عندما تنتج الديمقراطية.. أسوأ الدكتاتوريات

يهدف نقد الديمقراطية تبيان الخطأ من الصواب في ممارستها، وهو لا يستتبع بتاتاً طلباً للإستبداد أو الشمولية. لكنّ لتطبيق الديمقراطية شروطاً، كما أن إستخدام الديمقراطية يغطي في أحيان كثيرة إستبداداً مبطناً.

معلوم أن فكرة الديمقراطية نشأت نتيجة تطورات حصلت في أوروبا أدّت إلى ظهورها كنظام للحكم ينزع شرعية الحكم من الملك ليعطيها للشعب. وهي أتت بعد النهضة الفكرية التي رافقت عصر الأنوار والانقلاب الاجتماعي الذي نتج عن الثورة الصناعية وتغير وسائل الإنتاج وظهور البورجوازية بوصفها الطبقة الأكثر تأثيراً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

نادت البورجوازية بالديمقراطية باعتبارها الوسيلة الفضلى لانتزاع شرعية الحكم الوراثي وجعله بالانتخاب. وهكذا جرى الترويج لفكرة السيادة القومية حيث السيادة هي ملك للأمة وليس لأفراد الشعب الذين ينتخبون ممثلين يمارسون السيادة نيابة عنهم.

كانت الديمقراطية في ذلك الحين ديمقراطية عرجاء حيث كان حق الانتخاب محصوراً بفئة من الذكور من أصحاب العلم والثروة دون عامة الناس. وبالتالي انتزعت السيادة من الملك لتوضع بين أيدي فئة من الناس تدّعي معرفة وقدرة على تمثيل “الأمة” وإدارة شؤون الحكم.

بعد ذلك، ومع تطور مفهوم حقوق الإنسان، ووضع المساواة في صدارة هذه الحقوق، ومع الأفكار التي كانت تنادي بالسيادة الشعبية لا القومية، كان لا بدّ من التسليم بضرورة المزج بين مفهومي السيادة. فأصبح حق الانتخاب عاماً وشاملاً واختيارياً، وأدخلت وسائل للمراقبة الشعبية الدائمة مثل الاستفتاء والمبادرة الشعبية. ومما لا شك فيه أن الديمقراطية هي التي توفر البيئة اللازمة لحماية حقوق الإنسان.

من الذي يضمن، حتى في الدول الأكثر تطوراً، أن عامة الناس تستطيع تكوين خياراتها بعيداً عن تأثيرات مُوجّهي الرأي العام، من إعلام ولوبيات وخطابات ومراكز صنع القرار؟ أليس هذا الرأي العام هو هدف الحملات الانتخابية، وحملات التحريض من قبل صانعي السياسات العامة؟

ما هو تعريف الديمقراطية؟

إن أسوأ تعريف يُعطى للديمقراطية هو حكم الأكثرية. وكأن الأكثرية لا يمكن أن تستبد أو كأن حكم الأكثرية لا يمكن أن يستبطن ظلماً للأقلية. بالتأكيد، تبدأ الديمقراطية من إرادة الأكثرية. لكن هذا الشرط وإن كان ضرورياً، فهو ليس كافياً. وليس صحيحاً أن الأغلبية دائماً على حق كما ادّعى روسو Rousseau. لقد عرَّف الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن الديمقراطية بأنها “حكم الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب”. فالحكم الديمقراطي هو الحكم الذي يملك فيه الشعب السلطة، ويشارك في الحكم وفي اختيار الحكام ومحاسبتهم. وهو الذي تُحترم فيه قواعد العقد الاجتماعي، أي الدستور والقانون، ويُحترم مبدأ تداول السلطة والتعددية بالإضافة إلى حق المعارضة. وتُصان فيه الحقوق والحريات، وأهمها الحق بالمساواة، حرية الرأي، وحق وحرية الاختيار. هذا الحق الأخير هو صلب المشكلة. كيف ذلك؟

