تحديات أوروبا الداخلية.. الوحدة والتصالح مع الجغرافيا (2)

تضمن الجزء الأول من هذه المقالة، رصد للمشاكل الخارجية التي تواجه الإتحاد الأوروبي في ضوء الحرب الروسية ـ الأوكرانية، أما الجزء الثاني والأخير، فيحاول مقاربة مشاكل أوروبا الداخلية على الشكل الآتي:

أولاً؛ تضعضع الإتّحاد الأوروبي:

انعكس خروج بريطانيا، صاحبة الإقتصاد الثاني من حيث الحجم بعد ألمانيا، من الإتّحاد الأوروبي، سلباً على وحدته. فبدأت أصوات دعاة الخروج تتصاعد في دول أخرى كإيطاليا (خصوصاً في الجنوب)، والسويد، وهولندا، وفرنسا حيث يطالب اليمين المتطرف علناً بـ”إصلاح الإتّحاد الأوروبي” في حين أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتّهم هؤلاء بإمتلاكهم مشروعاً “سرّياً” لمغادرة منطقة اليورو.

نعتقد أنّ هذا النقاش بين مؤيّدٍ للبقاء ورافضٍ له، سيتصاعد في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة كنتيجة أولى لتداعيات الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة على الإقتصاد الأوروبي، على قاعدة المثل القائل بأنّ “القلّة بتولّد النقار”، إذ أنّ كلّ طرف سيحاول تحميل الآخر مسؤوليّة ما آلت وستؤول إليه الأمور.

ثانياً؛ لا إرادة سياسيّة بالإستثمار في القطاع العسكري:

من المؤكّد أن السلاح النووي هو أمرٌ رادعٌ في وجه أيّ عملٍ عسكري قد يُشَنّ ضدّ أي دولة تمتلكه. لكنّ ذلك لا يكفي، إذ أنّ الحروب في يومنا هذا لا زالت تتطلّب عدد معتَبَر من الجنود، الآليّات، الاستخبارات، الخبراء السيبرانيّين، ناهيك عن مشاركة المعلومات والتكنولوجيا، والتدريبات والمناورات المشتركة بغية توحيد الجهود.

لا يمكننا القول إنّ كلّ تلك المتطلّبات ليست مؤمّنة بين دول الإتّحاد الأوروبي، ولكن، يتولّد لدينا انطباع أنّها ليست بالقدر الكافي، فعلى سبيل المثال، قلّما نسمع عن مناورات عسكريّة أوروبّيّة مشتركة من خارج إطار الناتو. فإذا لم تتدرّب الجيوش بين دول حليفة تدريباً مشتركاً وبشكلٍ دائمٍ، فكيف يمكنها تنفيذ خطّة موحّدة للدفاع المشترك في أي حرب مستقبليّة محتَمَلة؟

إنّ كلّ ذلك يتطلّب إنفاقاً عسكريّاً معتَبَراً، فيما السياسيّون، حتّى اليوم، لا يرغبون بأن يتخطّى الإنفاق المالي على التسلّح نسبة الـ2% من الناتج المحلّي.

الإتّحاد الأوروبي اليوم أمام مفترق طرق خطير: فإمّا أن يتحوّل، بنظرنا، لمنطقة تحت نفوذ أميركي – بريطاني أو أن يتصالح مع الجغرافيا، أي مع روسيا، فيُرجِع للعالم بعض التوازن. لذلك نعتقد أنّه عليه أن يختار بين سياسة الناتو (المسيطَر عليه من الأميركيّين) وبين الصداقة مع دول الجوار (تركيا وروسيا)، وتفعيل الشراكة الأورو- متوسّطيّة

هذه الخطوة “غير شعبيّة”، لأنّها تتطلّب ضرائب إضافيّة من أجل تمويلها. قد تكون الحرب الأخيرة دافعاً للأوروبيين ليمرّروها دون أن يواجهوا معارضة شديدة من المكلّفين، الذين، ربّما، شعروا بمدى أهمّيّة ذلك كعمل دفاعي واستراتيجي.

إضافةً إلى الإنفاق على التسلّح، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أوروبا لم تعد تملك ترف الوقت لتحقيق كلّ ذلك، في ظلّ عالم متغيّر، تتسارع فيه الأحداث.

ثالثاً؛ بطء في التنفيذ:

تحاول الدول استباق الأزمات ودراسة السيناريوهات الإقتصاديّة والسياسيّة بغية استشراف المستقبل، إذ أنّ التخطيط والتنفيذ الاستراتيجيّين، كالعمل على تحسين الأمن الغذائي والطاقوي والبيئي يتمّ بناءه تدريجيّاً على مدى سنوات طوال.

