كان من الواضح أن محور اجتماع القمة الثلاثية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسوريا، بعد التهديدات التركية باجتياح ما تبقّى من الشمال السوري، وخصوصاً منطقتَي منبج وتل رفعت، بحجة محاربة الإرهاب، وضمان الأمن القومي التركي، الأمر الذي دفع كلاً من روسيا وإيران إلى الوقوف بحزم مع سوريا، ورفض الاجتياح، ثم الذهاب نحو محاولة احتواء جديدة للرئيس التركي، ضمن سياق المتغيرات الدولية المتسارعة، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
تنطلق هذه المحاولة الجديدة من واقع التهديدات والفرص، فتركيا هي أهم دولة في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة، إن كان من حيث عدد القوات العسكرية والعتاد، أو عبر امتلاكها أوراقَ قوة متعددة، تتيح لها العبث باستقرار كل من روسيا وإيران والصين، اعتماداً على الامتداد القومي التركي، أو الطابع الإسلامي المذهبي، بالإضافة إلى موقعها الجيوسياسي المهم جداً، كلسان متقدم عند حدود أوراسيا وإيران، وسيطرتها على الممرات البحرية بين البحر الأسود والبحر المتوسط، بينما تتحدّد الفرص لكل من روسيا وإيران في طبيعة التهديدات التي تتعرض لها تركيا الآن.
التعويل على نجاح المصالحة السورية التركية، في اللقاء الثلاثي المزمع انعقاده في طهران، بتاريخ 19 تموز/يوليو الحالي، ليس في مكانه، فظروفه الثنائية للبلدين لم تتوافر بعدُ، وقد يكون علينا الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية عام 2023
فداخلياً، هناك انقسام سياسي حاد بين مجموعة قوى الأحزاب التركية الستة من جهة، والرئيس إردوغان، الذي يقود ما تبقّى من حزب العدالة والتنمية، من جهة أخرى. ويترافق ذلك مع تراجع اقتصادي كبير لم تشهده تركيا منذ عقود، واستمرار القضية الكردية التي تقضّ مضاجع التيار القومي اليميني.
أمّا على الصعيد الخارجي، فأصبح من الواضح أن هامش المناورة للرئيس إردوغان تقلَّص، وخصوصاً أن رهانات الحرب في أوكرانيا لم تكن في موقعها، وفق معطياته، بعد أن تَوضّحت طبيعة الحلف الآسيوي غير المعلن، لكل من روسيا والصين والهند وإيران، وصلابته في مواجهة الولايات المتحدة. والتهديد الثاني ذو طابع جيوسياسي أيضاً، فتركيا أصبحت عند حدود روسيا من الشمال، بعد استحواذ روسيا على البحر الأسود عملياً. ومن الشرق هناك إيران التي تشاركها في التهديدات والفرص. ومن الجنوب هناك إيران في العراق، وروسيا وإيران في سوريا، عدا عن اليونان؛ العدو التاريخي عند الحدود الغربية.
من هنا، كانت فكرة الاحتواء، عبر العمل على المصالحة بين سوريا وتركيا، من أجل إعادة ترتيب منطقة غربي آسيا، والتي لا يمكن أن تنجح من دون تركيا، التي تشكّل أحد الأعمدة الأساسية لذلك. ولَم تكن زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لأنقرة ودمشق، إلّا ضمن هذا السياق التصالحي.
