“وصول منصة الغاز العائمة التابعة لشركة إنرجيان اليونانية -البريطانية إلى المياه الإقليمية الإسرائيلية (على بُعد قرابة 80 كيلومتراً من الشاطىء الإسرائيلي)، استعداداً للبدء باستخراج الغاز من حقل كاريش، فاقم التوترات بين إسرائيل ولبنان، على خلفية الخلاف بينهما بشأن مسألة ترسيم الحدود البحرية، وأدى إلى ردود كلامية عنيفة من جانب أطراف مختلفة من كل الأطياف السياسية في لبنان. وقيل إن جزءاً من حقل كاريش يقع داخل الحدود البحرية اللبنانية واستخراج الغاز منه، والمخطط له في الربع الأخير من سنة 2022، يمس بالمصالح اللبنانية. الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قال في خطاب تصعيدي في 9 حزيران/يونيو إن استخراج الغاز من كاريش هو خطوة عدائية حيال لبنان ومحاولة لنهب موارده الطبيعية، وهدد بأن لدى الحزب قدرات عسكرية ولوجستية واستخباراتية لمنع إسرائيل من القيام بذلك. واعتبر نصرالله أن هذا الموضوع لا يقل أهمية عن تحرير “الحزام الأمني” في سنة 2000، وأنه شخصياً لا يخاف من مواجهة مع إسرائيل التي تعرف، بحسب كلامه، أن الحزب قادر على تكبيدها ضرراً كبيراً جداً.
ضمن هذا الإطار، يمكن رؤية المسيّرات الأربع غير المزودة بالسلاح التي أطلقها الحزب في اتجاه كاريش (الأولى في 29 حزيران/يونيو، والثلاث في 2 تموز/يوليو) والتي اعترضتها إسرائيل. هذه العملية هي تحرّك عسكري وعلى المستوى الدعائي حيال إسرائيل وأطراف لبنانية مختلفة. أما الهدف حيال إسرائيل فهو ردعي في الأساس وإظهار إصرار على تنفيذ تهديدات نصرالله، ومستقبلاً القيام بخطوة عسكرية من أجل إنشاء معادلة ردع جديدة في مواجهة إسرائيل على المستويين الجوي والبحري – حتى ولو كان الثمن تصعيداً والمجازفة بمواجهة.
يعارض حزب الله، من حيث المبدأ، إجراء اتصالات مباشرة مع إسرائيل يمكن أن يُفهم منها أنها اعتراف بها، أو يمكن أن تفتح الباب أمام علاقات اقتصادية وسياسية معها، لكنه لا يستطيع منع مفاوضات تدور منذ أكثر من عقد بين الدولتين.
الحاجة إلى استئناف الاتصالات الدبلوماسية بوساطة أميركية، اليوم، في ضوء الوضع الاقتصادي الصعب في لبنان، تضع الحزب في وضع إشكالي: من جهة، من المهم لحزب الله أن يؤثر ويمنع أي اتفاق محتمل يتضمن تسوية إقليمية-اقتصادية، أو يترافق مع تطبيع مع إسرائيل، لكنه من جهة أُخرى يمكن أن يبدو أنه يعمل ضد مصالح لبنان وموقف قيادته.
يتخوف الحزب بصورة خاصة من التغيّر المهم الذي طرأ على موقف لبنان الرسمي من مسألة الخلاف على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والذي يهدف إلى العودة إلى المسار الدبلوماسي. بعد وصول منصة الغاز إلى كاريش، دعا اللبنانيون الوسيط الأميركي إلى لقاء معهم (13-14 حزيران/يونيو)، وقدموا له اقتراحاً للحل يعكس مرونة في المطالب اللبنانية التي قُدمت في العامين الأخيرين. يتألف المقترح اللبناني من 3 مكونات أساسية:
- لبنان يتبنى مجدداً موقفه المعروف من الخط 23؛
- يطالب لبنان بالحصول على كل الأرباح التي تُستخرج من حقل قانا الذي يقع الجزء الأكبر منه في المياه الإقليمية اللبنانية، لكنه يتخطى الخط 23 في اتجاه المياه الإسرائيلية؛
- حتى يتم الاتفاق على الموضوع، لا تقوم إسرائيل باستخراج الغاز من حقل كاريش. الوسيط هوكشتاين نقل هذا الموقف إلى الجانب الإسرائيلي، لكن حتى الآن لم يُقدَّم رداً إسرائيلياً رسمياً.
نظراً إلى أن مسيّرات حزب الله غير المزودة بسلاح لم تصل إلى حد إلحاق الضرر بالجانب الإسرائيلي، يمكن في هذه المرحلة الامتناع من رد عسكري هجومي، ومن الأفضل استنفاد المفاوضات مع لبنان، الأمر الذي يخدم إسرائيل على المستويين الاقتصادي والإقليمي، وأيضاً إزاء الولايات المتحدة. في الوقت عينه، يجب إعداد الأرضية لاحتمال الحاجة إلى عملية عسكرية ضد حزب الله إذا أخطأ في فهم موقف إسرائيل
في هذه المرحلة، ليس واضحاً ما إذا كان حزب الله ينوي تنفيذ تهديداته بمهاجمة المنصة، في ضوء الرد الإسرائيلي والدولي المتوقع على مثل هذه الخطوة. وبالإضافة إلى إمكانية الرد العسكري الإسرائيلي والتخوف من تصعيد سيلحق ضرراً شديداً بمصالح لبنان الذي يعاني جرّاء أزمة تُعتبر الأخطر في تاريخه، فإن مهاجمة منشأة تملكها شركة إنرجيان ستُلحق ضرراً بمكانة الحزب على الصعيد الدولي. تجدر الإشارة إلى أنه بعد تهديد نصرالله في 9 حزيران/يونيو، استدعت وزارة الخارجية اليونانية ممثل لبنان في أثينا واحتجت على ذلك.
