الإجابة كانت واحدة على الأسئلة المتعددة، فالذي يجمع باكستان خمسة عناصر هي: العقيدة الإسلامية، قوة الجيش، استمرار قضية كشمير، العداء للهند، والإفتخارالوطني بالترسانة النووية، وأي تفريط بهذه العناصر الخمسة يُعرّض الوحدة الجغرافية الباكستانية لمخاطر لا تُحمد عقباها.
لا يقال أي جديد، حين يوضع الجيش الباكستاني في المرتبة الثانية من قائمة العناصر التي حافظت على ديمومة باكستان، فنشوء هذه الدولة في الخامس عشر من آب/اغسطس 1947، وفق قواعد عدائية مستحكمة مع الهند، تخللتها مذابح مليونية وأفعال تهجير متبادلة ومليونية أيضا، أتاحت دورا قياديا للجيش ونادرا في تاريخ نشوء الدول الحديثة، كما أن حرب ما بعد الإستقلال والمعروفة بالحرب الأولى مع الهند، أعقبها حرب ثانية في عام 1965، وحرب ثالثة في عام 1971، أدت إلى تشظي باكستان وانفصال قسمها الشرقي عن الغربي وظهور دولة بنغلادش بدعم لا ريب فيه من الهند وروسيا.
هنا بالتحديد يمكن الحديث عن عقيدة الجيش الباكستاني، وهذا يفسح المجال للإطلاع على أسباب اصطدام هذا الجيش مع شخصيتين سياسيتين باكستانيتين حاولتا صياغة نزعة استقلالية عنه، والشخصيتان هما ذو الفقار علي بوتو (1928 ـ 1979) وعمران خان (2018 ـ 2022)، مع ضرورة ملاحظة الفجوة الفكرية بينهما، فالأول يهتدي بمنظومة رؤيوية متكاملة ومتراصة عنوانها “الإشتراكية الإسلامية” تضعه في مصاف المفكرين، والثاني يعتمد على الخطاب العام، وبالرجوع إلى عقيدة الجيش الباكستاني يمكن قول الآتي:
ـ العدو الأول لباكستان هو الهند.
ـ العدو الثاني هو روسيا.
ـ التهديد الإستراتيجي الأول من الهند.
ـ التهديد الإستراتيجي الثاني من أفغانستان.
كيف ولماذا؟
هذا السؤال يفرض العودة إلى سلسلة الحروب التي خاضتها باكستان والهند، وموقف الإتحاد السوفياتي السابق منها، وفي جعبة الزمن ما يلي:
نشبت الحرب الباكستانية ـ الهندية الثانية في عام 1965، آنذاك وقفت الصين مع باكستان وذهب الإتحاد السوفياتي إلى دعم الهند، وفيما هددت بكين نيودلهي إذا هاجمت باكستان الشرقية (بنغلادش لاحقا)، فإن موسكو استخدمت حق النقض في مجلس الأمن الدولي للحؤول دون إدانة نيودلهي، وراحت تغدق عليها مختلف أنواع السلاح والعتاد.
وفي الحرب الثالثة، أي في عام 1971، وهي الحرب التي أنتجت انفصال بنغلادش عن باكستان، كان الإتحاد السوفياتي “رفيق سلاح” للهند وشريكا محاربا معها، والعودة إلى كتابات ومشاهد تلك الفترة توضح التالي:
يقول محمود شاكر في كتابه “باكستان” الصادر في عام 1972، أي بعد أشهر قليلة من انفصال بنغلادش إثر الحرب الباكستانية ـ الهندية الثالثة “تأسس حزب رابطة عوامي في عام 1957 في باكستان الشرقية، ثم انقسم إلى قسمين، واحد يلقى التأييد من الصين ويتزعمه عبد الحميد باشاني، وقسم تؤيده روسيا ومدعوم من الهند ويتزعمه مجيب الرحمن”، والأخير هو الذي قاد حرب الإنفصال عن دولة باكستان الأم.
وقبل اندلاع حرب انفصال بنغلادش في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 1971، وصل وزير الخارجية السوفياتي إندريه غروميكو إلى نيودلهي في التاسع من آب/اغسطس، ووقع معاهدة تعاون معها لعشرين سنة، ودلالات هذه المعاهدة أنها جاءت عقب وضوح الإتجاهات الإنفصالية البنغالية والمطالب العلنية لمجيب الرحمن بضروة استقلال إقليم البنغال، وما رافق ذلك من اضطرابات وأعمال عنف غير مسبوقة في الإقليم كانت بدأت منذ آذار/مارس 1971، فضلا عن الحشود العسكرية الهندية بإتجاه باكستان الشرقية والبنغال.