لكن، في عالمنا الحالي، أصبحت أهمّيّة السرعة في اتّخاذ القرار والمباشرة في التنفيذ، لا تقلّ شأناً عن التخطيط. لطالما أدرك الأوروبّيّين أهمّيّة ذلك، لكن بعد الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة، وضعوا هذا “الإدراك” حيّز التنفيذ.

فقد دعا البرلمان الأوروبّي مؤخّراً، ولو متأخِّراً، إلى التخلّي عن اتّخاذ القرار بالإجماع فيما خصّ السياسة الخارجيّة وقضايا الأمن: “نحن بحاجة إلى الإرادة السياسيّة لاتّخاذ قرارات السياسة الخارجيّة من خلال تصويت الأغلبيّة المؤهّلة. إنّ هذا من شأنه أن يزيد من فعاليّة السياسة الخارجيّة والأمنيّة المشترَكة للاتّحاد الأوروبّي”.

رابعاً؛ الرفاهيّة:

تحوّل الإنسان “الغربي” تدريجيّاً إلى رافضٍ لأي شكلٍ من أشكال الحروب خارج الحدود. نعتقد أنّ هذا التحوّل بدأ في حرب فييتنام، وتعزّز في حربي أفغانستان والعراق.

لا بل أكثر من ذلك، لقد أصبح (الإنسان الغربي) رافضاً لفكرة “بذل الذات” والإستعداد للتضحية في سبيل الآخر، ما أدّى إلى صعود دور الشركات العسكريّة والأمنيّة الخاصّة، في الولايات المتّحدة وأوروبا.

إنّ هذين الأمرين، بنظرنا، يشكّلان تهديداً استراتيجيّاً وجوديّاً للإتّحاد الأوروبي، فكيف يمكن لمن ليس لديه الجرأة والإرادة لبذل الدم (هذه قراءة شخصيّة، من دون تعميم، نتيجة الرفاهيّة الحاليّة من جهة، وتعدّد الحروب والمآسي التي عانت منها أوروبا في القرن الماضي من جهة أخرى)، ومن ليس لديه قضيّة، بل يقوم بواجب القتال مقابل المال (الشركات الأمنيّة الخاصّة) من أن ينتصر في أيّ حرب محتمَلَة؟

خامساً؛ المشكلة الديموغرافيّة:

يشير تقرير الأمم المتّحدة حول النموّ الديموغرافي العالمي والذي تمّ نشره سنة 2019، أنّه من المتوقّع في سنة 2050 بأن يكون عدد سكّان العالم حوالي 10 مليار نسمة، قرابة 80% منهم سيسكنون بين آسيا وأفريقيا.

أمّا في الإتّحاد الأوروبي، وإذا ما اعتمدنا سيناريو استمرار وجوده بالشكل الذي هو عليه اليوم (الدول الحاليّة نفسها، دون خروج أو دخول أي دولة إضافيّة)، فسيتناقص عدد السكّان من حوالي 450 مليون نسمة اليوم، إلى أقلّ من 400 مليون سنة 2050.

إقرأ على موقع 180  الهوية الضائعة.. الأجيال الضائعة! 

بالإضافة إلى ذلك، وبغية سدّ فجوة الحاجة الأوروبّيّة لليد العاملة الرخيصة، يتمّ “استيراد” يد عاملة شرق-أوسطيّة ذات أكثريّة إسلاميّة التي، من شأنها إجراء تغيير بطيء وجوهري على بنية المجتمع، وعلى التقاليد والثقافة، والتأثير تدريجيّاً على السياسة الخارجيّة، وصولاً إلى حدّ لعب دور مقرّر في تحديد “من هو الصديق ومن هو العدوّ”.

سادساً؛ فروقات في الناتج المحلّي بين الدول:

تتنوّع الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات المختلفة بين دولة وأخرى في الإتّحاد الأوروبي، وهذا عامل إيجابي، إذ يتبادل الجميع الإستفادة من القدرة التنافسيّة، و”المعرفة التنفيذيّة” (Savoir-Faire)، لأي سلعة أو خدمة تنتجها الدول الأعضاء. لكن، بالمقابل، نلاحظ فروقات شاسعة في الناتج المحلّي في ما بينها، فيتأرجح ما بين ال 4200 مليار $ (ألمانيا)، إلى 27 مليار $ فقط (قبرص).

في ظل هذا الوضع، تصبح السياسات الإقتصاديّة تنحو باتّجاه خدمة الإقتصاديّات الكبرى (ألمانيا وفرنسا) على حساب الصغرى، ويضع المصرف المركزي الاوروبي سياسته النقديّة على قياس هذه الإقتصاديّات الكبرى.

إنّ هذا السلوك “الشمولي” بنظر بعض الدول “الصغيرة”، بالإضافة إلى الصعوبة البالغة لتطبيق المعايير الإقتصاديّة والماليّة (على سبيل المثال: عجز الموازنة يجب ألّا يتخطّى ال3%)، يهدّد بزيادة عدد الدول التي ترغب بالخروج من الإتّحاد، وبالتالي يهدّد بإضعاف “هيبته”، ونفوذه.

