الدولار الجمركي.. قصة “اللقيط” و”الساقطة”!

"ليس الدولار الجمركي" مصطلحاً جديداً كتلك المرادفات التي احتلّت قاموس اللبنانيين بعد انكشاف الأزمة المالية في أواخر العام 2019. الـ"لولار"، الدولارات "الطازجة" (الفريش)، الدولار الطالبي، لولرة الودائع وغيرها..

قبل الحرب الأهلية، كان لبنان المستورد للسلع يعتمد على الرسوم الجمركيّة، ويعاني من عجز دائم وكبير في ميزانه التجاري. مع تطور الحرب، شهد لبنان انهياراً اجتماعياً بموازاة الانهيار النقدي. اضطرّ مصرف لبنان الى انتهاج سياسة نقديّة متشدّدة لضبط التوسّع السرطاني في الكتلة النقديّة الذي شلّ النشاط الاقتصادي. كلّ هذه الظروف أدّت الى تغييرات جذريّة في الهيكليّة التقليدية للايرادات الضريبية.

خلال تلك الفترة، تراجع حجم الرسوم الجمركية بشكل دراماتيكيّ، ما جعل عائدات الضرائب المباشرة تفوق حجم الرسوم غير المباشرة. يعود ذلك الى سببين رئيسيين: أولاً؛ انتشار المرافئ غير الشرعية، وثانياً؛ “الدولار الجمركيّ”. جاء الدولار الجمركي كمحاولة من إحدى حكومات عهد أمين الجميل (1982ـ1988) لمنافسة المرافئ الخاضعة لسلطة الميليشيات اللبنانية المسلّحة، وجذب البضائع المستوردة الى مرافئها الشرعيّة، لكنّه سرعان ما تحوّل الى كابوس.

استُحدث “الدولار الجمركي” بموجب مرسوم (1985). وهو كان يعني تقييم البضائع المستوردة حسب سعر ثابث للدولار الأميركي، يقلّ عن سعره الحقيقي المتصاعد في سوق القطع.

يصح القول إننا أمام تدبير إجرائيّ ذي طابع ضريبيّ ولسنا أمام خطوة إصلاحية كتلك التي ينادي بها “الإصلاحيون” أو ينتظرها صندوق النقد الذي لن يكون مُرحباً بفوضى تعدد أسعار صرف الليرة اللبنانية

راهناً، يختلف الدولار الجمركي عن سلفه. حتى الآن، لم يتمّ التوصل إلى صيغة نهائية لهذا الدولار ومن سيكون الأب الشرعي له، أي “مَن” سيتبنّى تحديد سعر هذا “الللقيط”. رئيس الجمهوريّة ميشال عون رفض تمريره كـ”استثناء” مخالف للقانون. رئيس حكومة تصريف الأعمال أراد توريط وزير المال بالتحديد خلافاً لإتفاق شفهي مع رئيس مجلس النواب خلال لقاء ثنائي جمعهما بعيداً عن العدسات الصحافية. بالمقابل، تصر وزارة المال على النأي بنفسها عن إتّخاذ أي قرار بهذا الشأن وبالعديد من القضايا المالية الحساسة لأسباب سياسية بحتة.

يمكن الإشارة إلى نقطتين إشكاليتين:

  • إعتبار صلاحيّة إقرار الدولار الجمركي من عدمه عائدة لوزير المال وحاكم مصرف لبنان.
  • إعتبار موافقة جميع الوزراء في حكومة تصريف الأعمال على سعر 20 ألف ليرة كافية. وعليه يمكن لرئاسة الحكومة الطلب من وزير المال، إتخاذ القرار المناسب والتنسيق مع حاكم مصرف لبنان لتحديد سعر الدولار، ولإحتساب قيمة البضائع الواجب التصريح بها للجمارك.

هاتان النقطتان تثيران إشكاليات قانونية ـ دستورية، فمشروع المرسوم الذي أعدّته حكومة تصريف الأعمال، الرامي إلى تحديد سعر الدولار الجمركي من أجل إحتساب البضائع الواجب التصريح عنها للجمارك، يرتكز إلى قانون التفويض التشريعي (رقم 93) الصادر في 10/10/2018 لخمس سنوات. وفيه، تفوّض السلطة التشريعيّة السلطة التنفيذيّة لكي تشرّع في الحقل الجمركي بمراسيم تتّخذ في مجلس الوزراء (دون التطرق إلى قضيّة حكومة تصريف الاعمال).

وبعيداً من دستوريّة “قانون التفويض التشريعي في الحقل الجمركي”، إلا أنّ هذه الصلاحية المحدّدة، بحسب القانون، لا تشمل التشريع المالي ومنه تعديل الرسوم الجمركيّة المسماة دولاراً جمركيّاً. أما مبدأ التفويض الدوري، فممنوح للحكومة مجتمعة كسلطة تنفيذية، وليس لوزير.

تتطلّب زيادة الرسوم الجمركيّة إذاً “قانوناً” صادراً عن مجلس النواب.

لكن، وفي مقابل هذه المقاربة، يجري التسويق لـ”مخرج” عبر قانونَي “الجمارك”، و”النقد والتسليف”.