وحين اندلعت الحرب وزحفت القوات الهندية نحو داكا عاصمة بنغلادش، كان ثمة مواقف عربية واضحة تدين الهند وروسيا، ومن ضمنها موقف العقيد معمر القذافي الذي ينقل عنه محمد عزت نصرالله في كتابه “الحرب الباكستانية ـ الهندية الثالثة” الصادر عام 1972، قوله “إن الهند الصديقة ارتكبت سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بالتواطىء المكشوف مع روسيا”، كما أن رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو كان جليا في إدانة الموقف الروسي عبر قوله “زرعت الهند البذور المرة، وستفقد الهند أجزاء منها، ومن الحماقة التفكير أن علاقة قوية تقوم مع دولة كبرى مثل روسيا، لن تطالب بنصيبها الضخم من اللحم على مائدة هذه العلاقة”.
في مدينة روالبندي التي تبعد مسافة نصف ساعة عن إسلام آباد، وحيث يقع المجمع العسكري الباكستاني الحاكم، يقول كبار الجنرالات للسياسيين الباكستانيين: روسيا ليست من شأنكم، ولا الهند أيضا. تلك هي قاعدة الحُكم في باكستان، لم يحفظها عمران خان
ذاك الإنزياح الروسي في حربين ضروسين إلى جانب الهند ضد باكستان، سيضاف إليهما حرب أخرى ابتداء من عام 1979، حين غزا الجيش الأحمر أفغانستان، فإسلام آباد ما كانت لترى ذلك الغزو، وبصرف النظر عن الصراع السوفياتي ـ الأميركي المحتدم آنذاك، إلا من منظور أن الجيش الروسي الحليف للهند والذي آزرها في هزيمة باكستان عام 1971، قد غدا جارها في أفغانستان، وبما ان الهند حليفة روسيا، فهذا يعني ان الهند باتت هي الأخرى في افغانستان، ولأن الأخيرة تطالب، تقليديا وتاريخيا، بمناطق الباشتون الباكستانية ومن ضمنها مدينة بيشاور التي كانت مقرا صيفيا للمملكة الأفغانية في القرن التاسع عشر، فلا مناص عندئذ من أن تكون باكستان أول من قرع طبول الحرب ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان، انطلاقا مما تعتبره خطرين، الروسي أولا والهندي ثانيا، وهكذا دخل الجيش الباكستاني، في حرب مباشرة أو غير مباشرة مع الجيش الروسي للمرة الثالثة بعد حربي 1965 و1971.
أين اصطدم ذو الفقار علي بوتو مع الجيش؟
بعد هزيمة الجيش الباكستاني في حرب العام 1971، سعى علي بوتو (الصورة أعلاه) لسلوك طريق التسويات مع الهند وروسيا، وما كان للجيش أن يستسيغ هذا الأمر، وهو الخارج حديثا من هزيمة مرة مع الهند وروسيا، ففي السابع عشر من آذار/مارس 1972، وصل علي بوتو إلى العاصمة الروسية موسكو في زيارة استغرقت ثلاثة أيام، وقالت وكالة “رويترز” في العشرين من الشهر السابق الذكر أن روسيا وباكستان “اتفقتا على إجراء مشاورات سياسية منتظمة، كما أكدت باكستان رغبتها في المساعدة في إيجاد ظروف سلمية في شبه القارة الهندية”، وفي الثالث من تموز/ يوليو 1972 أقدم على توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع الهند في منطقة كشمير، فاعتبرها خصومه مائلة نحو الجار اللدود، وكانت صحيفة “الغارديان” البريطانية قد استبقت الإتفاقية الهندية الباكستانية بتقرير نشرته في الثالث عشر من آذار/مارس 1972، معلقة على اتجاهات التسوية التي يعتمدها علي بوتو فقالت “الرئيس الباكستاني تحدث بلهجة حادة عن الهند في الماضي إلا أن هذا التحدي أخذ يذوب قليلا لتُستبدل به الحاجة إلى تغير مجمل موقف باكستان السياسي والعسكري حتى يستوعبه الشعب ويقره كما يقول الرئيس ذو الفقار علي بوتو”.
هذه الإتجاهات البراغماتية التي انتهجها ذو الفقار علي بوتو، والتي كانت مقدمتها زيارته لموسكو وأبعادها ترمي إلى اجتراح تسوية تاريخية مع الهند، لقيت رفضا من الجيش، كونها تجاوزت الخطوط الحمراء، فالعلاقات مع موسكو ونيودلهي مفاتيحها الحصرية مع قيادة الجيش، ولكن ظروف وظلال هزيمة حرب العام 1971، حالت دون تقدم الجيش إلى الواجهة ومصادرة الحياة السياسية، ومع تراكم انفراد علي بوتو بالقرار الوطني وخوضه في إصلاحات اقتصادية طالت امتيازات النخبة العسكرية، كان لا بد من وقوع الصدام، فقفز الجنرال ضياء الحق إلى السلطة في الخامس من تموز/يوليو عام 1977، واعتقل علي بوتو وأعدمه في الرابع من نيسان/إبريل 1979، مقفلا أذنيه وأبوابه أمام كل المناشدات الدولية التي طالبته بإيقاف حُكم الإعدام.
