لم تقتصر هذه العاصفة على السوريين الذين دفعوا أثماناً باهظة جراء اختطاف قرار الحركة، والتدخل العسكري في الحرب على سوريا وفيها، بل تجاوزتها إلى العديد من الشخصيات الإخوانية السورية المعارضة التي اعتبرت هذا القرار غدراً بمشروعها المستقبلي السلطوي في سوريا، فأين الجميع مما يجري؟
لا شكَّ في أنَّ الحركة ارتكبت خطأ كبيراً في مسارها العام، بعد أن اتخذت قرارها بالتدخل في الشأن الداخلي السوري مع إندلاع الأزمة السورية في العام 2011، والانحياز إلى المسار العام للتنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين، بنقل بعض مقاتليها وخبراتها إلى المقاتلين الإسلاميين السوريين في مواجهة الجيش السوري الذي قدمت قيادته سابقاً كل وسائل الدعم اللوجستي والتسليحي لها، حتى في أسوأ أوقات تدخّلها العسكري. وقد استجابت دمشق لطلب الجنرال قاسم سليماني عام 2012، وأمدَّت كتائب القسام بصواريخ الكورنيت الروسية من مستودعات الجيش السوري.
ولكن من الخطأ الكبير أيضاً التعاطي مع الحركة باعتبارها جسماً متجانساً واحداً، فهي كغيرها من الأحزاب والحركات والتيارات والدول، تضمّ تيارات متعددة، ففيها التيار السلفي المتشدد، وفيها الإخوانيون المتباينون بين أولوية السلطة وأولوية المقاومة، فالسلطويون كانوا يتعاطون مع المقاومة كوسيلة للاستيلاء على السلطة البديلة من ياسر عرفات من قبل، ومحمود عباس من بعد، فيما هناك من يتعاطى مع المقاومة كمبدأ حياة وقيمة أخلاقية عليا لتحقيق الذات، بالعمل على إسقاط الطاغوت الحقيقي، المتمثل بالمشروع الصهيوني الذي يعدّ الواجهة الوظيفية لقوى رأس المال العالمي المتوحش.
من هذا المنطلق، إن قرار حركة حماس الكارثي كان من مسؤولية قادة المكتب السياسي، الذي يسيطر عليه التيار السلطوي بقيادة خالد مشعل، على الرغم من المعارضة العلنية التي أبداها عضو المكتب السياسي محمود الزهار، الذي عدَّ التدخل غدراً بدمشق. وامتد رفض التدخل إلى قادة الجناح العسكري، وعلى رأسهم محمد ضيف، قائد أركان حماس، الذي كانت بوصلته واضحة، ورفض التدخّل.
وقد بدأت ملامح حسم خيار المقاومة على خيار السلطة، مع مجيء يحيى السنوار، القائد في كتائب القسام، بعد الانتخابات التي جرت ضمن الجناح العسكري للحركة، وبقاء إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي في وجه خالد مشعل، الذي حاول العودة إلى رئاسة المكتب.
يأتي خيار العودة المنتظرة لحركة حماس إلى دمشق في أصعب ظرف تاريخي في سوريا، فهي تعاني داخلياً من انتشار الفقر الشديد الذي تجاوزت نسبته 90% من مجمل سكانها ولاجئيها في المخيمات، وانحسار آمال السوريين بتحقيق مستلزمات الحياة الأساسية، بديلاً من أي أحلام سياسية ووطنية، وهم يشاهدون كيف يشارك اقتصاد الظل بحصارهم عملياً، مع العقوبات الأميركية وقانون قيصر.
قد تكون الأسابيع القادمة هي الأخطر في تاريخ المنطقة، مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعض دولها، وهدفه الأساس إعادة تشكيل المنطقة عبر البوابة الإسرائيلية، وبناء نظام إقليمي مرتبط بالولايات المتحدة لمواجهة المشروعين الأوراسي والصيني، إضافة إلى إيران
يتسق ذلك مع انحسار آمال دمشق بانفتاح عربي وخليجي يمكن أن يساهم في اجتياز الضغوط الاقتصادية الهائلة، بعد الإشارات الإماراتية والسعودية التي لم تُترجم وعودها، بل عادت إلى المربع المعتاد، بعد عودة الانفتاح الخليجي على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، رغم الصراعات الهائلة بينه وبين زعماء هذه الدول، والسير السريع نحو تعويم “إسرائيل” ككيان طبيعي في المنطقة وتسيييدها عليها، ما قلَّص الرهانات على دول الخليج ومصر.