قبل عامين، وبحسب الموقف اللبناني الرسمي، لم يكن حقل كاريش يقع ضمن الحدود الاقتصادية للبنان. وفي ما يلي بعض النقاط الأساسية في المفاوضات بين لبنان وإسرائيل في هذا الموضوع:
-في الجولة الأولى للمفاوضات بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود (2010-2012) التي جرت من خلال الوسيط الأميركي فريدريك هوف، قدم اللبنانيون موقفهم الرسمي من الحدود البحرية مع إسرائيل على أنه الخط 23. هذا الموقف أنشأ فجوة مساحتها 860 كيلومتراً بين هذا الخط وبين خط الترسيم، بحسب الموقف الإسرائيلي، والذي كان موضع خلاف بين الدولتين. اعتُبر الخط 23 الموقف الرسمي للبنان وجرى إيداعه لدى الأمم المتحدة (2010-2011). لكن جهود هوف باءت بالفشل نتيجة عدم استجابة لبنان للتسوية التي اقترحها وقبلتها إسرائيل، والتي تقسم المنطقة المتنازَع عليها بين لبنان (55%) وإسرائيل (45%).
-في نهاية سنة 2020، جرت جولة جديدة من المفاوضات في الناقورة برعاية الأمم المتحدة. لبنان تشدد في موقفه وعرض خطاً جديداً يقع أكثر إلى الجنوب، هو الخط 29، وأضاف إلى منطقة النزاع مساحة إضافية تُقدَّر بـ 1430 كيلومتراً مربعاً وتضم جزءاً صغيراً من حقل كاريش.
-عملية إقرار الخط 29 الذي تمسك به حزب الله كموقف رسمي للبنان لم تُستكمل حتى الآن، وليس لها مستند قانوني. الموافقة النهائية على الخط أوقفها رئيس الجمهورية ميشال عون. أدى التشدد في الموقف اللبناني، الذي كشف عن خلافات داخلية، إلى توقف جولة المفاوضات في سنة 2020.
-حاول الأميركيون التوسط مجدداً بين الطرفين في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وأرسلوا مستشاراً رفيع المستوى في مجال الطاقة، عاموس هوكشتاين، لكن بعد عدد من الجولات الاستشارية في القدس وبيروت، لم يحقق هوكشتاين تقدماً.
-إسرائيل مصرّة على المضي قدماً في استخراج الغاز من كاريش، مستندةً إلى أن هذا الحقل يقع ضمن مياهها الاقتصادية، وهذا ما يلمح إليه الاقتراح اللبناني للحل. اعتراض المسيّرات بعيداً عن حقل كاريش يؤكد قدرة إسرائيل على الدفاع عن المنصة وإحباط أي محاولة للهجوم عليها. وقرار حزب الله القيام بخطوات يمكن أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل تضعه في موضع إشكالي، لأنه سيبدو أنه يعمل ضد المصالح الاقتصادية الضاغطة للبنان ويفشّل المساعي لتأمين مصدر دخل اقتصادي له، تحديداً بينما يُبذل جهد دولي لمساعدته في هذا الاتجاه.
-يجب التشديد على أن الحوادث التي جرت مؤخراً حول منصة كاريش انتهت بإظهار إسرائيل تفوّقها على المستوى العسكري، وعلى مستوى الوعي. الاعتراض الناجح للمسيّرات وإعلان حزب الله بعدها أن المسيّرات كانت في “مهمة تفقدية” لا يفرض في هذه المرحلة عملية انتقامية عسكرية من جانب إسرائيل، يمكن أن تخدم حزب الله وتقضي على المحاولة الدبلوماسية الحالية للتوصل إلى حل يبدو أكثر جدية مما سبق. بناءً على ذلك، من المهم أن تستنفد إسرائيل العملية الدبلوماسية في ضوء المزايا الاستراتيجية والاقتصادية المتوقعة من التوصل إلى اتفاق.
-في المقابل، لدى إسرائيل أيضاً إمكانات عسكرية ودعائية تحت عتبة الحرب كي توضح لحزب الله أن محاولاته تحدّي تفوّقها الجوي والبحري بواسطة خطوات هجومية ستواجَه برد عسكري. ومن المهم أن تُظهر إسرائيل الدور السلبي الذي يلعبه حزب الله في منعه التوصل إلى حلّ يساعد اقتصاد لبنان، أو أنه يخاطر بأمن المواطنين اللبنانيين من دون استشارة الأطراف الرسمية في لبنان لزيادة الانتقادات الداخلية ضده.
في الخلاصة، نظراً إلى أن المسيّرات غير المزودة بسلاح لم تصل إلى حد إلحاق الضرر بالجانب الإسرائيلي، يمكن في هذه المرحلة الامتناع من رد عسكري هجومي، ومن الأفضل استنفاد المفاوضات مع لبنان، الأمر الذي يخدم إسرائيل على المستويين الاقتصادي والإقليمي، وأيضاً إزاء الولايات المتحدة. في الوقت عينه، يجب إعداد الأرضية لاحتمال الحاجة إلى عملية عسكرية ضد حزب الله إذا أخطأ في فهم موقف إسرائيل المنضبط وتحداها مرة أُخرى، وخرق توازُن الردع الحالي”.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية