تغيب جذور المشاكل والقضايا المتعلقة بتاريخنا، ومصيرنا، ويصبح لزاماً علينا، العودة إلى الجذور. عودةٌ هدفها رؤية حقائق أخفتها عنا المفاهيم المروجة، والمفروضة بعنف الاستعمار، والسلطات التي بناها خلفه قبل ادعاء خروجه من المنطقة، تاركاً لغالبية أناسنا المتاهة والضياع في ما رسمه للمنطقة، ولكل كيان فيها. لذلك، لم نعد نرى من الحقائق إلا أواخرها، كالقول أن المسألة اللبنانية هي غير السورية، أو العراقية أو الفلسطينية، في جوهرها، ومآلاتها، وأكثر ما يتجلى هذا المنطق الرائج في الحركة الشعبية التي شهدها لبنان منذ ١٧ تشرين الأول (اكتوبر) ٢٠١٩، والتركيز فيها على السلطة اللبنانية، وزعاماتها، والفساد الذي استشرى في السلطة بالتدريج منذ نشأتها.
المشكلة التي نعاني منها هي تحديداً في هذه النقطة، فالمسألة الأساس ليست محلية لبنانية، كما أنها ليست محلية سورية، ولا محلية فلسطينية برغم اختلاف تجلياتها. إنها واحدة، تندرج في خانة السيطرة الاستعمارية المتدرجة بأشكال وصور مختلفة، ومنها السيطرة عبر السلطة، أو الحرب، أو الاحتلال، زكلها عناصر منعت السلام، وإمكانية التطوير، وفرصة التنمية الذاتية التي شهدتها اوروبا، وبقية دول العالم بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
من ألفها فلنبدأ. بزغ العصر الحديث للبنان من ضمن ما بزغ لكل بلاد الشرق. ليس جديداً أن السلطنة العثمانية سيطرت على المنطقة كامتداد للخلافة العربية الإسلامية، فأبقتها موحدة.
في القرن الأخير من الحكم العثماني، بدأ الاستعمار الغربي، الفرنسي والبريطاني، التسرب إلى الشرق تحقيقاً لمشاريعه التوسعية. فأعد العدة لتقسيم جسد السلطنة العثمانية منعا لوحدتها التي أمّنت لها القوة، والديمومة لقرون طويلة.
قبل السيطرة التامة للغرب على بلادنا، كان عليه أن يبحث ويدرس في ظروفنا، ووقائعنا، ونمط تفكيرنا، فعقد مؤتمر “بنرمان” ١٩٠٥-١٩٠٧، وكل تفكير في أحوالنا لا ينطلق من هذا المؤتمر، هو غوص بمتاهات الضياع، وهذا ما نقرأه ونسمعه عن صراع السلطة – أي سلطة – مع شعبها في نطاق عالمنا العربي.
كان على شعبنا التصدي للاستعمار بمفرده، بآليات بدائية مقابل تطور إستعماري كبير اقتصاديا، وصناعيا، وماليا، وعلميا، وكان من بديهيات الأمور أن يخسر المعركة في مجابهة غير متكافئة، استطاع المستعمر خلالها فرض سيطرته، واستراتيجياته وفق ما رسمه، وخططه في مؤتمر “بنرمان”
مؤتمر بنرمان، الذي شاركت فيه سبع دول أوروبية، خصوصا التي كانت متحالفة في ما بينها في الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى الحزب الصهيوني العالمي، قررت بعد دراسات لمنطقتنا، تفتيتها، وتقسيمها، فكانت الفكرة الأولى فصل الشمال الأفريقي عن الشرق العربي، وثانيها، تقسيم بقية أجزاء السلطنة إلى دول، وثالثها، أن تؤخذ بعين الإعتبار التمايزات بين فئات كل بلد، وتنظيم عمليات التقسيم بما يمكن المستعمر من التلاعب بالمنطقة ودولها، وشعوبها، وخلق صراعات فيها، وفق ما رسمه.