يبدأ الاختيار من اختيار شكل الحكم وايديولوجيته والمؤسسات الحاكمة فيه. ولكي يمارس هذا الحق بطريقة صحيحة، يجب أن يتمتع صاحب هذا الحق بحدّ أدنى من الوعي والثقافة. فمن الذي يضمن، حتى في الدول الأكثر تطوراً، أن عامة الناس تستطيع تكوين خياراتها بعيداً عن تأثيرات مُوجّهي الرأي العام، من إعلام ولوبيات وخطابات ومراكز صنع القرار؟ أليس هذا الرأي العام هو هدف الحملات الانتخابية، وحملات التحريض من قبل صانعي السياسات العامة؟ من يحصّن الجمهور ضدّ برامج تحوير الوعي الجماعي باتجاه خلق عدو معين يناسب أصحاب القرار ولا يناسب في الواقع المصلحة الجماعية العامة؟ من قال إن عقل مواطني الولايات المتحدة، وهي الدولة الديمقراطية الأولى في العالم، لا يصاغ تارة ضد السكان الأصليين من الهنود الحمر مع تصوير “الكاوبوي” الأميركي رجل الحضارة والإنسانية والتطور، وطوراً ضد الشيوعية لشيطنتها وتبرير كل حملات القمع التي ارتكبتها الأجهزة الأميركية “الديمقراطية” في حقبة المكارثية وغيرها؟ وهو يوجّه الآن ضد الإسلام بشكل ممنهج ودقيق، حيث يُصوّر المسلم إما جاهلاً عابثاً، وإما إرهابياً خطراً؟ أليست هوليوود إحدى أدوات تشكيل الوعي الغربي في اتجاه معين؟ فكيف بعد ذلك يمكن الادعاء أن للشعب حرية الاختيار؟

كذلك حرية الاختيار والتعبير تلك لها حدودها التي لا تختلف كثيراً عن الحدود التي ترسمها الأنظمة الشمولية. لكن القمع يرتدي هنا ثوباً مبهرجاً وجميلاً ولا يظهر بحقيقته البشعة. هل أنت حرّ في “بلاد الحرية” أن تعرب عن مساندتك لجهة معادية للأنظمة الغربية؟ أن تُنظّر، كما فعل هوبز في القرن السابع عشر، للحاكم المطلق، وتطالب به استناداً إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الحكم المطلق هو الحلّ لوضع حدّ لشرّ الناس تجاه بعضهم البعض، مع تحفظنا تجاه هذا الرأي؟ أين الحرية في القوانين التي تجرّم إنكار الهولوكست، كقانون غيسو Gayssot الذي صدر عام 1990، أو في ما قضت به المحكمة الدستورية الألمانية عام 1994 بأن أي محاولة لإنكار الهولوكست لا تتمتع بحماية حق حرية التعبير وتُعرّض صاحبها للسجن؟

يُقدَّم النموذج الغربي على أنه النمط الأوحد والأيديولوجية الكاسحة التي على جميع الشعوب الركون إلى مطلقاتها، دون الأخذ بالاعتبار الخصوصيات الحضارية. والحداثة الغربية حداثة فوقية تُعطي لنفسها صفة كونية وتصنف المجتمعات والأفراد وفقاً لمعاييرها تماماً كما يعتقد الإسلام أنه مطلق. فقيم الغرب شاملة لكل شيء و”حرامها حرام إلى يوم القيامة وحلالها حلال إلى يوم القيامة”، حتى أنها أعلنت وصول التاريخ إلى نهايته، وأعطت لنفسها صفة الاطلاق، وادّعت أنها تستوعب كل مناحي الحياة. فكيف يمكن للمجتمعات الغربية مع هذا النمط من التفكير الذي يُشكل خرقاً لمبدأ الديمقراطية وما يستتبعه من حرية اختيار ومن ضمنها حرية اختيار العقيدة والأيديولوجية أن تدّعي أن ممارستها للديمقراطية هي الممارسة الصحيحة التي يجب على العالم اتباعه؟

من شاهد الفيلم الوثائقي “The social dilemma” يدرك مدى خطورة وسائل التواصل الإجتماعي للتلاعب بطرق التفكير الفردية والجماعية، وبيع الداتا التي تملكها عن مستخدميها لأية سلطة تستطيع استخدامها لأية غاية تريدها. فيمكن بالتالي إدخال أية فكرة ضمن الوعي الجماعي وتوجيه الأفراد والجماعات لغايات سياسية أو غيرها

