بدأت الأزمة الشهيرة بعد إعلان مصر فى يوليو/تموز ١٩٥٦ تأميم قناة السويس باعتبارها شركة مساهمة مصرية، وبالتالى إنهاء حصص الملكية الفرنسية والبريطانية التى بدأت مع افتتاح القناة رسميا فى عهد الخديوى اسماعيل، وهو القرار الجرىء الذى اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر بعد رفض الولايات المتحدة تمويل بناء السد، وبعد إدراك عبد الناصر أن بريطانيا تنوى تهميش دوره ودور مصر بعد أن أنشأت حلف بغداد وضمت المملكة الهاشمية العراقية إلى الحلف العسكرى الذى ضم أيضا تركيا وباكستان وإيران فى محاولة لاحتواء المد الشيوعى فى الشرق الأوسط!
أدرك عبد الناصر أن ثمة إعداد جديد لمسرح الشرق الأوسط لإبراز قيادة نورى السعيد رئيس وزراء العراق لقيادة العالم العربى والإطاحة بعبد الناصر!
كانت العلاقات المصرية الأمريكية فى تلك الفترة متميزة ــ قبل أزمة تمويل السد ــ وكانت هناك اتصالات مباشرة بين عبد الناصر والإدارة الأمريكية، مما حفز الولايات المتحدة للإعداد لحلف شرق أوسطى دفاعى ينافس حلف بغداد يضم مصر وينطلق من القاهرة لمواجهة المد الشيوعى أيضا!
كانت المنافسة على قيادة المعسكر الغربى واضحة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، فالأخيرة كانت ما زالت تتمتع بسمعتها الدولية التى أسستها على مدار العقود التى سبقت الحرب العالمية الثانية كإمبراطورية توسعية لا تغيب عنها الشمس تقود حلف مستعمراتها من جنوب آسيا وحتى أمريكا الشمالية مرورا بالشرق الأوسط وأفريقيا، بينما ومنذ بداية عهد الرئيس أيزنهاور، الذى خلف ترومان فى رئاسة الولايات المتحدة، فإن الرؤية فى البيت الأبيض كانت مختلفة، فبريطانيا بدأت تخسر مستعمراتها، كما أنها ومنذ نهاية الحرب الثانية بدأت تتعرض للكثير من الأزمات الاقتصادية، فكانت الفرصة سانحة للأمريكان لقيادة المعسكر الغربى بدلا من بريطانيا!
***
لكن كيف تحولت هذه القيادة نحو الولايات المتحدة؟
كلمة السر كانت العدوان الثلاثى على مصر! فرغم التوتر الذى انتاب العلاقات المصرية ــ الأمريكية قبل اندلاع العدوان وخصوصا مع الرفض المصرى لفكرة حلف المتوسط الدفاعى، وبعد أن ثبت خطأ وجهة نظر الأمريكان فى أن خوف ناصر من الشيوعية يتفوق على خوفه من الصهيونية، وكذلك بعد أزمة تمويل السد، إلا أنه وبمجرد قيام قوات العدوان الثلاثى بمهاجمة مصر، فإن موقف الولايات المتحدة كان حازما بشكل أدهش الكثير من المحللين!