أولى النتائج، فصل المشرق العربي عن مغربه الشمال – أفريقي بزرع كيان غريب، فكان الكيان الصهيوني في فلسطين.
ثاني النتائج، تقسيم المقسم. فكان مشروع سايكس – بيكو ترجمة لتوصيات مؤتمر “بنرمان”، ويخطيء من يعتمد بداية مشاكلنا من سايكس بيكو.
ثالث النتائج، الإمعان في التفتيت، والتجزئة، وتركيب دول وكيانات يمكن للمستعمر أن يتلاعب بتركيبتها الفئوية، والديموغرافية، بما بات بمتناوله من قوى تابعة، او وكيلة في سلطات هذه الكيانات. ومن خلال وجوده في المنطقة، تم تقسيم المنطقة إلى دول، كسوريا، والعراق، ومصر، والجزائر، وكيانات صغيرة كلبنان والأردن، والكويت، ودول الخليج.
قد يقال في هذا الصدد، أين هو شعبنا العربي الذي لم يتصد لهذه المنهجية؟ وبالطبع، الأمر واضح. كان الانتصار الكاسح في الحرب العالمية الأولى لصالح المستعمر الفرنسي – البريطاني، وكانت شعوبنا لما تزل في طور النمو بعد أن كانت السلطة الرسمية تتولى أموره، أي الحكم العثماني خلال أربعة قرون ونيف، وعند سقوط هذه السلطة الرسمية، كان على شعبنا التصدي للاستعمار بمفرده، بآليات بدائية مقابل تطور إستعماري كبير اقتصاديا، وصناعيا، وماليا، وعلميا، وكان من بديهيات الأمور أن يخسر المعركة في مجابهة غير متكافئة، استطاع المستعمر خلالها فرض سيطرته، واستراتيجياته وفق ما رسمه، وخططه في مؤتمر “بنرمان”.
أبقى المخطط الاستعماري منطقتنا في التجزئة، وتحت سيطرته المباشرة أحيانا، أو عبر السلطات التي ركبها هو، كما فعل في لبنان، أو عبر دعم، وتقوية الكيان الصهيوني، فكانت الانتصارات الفلسطينية على الحضور اليهودي الأجنبي في فلسطين تتحول إلى انكسارات بتدخل البريطاني. كم من الانقلابات حدثت في سوريا والعراق ومصر ودول أخرى! كم من الحروب تفجرت في المنطقة منذ وفود الغرب إليها على أنقاض السلطنة العثمانية!
أدخل الاستعمار دول المنطقة التي رسمها على جثة السلطنة العثمانية في متاهات مختلفة، وصنع لكل كيان مشاكله الدائمة، واستنزفه، ومتى حاول أي كيان بناء نفسه، تدخل الغرب بما ركز من قوى في سلطات الدول التي شكلت ريشتُه خريطتَها، وتلاعب بأوضاعها، ومتى لم تسر الأمور وفق هواه، أدخلها في الحروب إن مع الكيان الصهيوني، أم سواه.. حرب اليمن نموذجاً.
يستحيل إصلاح السلطة، وقيام سلطة وطنية قبل تحقيق حرب التحرير الوطنية من السيطرة الاستعمارية، وكل كلام غير ذلك، عن فساد السلطات، واسترضاء الغرب الاستعماري، وانتظار بايدن بديلا من ترامب.. هو انتهازية ومضيعة للوقت
سقطت الامبراطورية العثمانية ١٩١٤، وتمت تجزئتها، وجرى بناء سلطات كل جزء وفق رغبة المجزىء، المستعمر. استغرقه ذلك حتى الحرب العالمية الثانية، فأدخلها في ما بعد الحرب في نزاعات، وصراعات وحروب مختلفة، والبداية بقيام الكيان الإسرائيلي، فحرب السويس ١٩٥٦، فحرب ١٩٦٧، واليمن.. إلى الانقلابات التي كان غالبها من صنعه، فتفاعلات القضية الفلسطينية، ودخول المنطقة بكل الدول التي رسمها في صراعات استنزاف لمقدراتها، فكانت غالبية الأموال، والقدرات الاقتصادية، تصرف على الجيوش، وعلى تداعيات الحروب، إلى أن حل النصف الثاني من القرن العشرين، والكل يعرف ما شهدته المنطقة من صراعات إن بين القوى في داخل كل كيان، بين القوى التي صنعها الغرب، والقوى التي نشأت ضده، أو بين الدول والكيان الصهيوني، أو بالحرب المباشرة التي خاضتها الولايات المتحدة كما الحرب ضد العراق.