لكي تكون الديمقراطية حقة، يجب أن يكون بمقدور المواطنين التأثير الحقيقي والفعلي على القرار، والمشاركة فيه، عن طريق انتخابات دورية يعبّر من خلالها المواطنون عن توجهاتهم وآرائهم وخياراتهم. لكن من يضمن في ظل التأثيرات التي تمارَس على أنماط التفكير، وتوجيه الخيارات في اتجاهات مدروسة، أن تكون الخيارات صحيحة وسليمة لما فيه المصلحة الوطنية العامة، مع تحول الحملات الانتخابية إلى صناعة مالية وإعلامية بحتة؟

إقرأ على موقع 180  "السيد محسن" الذي نقل جغرافية الميدان

لعل هذا ما دفع ونستون تشرشل لوصف الديمقراطية بأنها “أسوأ نظام عرفته البشرية»، برغم أنها – أي البشرية – “لم تعرف نظاماً أفضل”، حسب قوله. وحسب مكيافيلي (1469- 1527)، “من واجب الحكام ألا يعطوا بالاً لميول الجماهير، إذ ليس ثمة شيء أكثر تفاهة من تقلبات الجماهير”. ويعترف مكيافيلي أن “النظام الجمهوري القائم على حرية الاختيار هو النظام الأرقى والأعلى مثالاً، لكن هذا الأمر يتطلب قدراً عالياً من الوعي غير المتوافر لدى الشعوب كافة”.

إن إحدى أخطر التأثيرات لقولبة الرأي العام وتوجيهه هي وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. من شاهد الفيلم الوثائقي “The social dilemma” يدرك مدى خطورة هذه الوسائل للتلاعب بطرق التفكير الفردية والجماعية، وبيع الداتا التي تملكها عن مستخدميها لأية سلطة تستطيع استخدامها لأية غاية تريدها. فيمكن بالتالي إدخال أية فكرة (صحيحة كانت أم خطأ) ضمن الوعي الجماعي وتوجيه الأفراد والجماعات لغايات سياسية أو غيرها. تلعب هذه الوسائل دوراً خطيراً عبر التحريض والتضليل وصولاً إلى الفتنة حسب الأجندة السياسية لمن يملك ويدير هذه الوسائل، فتستطيع تأجيج “ثورات”، وإيصال مرشحين إلى أعلى المناصب. وعندما يعرب الأفراد عن آرائهم أو يعبّرون عن مواقف، يظنّون أنها نابعة من تفكيرهم الخاص، بينما هي، في الواقع، تأتيهم من تأثيرات خارجية.

لا يمكن توقع خيارات صحيحة وواعية من مواطنين لا يتمتعون بالحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. ولا بدّ من ترافق الحقوق السياسية مع العدالة الاجتماعية لتكون ممارسة الديمقراطية متاحة مع قدر كاف من الحرية، لا تسيطر فيها الأقلية الغنية على القرار السياسي وعلى مقدرات الدول ومصائر شعوبها، وتسيرها وفقاً لمصالحها وأهدافها بواسطة لوبيات تتحكّم بوسائل الإعلام، عن طريق “الماركتينغ السياسي”.

بهذا المعنى، أضحت الديمقراطية “دكتاتورية ناعمة” تحكم الشعب باسم الشعب، لكنها في الواقع لا تضع السلطة في يد الشعب. وليس خافياً أن بعض أسوأ الدكتاتوريات في العالم خرجت من صناديق الاقتراع.

والديمقراطية ليست وصفة جاهزة على كل الشعوب تقبلها وممارستها دفعة واحدة بغض النظر عن الاستعداد المجتمعي والفردي لذلك. للديمقراطية مسار يختلف باختلاف التاريخ والثقافة والاستعدادات النفسية والسياسية لممارستها بشكل صحيح ومناسب لإعطاء النتائج المرجوة.

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  انتخابات الجنوب اللبناني.. دروس "الثنائي" وعِبره