شيء من هذا القبيل جرى مع رئيس الوزراء نواز شريف. ففي آذار/ مارس من العام 1999، زار نواز شريف موسكو، وحين اعترض على سياسة الجيش الذاهبة إلى توتير الموقف مع الهند وتصعيدها إلى حدود إجراء تجارب نووية، تقدم الجنرال برويز مشرف إلى السلطة واعتقل نواز شريف، وكاد يصيبه ما أصاب ذو الفقار علي بوتو.
ومثيل هذا الأمر واجهته بينظير بوتو إبنة ذو الفقار، فبعد فوزها في انتخابات العام 1988، تم إقصاؤها عن رئاسة الوزراء بعد سنتين، بفعل محاولتها العودة إلى العمل بأحكام دستور العام 1973 الذي أشرف عليه والدها ويحد من تدخل الجيش في السلطة، ولما عادت مرة ثانية إلى رئاسة الحكومة عام 1993، تمت إطاحتها بعد ثلاث سنوات بتهمة الفساد، ولكن دوافع إزاحتها عن السلطة جاءت على خلفية مواقفها الداعية إلى ضبط التفجيرات النووية وتبريد قضية كشمير وكبح نشاط المهاجرين الأفغان في باكستان، فأفضى ذلك إلى اصطدامها بالجيش، فاختارت العيش في المنفى لسنوات عدة، وحين عادت عام 2007 إلى بلادها للمشاركة في العملية الإنتخابية، كان الموت غيلة بإنتظارها عبر عملية انتحارية في مدينة روالبندي القربية من العاصمة إسلام آباد.
ماذا عن عمران خان؟
يوم الخميس الواقع في الرابع والعشرين من شباط/فبراير الماضي، وبعد ساعات من إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “عملياته العسكرية” في اوكرانيا، كان عمران خان يجتمع ببوتين، متجاهلا نصائح وردته من الجيش ووزارة الخارجية بتأجيل زيارته إلى موسكو إلى أجل غير محدد، وهذه الزيارة كان سبقها اتساع الفجوة بين عمران خان وأحزاب المعارضة الباكستانية، بعدما قلص الجيش قبضته عنها فراحت تنتقد بحدية مرتفعة أداء الحكومة وتتهمها بالفساد والإخفاق بإخراج البلاد من مأزقها الإقتصادي.
هذه الإتهامات، غالبا ما تكون القيادة العسكرية ورءاها وتمهد عادة للإطاحة بالحكومة مثلما يدل تاريخ إسقاط الحكومات في باكستان، ذلك أن المقولة السائدة في “الأرض المباركة” أنه كلما اجتمع المعارضون تحت عنوان مكافحة الفساد، يعني ان خروج الجيش من ثكناته قد اقترب وحان، فيما “بيت القصيد” في إقصاء الحكومات وإطاحتها يتمحور حول دلالتين، الأولى مرتبطة بالصدام مع الجيش حول ولايته على أهل السياسة أم ولاية السياسيين على أوسمة الجنرالات، والثانية متمثلة بحق الأمرة بصناعة السياسة الخارجية.
واقع الحال أن عمران خان استنفد الدلالتين، وحيال ذلك جاء في مقال منشور في صحيفة “واشنطن بوست” بتاريخ الرابع من الشهر الجاري “أن عمران خان كان يسعى مثل دونالد ترامب إلى تغيير النظام السياسي معتمدا على المشاعر الدينية المناوئة للغرب”، وقالت مجلة “تايم” الأميركية في السابع من هذا الشهر “إن سخرية عمران خان من واشنطن أطاحت علاقته بالجيش الباكستاني الذي ما فتىء يجهد للحفاظ على علاقات متينة مع الولايات المتحدة”، وبحسب مقال نشرته “نيويورك تايمز” في التاسع من الشهر الحالي “أن سياسة عمران خان الخارجية شكلت نقطة خلاف أساسية مع الجيش”.
ما يمكن قوله ختاما:
إن الجيش الباكستاني أعدم ذو الفقار علي بوتو بعدما حاول الإقتراب من روسيا، والجيش نفسه انقلب على نواز شريف بعد أشهر من زيارته لموسكو، والجيش ذاته أسقط عمران خان بعد شهر وقليل على عودته من روسيا.
في مدينة روالبندي التي تبعد مسافة نصف ساعة عن إسلام آباد، وحيث يقع المجمع العسكري الباكستاني الحاكم، يقول كبار الجنرالات للسياسيين الباكستانيين: روسيا ليست من شأنكم، ولا الهند أيضا.
تلك هي قاعدة الحُكم في باكستان، لم يحفظها عمران خان.