دشّن عبد الناصر مرحلة جديدة فى العلاقات الدولية والإقليمية باعتباره ليس فقط قائدا للتحرر وقوميا عربيا، ولكن باعتباره قائدا ومثالا للتحرر لدول العالم الثالث وحركة عدم الانحياز وخصوصا وأن فشل العدوان الثلاثى لم يكن فقط فشلا عسكريا لبريطانيا وفرنسا، ولكنه كان أيضا انتصارا سياسيا لعبد الناصر
صحيح أن الولايات المتحدة استاءت من مصر بعد رفض عبد الناصر جهود الوساطة الدولية بقيادة أستراليا لحل الأزمة وتعويض ملاك أسهم القناة فى فرنسا وبريطانيا وإعادة حركة الملاحة إلى القناة! وصحيح أن الولايات المتحدة هى من قادت تحالفا دوليا ضم ٢٢ دولة من مستخدمى القناة فى محاولة لفرض عقوبات على مصر والضغط عليها للتراجع عن موقفها، بل وصحيح أيضا أن الولايات المتحدة عبر دبلوماسيتها فى لندن حضرت عدة مباحثات بخصوص احتمال وجود حل عسكرى لإجبار عبد الناصر على التراجع عن موقفه، إلا أن عاملاً أساسياً ساهم فى تغيير موقف أيزنهاور كليا من العدوان الثلاثى بين أغسطس/آب ١٩٥٦ وتشرين الأول/أكتوبر ــ تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، ألا هو المباحثات الإسرائيلية الفرنسية الدفاعية المشتركة والتى خططت للعدوان منذ أغسطس/آب دون استشارة الأمريكان، بل وحتى دون رضا بريطانيا، وهو ما كان يعنى بالنسبة للولايات المتحدة أن مثل هذا التقارب بين الدولتين قد يؤثر على سياسات حلف الناتو الدفاعية ويدفع الولايات المتحدة نفسها للتورط فى تدخل عسكرى فى الشرق الأوسط كانت لا ترغب فيه لأن الرهان فى واشنطن على انضمام العرب لحلف دفاعى شرق أوسطى ضد الاتحاد السوفيتى بقيادة أمريكية كان لا يزال قائما من ناحية، من ناحية ثانية فإن اندلاع الثورة المجرية وقيام الاتحاد السوفيتى بالتدخل العسكرى هناك وتهديده لفرنسا وبريطانيا بالتدخل العسكرى إلى جانب مصر أيضا حال عدم سحب قواتها من قناة السويس جعل الإدارة الأمريكية تدرك أنه لو نفذ السوفييت تهديدهم فإنها ستجد نفسها مضطرة للدخول فى صراع مسلح إلى جوار الفرنسيين والبريطانيين بحكم معاهدة الناتو!
ومن هنا كانت البداية بتهديد أيزنهاور بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل إن لم تسحب قواتها من سيناء، وهو التهديد الذى تحول من كونه لفظيا إلى مقترح رسمى قدمه الرئيس الأمريكى إلى الكونجرس، ولكن تم رفضه! لم يستسلم أيزنهاور، بل وفى حركة مفاجئة قام بالحديث إلى الشعب الأمريكى عبر الراديو طالبا تأييدهم، لأن أمريكا إما أن يكون لها صوت الآن، أو لا يكون أبدا كما قال!
ورغم فشل الرئيس الأمريكى فى فرض العقوبات على إسرائيل، فإنه لجأ رسميا إلى مجلس الأمن، وقدم اقتراحا رسميا يقتضى بضرورة تبنى مجلس الأمن لقرار يقتضى بمغادرة قوات الاحتلال الثلاثى فورا لمصر وإعادة حركة الملاحة إلى قناة السويس، ولكن محاولته فشلت للمرة الثانية بعد استخدام بريطانيا وفرنسا لحق النقض (الفيتو)! وقد تأكد أيزنهاور بعدم جدوى اللجوء إلى المجلس ثانيا وخاصة بعد أن قامت بريطانيا وفرنسا باستخدام حق النقض مجددا ضد مشروع مماثل قدمه الاتحاد السوفيتى!
هذه المرة طورت الإدارة الأمريكية من استراتيجيتها لإجبار إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب، عبر أداتين، الأولى هى اللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة لتجنب استخدام حق النقض، والثانية عبر استخدام أدوات الضغط الاقتصادى!
أما عن الأداة الأولى، فقد كثفت الإدارة الأمريكية من محادثاتها مع الدول الأعضاء فى الجمعية العامة لتأييد الاقتراح الأمريكى السابق وبالفعل استجابت الجمعية العامة للاقتراح الأمريكى وتم تشكيل قوات طوارئ دولية بجهود دبلوماسية للأمين العام للأمم المتحدة وكذلك وزير الخارجية الكندى مايك بيرسون الذى حصل لاحقا على جائزة نوبل للسلام بفعل هذه الجهود.
