عندما يُصبح الكل شهداءَ بين.. تشييعين 

منذ اللحظة الأولى لتوقف العدوان الإسرائيلي فجر 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تدفّق الأهالي نحو الجنوب اللبناني يبحثون عن شهدائهم وما يزالون. ومنذ ذلك اليوم يكاد لا يمرّ يومٌ دون انتشال شهداء وتشييع آخرين، حتى بعد التشييع الكبير لسيد شهداء الأمة السيد حسن نصرالله، ليرسم مشهدية ما بين تشييعين، أوله هنا عن الشهداء، وثانيه عن "السيد" يأتي.

كل يوم كان الاحتلال الإسرائيلي يتراجع من قرية، كان الأهالي يتقدمون بعد أو مع أو حتى قبل جيشهم أحياناً، يحدوهم البحث عن شهدائهم، ومن ثمَّ تشييعهم، مواكب ترفع كواكب، وعوائل تواسي عوائل، والكلّ يتساوى في عرس الزفّ الجمعي، عندما يصبح الكل شهداء، والكلّ مستعدٌ للإستشهاد، والباقون مشاريع شهادة واعدة.

في الخيام، الكل استشهد، كما في كربلاء تُفتح بوابة السماء ولا تُغلَق، وفي غيرها لا حدّ للشهادة ولا للتشييع، وانتشال جثامين أربعين آخرين، برغم مرور شهور، وكل دفعة تليها دفعات ممن ما يزالون ينتظرون، إما لتعذر الوصول إلى مناطق اشتباكهم مع العدو في التخوم، وإما لأنهم مفقودو الأثر. لكن المشترك بينهم أنّهم قاتلوا حتى وصلوا.

هم في الإشتباك مع العدو موحّدون بقلب رجل واحد، وهم إلى الإستشهاد متسابقون حدّ التساوي المكاني واللافارق الزماني، وهم متشابهون حدّ التوحد في كل شيء؛ في مسقط رأسهم حيث ينبتون مع أشجار الزيتون كما في بيئتهم حيث يترعرعون؛ في بذلاتهم الزيتية أو المرقطة كبذلات جيشهم، كما في أكفانهم الحمراء؛ مُوحَّدون في طرق معيشتهم كما في طرق تشييعهم، في عباداتهم الخاشعة كما في وصاياهم المتواضعة. حتى في الأسماء هم يتكررون، وفي الكنية يتوزعون تبعاً للمهام ومُسميات الإخوان، فترافق واحدهم في البطاقة التي تزفه شهيداً سعيداً تحت اسمه ما بين هلالين، فالأشقر ذو العينين الزرقاوين هو “الروسي” وما أدراك؟ والمميّز بالكورنيت هو “صياد الميركافا” هل تعرفونه؟ والمقاتل جمعاً وحدهُ “أسد الخيام” بات مشهوراً، والكامن لنخبة العدو “كيان” رفيق درب “المختار الثقفي” الباحث عن ثارات الحسين وذاك “كربلا” نفسها، وذاك اسمه منه وفيه “شهيد”، أما خاطف أرواح الجنود عنوةً داخل منزل لوحده فهو “عزرائيل اسرائيل”.. وكلٌ منهم يختار كنيته مثلما يختار شهادته لاحقاً ويتفنن في طريقتها، و”الشهادة هي الموت الاختياري وهي فن رجال الله”، على حد تعبير الامام الراحل الخميني.