كان المطلوب بنظر مثقفينا أن تكون الشعوب أكثر قدرة على التصدي للهيمنة بمحاربة سلطاتها، لكن لم يطرح أحد منهم السؤال “من أين لهذه الشعوب أن تمتلك القوة، وهي ما انفكت تحت سيطرة المستعمر، وهي منهكة ومستنزفة بالحروب”؟
كان الأحرى بمختلف القوى ما بعد سقوط الامبراطورية العثمانية أن تنخرط في حرب تحرر من السيطرة الاستعمارية، لا أن تدخل في صراعات داخلية، وتجاذبات على تقاسم فتات السلطة – أي سلطة – في لبنان او سوريا أو مصر او العراق..
كان الأحرى أن تقوم شعوب المنطقة بحركة مناهضة لمقررات ومفاعيل مؤتمر “بنرمان”، بحرب تحرير وطنية، هي شرط لبناء أي سلطة وطنية، مستقلة، متحررة، بدلاً من الدخول في متاهات صراعات داخلية على مقعد وزاري، أو رئاسة جمهورية، أو حكومة، أو إحلال حزب بدل حزب آخر في السلطة.
لطالما لم تنجز شعوبنا حرب التحرير الوطنية، دخلت في عملية “لحس المبرد”، واستنزاف طاقاتها، والعجز عن الخروج من تخلفها.
بعد هزيمة ما عرف بـ”الربيع العربي”، خصوصاً بعد حرب سوريا، وتنامي قوى مقاومة متكاملة وصلبة، بات الحري أن تمسك هذه القوى بزمام المبادرة، وتنشىء سلطتها الوطنية المتكاملة بين مختلف الساحات، ووضع مشروع وطني تحرري يخرجها من ازماتها، وليس الدخول مجددا في ترهات النزاع على مواقع سلطوية لن تغير في نتيجتها في شيء.
في هذا السياق، يأتي تركيز مختلف القوى، والشخصيات الثقافية والفكرية على “حزب الله”، فتحمله مسؤولية فشل، وسقوط الكيان اللبناني، منتظرة نهاية افتراضية له إرضاء لغريزة عشقهم للسلطة، وإرضاء لأسيادهم الذين ما انفكوا يؤثرون في رسم أحداث المنطقة، وتطوراتها بشكل كبير.
بديلاً من الحروب يشنونها على قوة مقاومة هي ثروة وطنية بحد ذاتها، الحري أن تدعم المقاومة، بهدف تحقيق الكثير من التطور، والتقدم، وبناء الذات على أسس متحررة عن رغبة المستعمر، إذ ذاك يمكن القول أن شعوب المنطقة قد بدأت تحقق ما فشلت عن إنجازه في قرن من الزمن منذ ما بعد مؤتمر “بنرمان”، والحروب العالمية، والتجزئة، وقيام الكيان الصهيوني.
وبدلاً من الدخول في متاهات لعبة السلطة، خصوصاً في لبنان، يفترض بالذين يدعون الوطنية، دعم المقاومة، والعمل باتجاه تحقيق منجزات حرب التحرير الوطنية التي لم تنجز بعد في عالمنا العربي، لا البحث عن مقعد نيابي، ثمنه الطعن بظهر المقاومة.
يستحيل إصلاح السلطة، وقيام سلطة وطنية قبل تحقيق حرب التحرير الوطنية من السيطرة الاستعمارية، وكل كلام غير ذلك، عن فساد السلطات، واسترضاء الغرب الاستعماري، وانتظار بايدن بديلا من ترامب.. هو انتهازية ومضيعة للوقت.