أما عن الأداة الثانية، فقد هدّد أيزنهاور بريطانيا مباشرة ببيع الحصة الأمريكية من الاحتياطى النقدى للإسترلينى، وهو الأمر الذى لو كان قد تم لتعرضت بريطانيا إلى المزيد من الأزمات الاقتصادية، وقد أدى استخدام الأداتين بالفعل لتحقيق أهداف البيت الأبيض فانسحبت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا تباعا وكسب أيزنهاور معركته فى النهاية!
***
بعد إنتهاء العدوان الثلاثي، انتهت رسميا زعامة بريطانيا للمعسكر الغربى وتم تأكيد القيادة الأمريكية للمعسكر حتى نهاية الحرب الباردة
لكن كيف أثرت هذه الأزمة على شكل العلاقات الدولية؟
يمكن رصد أربعة تغييرات مهمة فى شكل السياسة الدولية والإقليمية بعد انتهاء العدوان الثلاثى وهى على النحو التالى:
أولاً؛ تم التأكيد على مبدأ تجنب المواجهات العسكرية المباشرة بين قيادة المعسكر الغربى والشرقى تجنبا لقيام حرب عالمية ثانية، وهو المبدأ الذى تم احترامه حتى نهاية الحرب الباردة، وعوضا عن ذلك استخدم المعسكران الحروب بالوكالة لتحقيق أهدافهما فى الدفاع عن نفوذهما الدولى.
ثانياً؛ انتهت رسميا زعامة بريطانيا للمعسكر الغربى وتم تأكيد القيادة الأمريكية للمعسكر حتى نهاية الحرب الباردة، وتحولت بريطانيا تدريجيا إلى قوة إقليمية لا دولية وهى المكانة التى استمتعت بها لقرون فى العلاقات الدولية، فأصبحت واشنطن لا لندن، أمريكا الشمالية لا أوروبا، هى قبلة الدبلوماسية الغربية، بل والعالمية منذ تلك اللحظة.
ثالثاً؛ تم التأكيد على مبدأ استقلال الدول التى قبعت تحت الاحتلال لعقود قبل الحرب العالمية الثانية، حيث يرى المحللون أنه لو كانت فشلت جهود أيزنهاور لإجبار فرنسا وبريطانيا على الانسحاب من مصر لتراجعت فرنسا وبريطانيا عن استكمال الانسحاب من مستعمراتها فى آسيا وأفريقيا، أو فى أحسن الأحوال، لتباطأت عملية الاستقلال الوطنى هذه!
رابعاً؛ دشّن عبد الناصر مرحلة جديدة فى العلاقات الدولية والإقليمية باعتباره ليس فقط قائدا للتحرر وقوميا عربيا، ولكن باعتباره قائدا ومثالا للتحرر لدول العالم الثالث وحركة عدم الانحياز وخصوصا وأن فشل العدوان الثلاثى لم يكن فقط فشلا عسكريا لبريطانيا وفرنسا، ولكنه كان أيضا انتصارا سياسيا لعبد الناصر بعد أن أيدت الولايات المتحدة صراحة وتبعتها الأمم المتحدة لحق مصر فى ملكية الممر الملاحى الأهم فى العالم وهو الوضع الدولى والإقليمى المميز الذى تمتع به عبدالناصر حتى حرب ١٩٦٧.
***
ملحوظة من الكاتب: اعتمد هذا المقال فى بعض فقراته على ورقة بحثية قدمها مايكل بسيس بعنوان «تأطير أزمة قناة السويس ١٩٥٦ ضمن المشروع الاقتصادى الأمريكى» إلى المؤتمر السنوى التاسع لمنظمة دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا والذى عقد فى واشنطن فى تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٦.
(*) بالتزامن مع “الشروق”