شهداءُ المقاومة جمالٌ؛ هم الجمال؛ جمالٌ بشكل انسان؛ جمالٌ يمشي على الأرض شكلاً وروحاً ومسلكاً؛ انظروا إلى صورهم؛ حدِّقوا في وجوههم؛ تمعّنوا في خَلْقهم؛ هل رأى أحدٌ شهيداً منهم ليس جميلاً كشهادته؟ كجمالها؟ هم يتألقون بشهادتهم إذ يستشهدون بجمالية متألقة، ومن بعدها تتأنق بهم ويتأنقون بها، وذووهم يكملون بجواب أجمل: “ما رأينا إلا جميلاً”.. والمعادلة إلهية منذ الأزل قوامها التداول، ليس على السلطة، بل على أحد النصرين ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [ آل عمران: 140]

هم متعددون بتعدد حيواتهم، جامعيون باختصاصاتٍ شتى، مهنيون بمهنٍ حرة، معلمو مدارس في الرياضة والرياضيات، وأساتذة مهنيون في الكهرباء والاتصالات، ومذيعون ومخرجون ومصورون، وهم جرحى سابقون في عمليات المقاومة، وجرحى حديثون في “البيجرز” فيهم أبناء شهداء، وفيهم الإبن الملتحق بأبيه ولو بعد حين، وفيهم الأب قبل إبنه، وفيهم الإثنان معاً في آن، ومنهم الأخوة الشهداء، الذين قد يصل عددهم إلى أربعة وحتى خمسة في بعض الحالات، فأي بيت هذا الذي يحمل هذا الثقل ولا يئنّ أو ينوء؟ كلهم أبناء الحياة، وكلهم يحبون الحياة، لكن على طريقتهم، “فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ” (علي بن أبي طالب- نهج البلاغة- الخطبة 51).

في حياتهم عاشوا من وطنهم مظلومين، وفي رحيلهم من بعضه مطعونين حتى وهم موتى ولو مفقودي الأثر، فلا أثر ولا تأثير في من ليس فيه للحياء من أثر ولا يسأل: لماذا عليهم ان يرحلوا هكذا ويبقى وظيفته الثرثرة فوق جثثهم المفقودة وهم من هم سادة الوغى اذ يحتدم النزال؟ لماذا عليهم أن يستشهدوا مرتين وهم تركوا له حطام الدنيا ولم يبقَ من بعضهم غير حذاءين؟

في الميدان كلّهم مشتبكون؛ كلّهم إسمهم “الشهيد المشتبك” وكلّهم لهم هواياتهم؛ لكل منهم هوايته هذا يهوى “الميركافا” فيتسلى بتصيّدها تسلّي الصيّاد في البحث عن الطريدة، وذا هوايته تفجير “البركان” بموقعٍ بعيدٍ عن العيان، وذاك هواه جمع ونقل “الالماس” ورميه إلى ما ورائيات الحدود، كجمع الصياد في البحر بصبر وأناة، وهذا عشقه الإلتحام من مسافة صفر، وذاك توصيه أمه كلما ودّعته أن ينتبه من المسيَّرات، وتسأله على الباب: كيف تنجو منها يا علي؟ يبتسم ويجيب “ألاعبها يا أمي، ألاعبها” ثم يرحل إلى الشهادة بغارتين بين زيتونتين ما بين العديسة وكفركلا تسأل أمه وتتساءل بإعجاب أقرب إلى الإفتخار: “غارتين بدو علي؟ غارتين؟ لهالدرجة كاين قوي؟ هلقد كاين راعبهم وخايفين منه”؟ يجيب رفاقه “في البداية كان جريحاً لكنه هرب من سيارة الإسعاف وعاد ليبقى هناك مع غيره من الشهداء.. صامدون كأشجار الزيتون”.

إقرأ على موقع 180  فتوحات ابن متى

في المكان هم في اللامكان “نكون حيث يجب أن نكون”، لكنهم في أي مكان وكل مكان؛ يكونون ولا يكونون؛ يَرون ولا يُرَون؛ يَسمعون ولا يُسمَعون؛ يقول الغزاة الصهاينة: “نقاتل أشباحاً لا نعرف من أين يطلعون” تجدهم هنا وهناك في المنازل يتوزعون، ولهذا الأعداء يحرقونها ويدمرونها، وهم في الأحراش مزروعون ولهذا جنود العدو يجرفونها، هم فوق الأرض تحت الأرض وفي حقول التين والزيتون، كلٌ في مكانه ثابتٌ كالجذع يقاتل ولا يتحرك.