سيجري اجتماع طهران في ظل بيئة عمل استراتيجية عالية المستوى بين روسيا وإيران، لم نشهدها من قبل. وهذا ما سيؤكده الاجتماع الثنائي بين المرشد خامنئي والرئيس بوتين، بعد أن ثبَّت الطرفان على الأرض وشائج التعاون العالي المستوى، في مواجهة الولايات المتحدة، وخاضا معاً الحرب في سوريا على الإرهاب العابر للحدود، ومنعا سقوط الدولة السورية، بالإضافة إلى مكاسبهما الجيوسياسية، إقليمياً ودولياً، نتيجة ما وفّرت لهما سوريا من فرصة في ذلك. وسبقت هذا الاجتماعَ المنتظر، رسالةٌ قوية جداً وُجِّهت إلى الطرف التركي، بعد استهداف مقرّ حصين للجيش التركي والمجموعات المسلحة في جبل الزاوية، ومقتل مجموعة من الخبراء الأتراك في التصنيع العسكري، وثلاثة أضعافهم من عناصر المجموعات، التي تعمل في هذه المنشأة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: هل يمكن لسوريا وتركيا أن تتجاوزا حرباً استمرت قرابة أحد عشر عاماً ونيف، وفيها استطاعت تركيا أن تساهم، على نحو كبير وواسع، في تدمير سوريا، اقتصادياً وسكانياً وبنيةً تحتية، بالإضافة إلى احتلالها 9 % من الأراضي السورية؟
هناك مجموعة من العوائق، التي تمنع الطرفين من الذهاب نحو المصالحة، ولكل طرف أسبابه وشروطه. فتركيا لا تريد أن تخسر ما كسبته خلال هذه الحرب، بعد احتلالها إدلب وعفرين وتل أبيض ورأس العين، كخطوة نحو تحقيق الميثاق الملّي عام 1920، بالإضافة إلى المكتسبات العقائدية والدينية والقومية، بعد أن وصلت قواتها إلى ليبيا والعراق والقوقاز. والعودة عن احتلالها مناطق في سوريا ستدفعها إلى الانسحاب من سائر المناطق المذكورة. والأمر الثاني هو أن هذه المصالحة ستساهم في إثارة التساؤلات عن جدوى المغامرات العسكرية، وخصوصاً أن الأثمان الاقتصادية والسياسية ما زالت تضغط على المجتمع التركي. والشيء الوحيد، الذي يمكن للرئيس إردوغان قبوله، هو المصالحة، مع الإبقاء على الواقع الحالي كما هو عليه.
دمشق تخشى الدورَ التركي الفاعل في سوريا، فتركيا تسيطر على أكثر من 9 ملايين سوري، إن كان في تركيا (3.6 ملايين)، أو في إدلب وسائر المناطق السورية المحتلة. والذهاب إلى المصالحة، في مثل هذا الوضع، سيجعل تركيا شريكةً في الحكم، وقد تكون اللاعب الأهم في الداخل السوري
في المقابل، فإن الموقف السوري لا يستطيع أن يتجاوز مجموعة من المُحدِّدات للعلاقة بتركيا، أولها فقدان الثقة بالرئيس إردوغان، بعد أن فُتحت له أبواب سوريا على مصاريعها، فكان رد الجميل منه استباحتها والشراكة في تدميرها. وبالتالي، فإنها ستشترط الانسحاب الكامل للقوات التركية من كل المناطق المحتلة، وتفكيك الجماعات التكفيرية المسلَّحة في إدلب، والعودة إلى اتفاق أضنة الأمني عام 1999، على جانبي الحدود بين البلدين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن دمشق تخشى الدورَ التركي الفاعل في سوريا، فتركيا تسيطر على أكثر من 9 ملايين سوري، إن كان في تركيا (3.6 ملايين)، أو في إدلب وسائر المناطق السورية المحتلة. والذهاب إلى المصالحة، في مثل هذا الوضع، سيجعل تركيا شريكةً في الحكم، وقد تكون اللاعب الأهم في الداخل السوري. والذهاب نحو المصالحة لا يمكن له أن يتمّ إلّا بعد تحجيم الدور التركي إلى الحدود الطبيعية.
لن يكون هذا التصلب في الموقف السوري ناجماً عن الفراغ، فهو يستند إلى طبيعة الاصطفاف إلى جانب كل من روسيا وإيران، على مدى العقود الماضية حتى الآن. وسيستند، من جهة أُخرى، إلى التخلّي الأميركي عن الكرد في سوريا وتركيا لمصلحة تركيا، الأمر الذي يجعلهم الطرف الأضعف في المعادلة السورية، وليس لهم من خيار إلّا التعاون مع دمشق، وفقاً لشروط تضمحلّ يوماً بعد يوم.
من هذا المنطلق، فإن التعويل على نجاح المصالحة السورية التركية، في اللقاء الثلاثي المزمع انعقاده في طهران، بتاريخ 19 تموز/يوليو الحالي، ليس في مكانه، فظروفه الثنائية للبلدين لم تتوافر بعدُ، وقد يكون علينا الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية عام 2023، وما يمكن أن توفره من ظروف وشروط جديدة لعلاقة طبيعية بين جارين محكومين بالتاريخ والجغرافيا.
(*) بالتزامن مع “الميادين“