مصلحة روسيا تكمن في أن تكون أوروبا موحّدة، بحيث لا تصبح (روسيا) مضطرّة للتعاطي مع دول متفرّقة، من السهل من أن تكون إحداها، ربما، خاضعة لنفوذ قوّة مناهضة أو معادية لها

في الخلاصة، واستنادا” إلى العرض أعلاه، نودّ إثارة بعض المقترحات والأفكار:

– نرى أنّه لا بديل عن الإتّحاد الأوروبي في الوقت الحالي، فلا مصلحة للبحث عن جسم جديد خصوصاً في هذا العالم “الفوضوي”، إنطلاقاً من مبدأ “اللي منعرفو أفضل من اللي منجهلو”.

– من جهتها، وعبر التاريخ، تعرضت روسيا لغزوات من جهات متعدّدة: نابولين، هتلر، العثمانيين، جانكيسخان..، ما جعلها “تتمنّى” أن تكون على “صداقة” مع جيرانها. ولكنّها تتشارك حدودها مع 14 دولة، ومن شبه المستحيل أن تكون صديقة مع الجميع. لذلك، نعتبر أنّ مصلحة روسيا تكمن في أن تكون أوروبا موحّدة، بحيث لا تصبح (روسيا) مضطرّة للتعاطي مع دول متفرّقة، من السهل من أن تكون إحداها، ربما، خاضعة لنفوذ قوّة مناهضة أو معادية لها.

– بالمقابل، نرى أنّه لا مصلحة للإتّحاد الأوروبي إلّا بالإتّفاق مع روسيا. فالجغرافيا لا زالت تتسيّد السياسات والإستراتيجيّات، وروسيا هي امتداد طبيعي لأوروبا. من هنا، نرى أنّه يمكن للطرفين أن يتكاملا، فتقدّم الأولى الأراضي الشاسعة والثروات الطبيعيّة واليد العاملة الرخيصة، في حين أنّ الثانية يمكنها، لما لها من موارد ماليّة، من إقامة استثمارات في الصناعات والتكنولوجيّات المتطوّرة والبنى التحتيّة.

– على صعيد النظام العالمي، حيث ينتصر فيه منطق البقاء للأقوى، نعتقد أنّه لا بدّ للدول، من أجل الدفاع عن وجودها، بأن تتّجه نحو الأحلاف الإقليميّة من جهة، وأن تحصّن وحدتها الداخليّة من جهة أخرى. لذلك، نرى أنّ الإنتقال من حالة الإتّحاد الأوروبي إلى حالة الوحدة الفيديراليّة، على مثال الولايات المتّحدة الأميركيّة، أصبح مصلحة استراتيجيّة وعاجلة. إنّ توحيد الأمن والسياسة الخارجيّة والسياسة الماليّة، لا يمكن إلّا أن يحافظ على وحدة الإتّحاد (فالشعوب، بشكل عام، تفضّل الإنتماء لدولة قويّة) من جهة، وعلى المفاوضة من الند للند مع القوى الكبرى الأخرى، فتفرض سياسة مبنيّة أقلّه على أساس المصالح المشتركة من جهة أخرى.

– الإتّحاد الأوروبي اليوم أمام مفترق طرق خطير: فإمّا أن يتحوّل، بنظرنا، لمنطقة تحت نفوذ أميركي – بريطاني أو أن يتصالح مع الجغرافيا، أي مع روسيا، فيُرجِع للعالم بعض التوازن. لذلك نعتقد أنّه عليه أن يختار بين سياسة الناتو (المسيطَر عليه من الأميركيّين) وبين الصداقة مع دول الجوار (تركيا وروسيا)، وتفعيل الشراكة الأورو-متوسّطيّة.

فالخيار الأوّل سيضعه في مهبّ التهديد الوجودي عبر تحوّله لوسيلة يتصارع على أرضها الكبار، أمّا الثاني، فقد “يُنعِش” دوره ونفوذه، وحجز موقع متقدّم في النظام العالمي قيد التشكّل.

في الختام، في هذا المخاض المليء بالفوضى، والذي قد يصل بنا إلى عالم متعدّد الأقطاب، نطرح السؤال التالي: كم ستكون “تكاليف” المرحلة الإنتقاليّة هذه، وهل ستكون “القارّة العجوز” هي من سيدفع الثمن الأكبر كنتيجة مباشرة لهذا التحوّل؟

(*) الجزء الأول من هذه المقالة: تحديات أوروبا الخارجية.. إخفاقات بالجملة

Print Friendly, PDF & Email
آلان دفوني

كاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هيكل "الأستاذ".. و"العارفة"