هم موقنون أن الله معهم وأن الله ناصرهم وأنهم لا يقاتلون وحدهم، كما قال سيدهم: “نحن معنا الأرض والجبال والوديان والتراب والأنهار والبحار والمحيطات والسحاب والرياح والشمس والقمر والنجوم والسماوات السبع وما خلق مما نعلم ومما لا نعلم”.

توأم الصخر هم لا يُقتَلَع حتى يستشهد، محققاً نصرَه ولو كانوا أكثر من واحد، في المنازل وبينها يتنقلون ويتركون ورقة تطلب المسامحة لأنهم ناموا فيها يومين، أكلوا زعتراً وزيتاً برغيفَين، وسلقوا عدساً وبرغلاً مرتين، ويُطَمئنون أصحابها أنهم لم يُحرّكوا فيها ساكناً، تاركين وراءهم وطناً برائحة الشهداء الأحياء وثمة من يقول “قلْ للشهيد سلاماً وحدك الحيّ وجميعنا يا سيدي أمواتُ” .

في الزمان هم خارجه، لا وقت لديهم منه لأنهم يأسرونه وليسوا أسراه؛ هم لاهوته المجهول، حتى في علم اللاهوت المسيحي (Theology)‏ ثمة شهادة كما ثمة انتظار ولهذا هم يصنعون الزمان كما يصنعون التاريخ؛ يستشهد سيدهم فيتخذون القرار؛ يُحدّدون الجغرافيا كما يشاؤون لكنهم لا يُعرَفون، ولهذا تظل الشهادة لنا مفاجأة، لكنها لهم مكافأة، والشهداء مفاجآت لكنهم لمن يعرفهم حكايات، لكل شهيد سرديته، سردية حياته، وسردية شهادته، في النوع والكيف والتشييع، لكنهم زرافاتٍ ووحداناً يرحلون، يزرعون أجسادهم لتبقى مقاومتهم يسقونها بدمهم لتبقى فكرتهم، ولهذا “تسقط الأجساد لا الفكرة والمقاومة فكرة والفكرة لا تموت”، يقول الشاعر الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني.

من لم يُشارك في تشييع شهيد منهم، لن يعرف معنى الشهادة؛ لن يتذوق طعم الشهادة عن كثب، ولو شاهد تشييع الآلاف عن بُعد، ومن لم يحادث أهل شهيد عنه وعنهم لن يفهمهم ويفهم ثقافتهم ونخبويات الأُسَر التي أنجبتهم وضحّت بهم، ومن لم يعش مناخ البيئة التي رعتهم وخرّجتهم، أو يتنفس هواءها لن يفقه سرّها، وسرّ حنوّها عليهم، ولماذا هي “حاضنة” لهم، تقول والدة شهيد “أرضنا زرعناها شباب قبل ما نزرعها زيتون”، وأهل الجنوب لا يشبعون زراعة الزيتون فهم من رعايته عمراً كأطفالهم لا يكلون، وانتظار موسمه حولاً كاملاً لا يملون، يعطيهم زيته فيعطوه خيرة شبابهم، وكذا حالهم مع الشهادة من أجله وأرضه؛ هم يستشهدون حتى الثمالة ولا مندوحةَ لديهم أن تُشيّع ضيعة مثل عيثرون وحدها أكثر من مئة شهيد دفعة واحدة في يوم واحد، فكيف إذا ما هان لديها الغالي بعد شهادة الأغلى، وبات وباتوا أمانة تضع كل من بعدهم أمام الأمانة، والعكس هو الخيانة، خيانة عندما تكون الأجداث تحت الركام والدم يعفّر التراب، فكيف “وأخو العلا يسعى فيدرك ما ابتغى / وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ”.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  جمرةَ حبٍ للمؤتمنين على المصير.. والدروب