وما زاد صعوبة الموقف السوري هو الحرب الروسية-الأميركية في أوكرانيا، وما تركته من آثار اقتصادية سلبية في العالم، وخصوصاً على صعيد الطاقة والغذاء، ما أدى إلى زيادة تكاليف تأمين النفط والقمح وغيرها على دمشق.
قد تكون الأسابيع القادمة هي الأخطر في تاريخ المنطقة، مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعض دولها، وهدفه الأساس إعادة تشكيل المنطقة عبر البوابة الإسرائيلية، وبناء نظام إقليمي مرتبط بالولايات المتحدة لمواجهة المشروعين الأوراسي والصيني، إضافة إلى إيران.
هذا النظام الإقليمي هو عبارة عن حلف قديم متجدد، يشمل كلاً من السعودية والإمارات ومصر وتركيا والأردن والبحرين، إضافة إلى “إسرائيل”، التي ستُترك قيادة هذا الحلف لها. وقد استبقت “إسرائيل” ذلك بقرار نشر منظومات دفاعية خاصة بها في دول الحلف الجديد، بإدارة أميركية، وأغلب هذه الدول أدت، وما زالت تؤدي، دوراً مدمراً في سوريا، ما عدا مصر التي لا تملك هامشاً للحركة والمناورة. وفي حال إعلانها الحلف، ستكون سوريا أولى ضحاياه.
تأتي خلفيات التصعيد الأخير للولايات المتحدة في المنطقة انطلاقاً من إدراكها حجم مخاطر نجاح التحالف الروسي الصيني الإيراني في زعزعة مكانتها الدولية كقطب وحيد للعالم، من خلال الصراع على أوروبا، ودور سلاح النفط والغاز في حسم الانتقال نحو النظام الدولي الجديد. في هذا السياق، تأتي أهمية الصراع على غاز شرق المتوسط الذي يمكنه أن يملأ جزءاً من الفراغ الذي يُخلِّفه إغلاق أنابيب الغاز الروسية. هذا الصراع الكبير يرفع مستوى التهديدات لبقاء الدولة السورية، إضافة إلى المحاولات المستمرة للقضاء على قوى المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، بخطة شاملة تقودها الولايات المتحدة وتديرها للسيطرة على عصب الحياة المدنية وممراته.
ومن هنا، تأتي أهمية سوريا كممر وحيد للغاز الإسرائيلي وغاز شرق المتوسط بكامله، والذي لن يتم حل مشكلة استخراجه ونقله إلا بالقضاء على سوريا واستقطابها ضمن النظام الإقليمي الجديد المُزمع إنشاؤه. من هنا تأتي أهمية عودة حركة حماس إلى دمشق، التي لا تستطيع أن تنظر إلى فلسطين إلا باعتبارها جزءاً من جغرافيتها السياسية المسلوبة، مهما كانت طبيعة النظام السياسي فيها، وفي ذلك تعزيز لمكانة دمشق في الصراع الإقليمي والدولي الكبير، واستعادة لجزء من دورها الإقليمي المفقود، وهي بحاجة ماسة لكلّ مصادر القوة، كما أنها بأمس الحاجة لتغيير مسارات الداخل الذي ينسلُّ من بين أصابعها.
وفي الوقت نفسه، إن حماس، كمقاومة وليس كسلطة، بأمس الحاجة للعودة إلى دمشق، ففي ذلك حسم لخياراتها الداخلية، وتعزيز لدورها الكبير في محور يستعد للمواجهة الكبرى القادمة، وهي بهذه العودة تؤمن ظهرها، بعد أن دفعت ثمناً غالياً، من خلال رهان بعض قادتها على المتغيرات الدولية المتأهبة لقدوم الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في الدول التي ينتشر فيها تنظيم الإخوان. كما أن هذه العودة تجعلها تنسجم مع نفسها وأهداف انطلاقتها الأولى التي رسمها الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش، ومئات الشهداء الذين سقطوا على طريق التحرير.
ستعود حماس إلى دمشق، مهما تأجَّل تاريخ العودة، ففي ذلك إشارة مهمة إلى التحولات القادمة في المنطقة لمصلحة إنقاذ شعوبها، وليس أمام المعترضين على ذلك إلا النظر إلى هذه العودة من باب المصلحة الاستراتيجية الكبرى للجميع، بصرف النظر عن مصالح البعض وعواطف الآخرين وأمزجتهم.
(*) بالتزامن مع “الميادين“