإقتصادي هو في أساس ليس تكوين لبنان وإشعاعه الفكري والثقافي في العالم العربي فحسب، بل في مستقبله أيضاً.
ركائز مسيحية سياسية
والمطالبة بتوسيع الحصة الشيعية استطراداً، غير مُقلقة مقارنة بالنظرة المسيحية إلى التاريخ ودور لبنان. فلدى المسيحيةِ السياسية طروحاتُها التي تعبِّرُ عنها في شكلٍ واضح إزاء التغيّر المُحكى عنه في النظام الجديد، وفي الجعبة أفكارٌ عدة قد تكون أبرزها اللامركزية الموسعة، لكنها ليست الوحيدة أبداً. فمسألة رئيس الجمهورية “القوي” في تمثيله الشعبي، محوريةٌ وليست أمراً عارضاً، وهذا التسليم لا يرتبطُ بتكتيكات وحسابات الصراع بين التيار الوطني الحر و”القوات اللبنانية” وخصوم ميشال عون سياسياً، بل بمبادئ جوهرية لنظام الطائف الذي حفِظَ لرئيس جمهورية لبنان قدراتٍ استعملها عون حتى النهاية، وهذا ما أدى إلى ضيقِ منظومة الطائف وغيظِها وهي التي لم تعتدْ إلا رؤساء جمهورية يهزّون الرؤوس ويوافقون ويوقِّعون. وما زاد في هذا الغَيظ والحنَق أنَّ استعمال الصلاحيات أتى من ضمن دستور الطائف، ولو أن خصومَ عون يتهمونَه بتجاوزه، و”الطائف” المُتجَاوز هنا في نظرهم هو ذلك الذي طُبِق مع الياس الهراوي وميشال سليمان، وليس الطائف الحقيقي الذي عبَّر عنه عون بانتزاعه حقَ الثلث في مجلس الوزراء، تكريساً لدورِ رئيس الجمهورية في السلطة التنفيذية، وهذا ما تصوّبُ عليه عينُ قوى منظومة الطائف لـ”استئصاله”، وليس فقط تحجيمَه.
بالنسبة لحلقاتٍ مسيحية، ما قاله السيد حسن نصرالله، لا يتعلق فقط بالتلويح بمائة ألف مقاتل. هناك رسالة واضحة لنصرالله وبما يمثِّل للمكوّن المسيحي، بأنَّنا نريدكم، ونريدكم معنا، وهذا محط تأكيد المؤكد لبيئة هي أساساً عانت ما عانته في هذا المحيط المشرقي والعربي المتقلب
سؤال الدولة الدائم
تبرُز هنا إلى الواجهة إشكالية الدولة كإحدى أبرز نقاط الإختلاف، والنقاش المطلوب أيضاً، مع البيئة الشيعية. في الشكل، الدولة مطلب لجميع المواطنين، بمن فيهم الشيعة الذين رأوا كاللبنانيين أنَّ مدخراتهم سُرقت ونُهبت وأن التوظيف في الإدارات لم يحمهم من الإنهيار الكبير. لكن في ممارسة القوى السياسية، لا تزال الدولة، بمفهومها وتطبيقها على مستوى القوانين والحقوق، محورَ إشكالٍ كبير مع البيئة الشيعية التي تبدو في عيون المسيحية السياسية، “لا دولتية” (Non étatique) ليس على المستوى العسكري فحسب، كما هو حال القوى الشيعية من العراق إلى لبنان (Non State actors)، بل أيضاً لجهةِ التزام القوانين والإقلاع عن تجويف الدولة من الحضور والوظيفة. وهذا الإشكال، أبرز ما عبَّر عنه الخلافُ الحاد والصراع بين من يمثلان هاتين النظرتين، “التيار الوطني” مع جبران باسيل، الداخل على النظام ما بعد الـ2005، ونبيه بري، الذي يريدُ الحفاظ على الأداء نفسه منذ ما بعد الـ1992. إنهما نظرتان متناقضتان، لا يمكن أن تجسرَهما إلا ركزيتين: حوار عميق لمعرفة مدى الإتفاق حول هذه “الدولة” وتبديد سوء التفاهمات إن وجدت على قاعدة حاجة الشيعة الماسّة والعميقة للدولة وحضورها ووظيفتها، والثانية التخفُّف من أثقال الصراع على الدولة المركزية بكل أوجهها، بما تعبر عنه اللامركزية الموسعة، وتحديداً المالية منها.
الإيجابيات وترجمتها
على أنَّ نقاطَ الإختلاف العميقة هذه، وأسئلةَ الهواجس والقلق، وركائزَ النقاش العميق المطلوب أساساً، وغير المكتمل منذ تنصِّل حزب الله عملياً من متطلبات التفاهم مع الطرف المسيحي الحليف، أي التيار الوطني الحر، تحديداً بإشكالية الدولة، كلها لا تحجُب التقاطَ الرسائل الإيجابية، من نُخَب البيئة الشيعية، ومن قيادتها أيضاً.
بالنسبة لحلقاتٍ مسيحية، ما قاله السيد حسن نصرالله، لا يتعلق فقط بالتلويح بمائة ألف مقاتل. هناك رسالة واضحة لنصرالله وبما يمثِّل للمكوّن المسيحي، بأنَّنا نريدكم، ونريدكم معنا، وهذا محط تأكيد المؤكد لبيئة هي أساساً عانت ما عانته في هذا المحيط المشرقي والعربي المتقلب، وليس فقط تلقُّفاً مُتَخيّلاً للمسيحيين الذين يحلمون دائماً، وأحياناً يتوهمون، بالبعد الكياني للمسلمين اللبنانيين على ما أظهره الإنجراف في 14 آذار 2005، طالما أن كيان لبنان الكبير بالنسبة للمسيحيين، لا يزالُ دائماً محورَ تهديدٍ أو إشكال، خاصة بالإرتباط مع بروز وتصاعد المحاور العربية والإسلامية، وإيديولوجياتها المتغيّرة، بين ناصريةٍ متوسعة وبعثية وحدوية وإسلامية دينية.
والجواب على المعطى الأخير، يكون بالمتابعة عن طريق الحوار العميق كترجمة للتواصل والإعتراف حقاً بـ”آخر” مختلف، لأنَّ قواعد الغلبَة على الطريقة القبَلية قد تثمرُ “انتصارات” لكنها لا تورثُ إلا خراباً ولا تبني وطناً مزدهراً ودولةً فاعلة، هي مطمح جميع اللبنانيين في وطنهم المنهار على رؤوسهم.