يُحدّد “قانون النقد والتسليف” في مادّته 229 كيفيّة إعتماد “السعر الانتقالي القانوني” للضرائب والرسوم التي تستوفى عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية. لا تذكر المادّة (ولا غيرها من مواد القانون) أي تحديد لسعر الدولار الجمركي.

 إلى ذلك، فإنّ السياق الذي ذُكر فيه السعر الإنتقالي، كان هدفه عدم تحديد قيمة الليرة اللبنانية بوزن ثابت من الذهب، والذي لا يستطيع مواكبة تطور أسعار السوق الحرة، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تكبّد الدولة خسائر جمّة.

مرّ وقت طويل على إقرار “قانون النقد والتسليف” من دون أن يصدر قانون يحدد قيمة الليرة. ومع تطور النظام المالي، بات هذا الأمر أكثر تعقيداً تحديداً مع إعتماد الدولار الأميركي بديلاً عن الذهب لتثبيت أسعار العملات.

ذلك يعني عملياً أن لا علاقة بين الدولار الجمركي والمادة 229 الساقطة أصلاً بما أنّ سعر الصرف الرسمي يُحدّد بقانون. وهكذا تكون كلّ تدخّلات البنك المركزي و”منصّاته” غير قانونية.

أما صلاحية وزير المال، فتشمل سعر صرف الليرة اللبنانية في كل تعاملات الدولة. وعليه، ليس من القانوني حصرها في الدولار الجمركي وفقاً لمرسوم.

أما إقتصادياً، فيُسجل للمنظومة مُضيها في إتّباع نهج الحلّ “بالمفرّق” بلا خطّة واضحة للتعافي. فالدولة منهارة وشبه متحللة. الأجهزة الرقابيّة كلّها معطّلة. كيف إذاً تحرص دولة اللا دولة على حماية المستهلكين من تداعيات إجراء كهذا ومن يضمن ألا يستفيد أصحاب الثروات على حساب الفقراء؟ وفي ظلّ غياب أي رؤية، كيف تحرص السلطة على عدم تأثّر السلع الأساسيّة سواء أكانت غذائية، أو طبية وإستشفائية، منزلية وشخصية، أو حتى إنتاجية؟

إقرأ على موقع 180  «ثورة» الأميركيين أبعد من ثنائية «الأبيض والأسود»

في العادة، تعتمد الدول آليّة زيادة الرسوم على الاستيراد لأسباب “حمائيّة” متعلّقة بتأمين ديمومة القطاعات الإنتاجية المحلّيّة كما السيطرة على نسب التضخم الناجمة عن العجز في الميزان التجاري، وذلك لـ:

– تخفيف حركة الطلب على المنتجات المستوردة، ومعها الطلب على العملات الأجنبيّة.

 – زيادة الإنتاج المحلّي.

لكن في حالة لبنان الراهنة، فإنّ النتيجة الحتميّة لهذا الاجراء الترقيعيّ ستترجم زيادة في التضخم، وفلتاناً في الأسعار خصوصاً وأنّ المواد الأولية المستخدمة في الإنتاج والصناعة المحلّيين بغالبيتها مستوردة، إضافة الى تدهور سريع لسعر صرف الليرة، فضلاً عن زيادة التهريب والتهرب الضريبي، في غياب المكننة والإصلاح الجمركي وأي ضبط للحدود البرية والبحرية وحتى الجوية.

يصح القول إننا أمام تدبير إجرائيّ ذي طابع ضريبيّ ولسنا أمام خطوة إصلاحية كتلك التي ينادي بها “الإصلاحيون” أو ينتظرها صندوق النقد الذي لن يكون مُرحباً بفوضى تعدد أسعار صرف الليرة اللبنانية.

في كتابه “أزمة الماليّة العامة في لبنان – قصّة الانهيار النقدي 1982-1992″، يُوثّق نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً غسّان العيّاش كيفيّة ضمور الإيرادات وتردّي النفقات خلال سنوات الأزمة (1982 و1992)، ما أدّى الى ظهور عجز سنوي كبير في الموازنة، وبالتالي تراكم الدين العام وتضخّمه. وقتها، أصبح تحصيل الضرائب غير منسجم مع مبدأ العدالة في التحصيل. إذ بات عبء الضرائب بغالبيّته يقع على ذوي الدخل المحدود وعلى الأُجراء والموظّفين أكثر من الشركات التي حقّقت وتُحقق أرباحاً كبيرة.

عندما أُقرّ الدولار الجمركي في العام 1985، كان يمثّل 1.3٪ من سعر الدولار الحقيقي. وبقي هذا السعر معتمداً حتى سنة 1991 برغم الارتفاع الهائل وغير المنقطع لسعر الدولار في سوق القطع. وأصبح “الدولار الجمركي” مع الوقت رمزيّاً، مما ساهم في تهميش العائدات الجمركيّة. كانت الحكومة تخشى أن يؤدي إلغاء الدولار الجمركي إلى إرتفاع الأسعار بشكل مواز لإنهيار سعر صرف الليرة.

بإختصار، لم يحقّق الدولار الجمركي أياً من الأهداف التي إستُنبط لأجلها.

يُسجل للمنظومة مُضيها في إتّباع نهج الحلّ “بالمفرّق” بلا خطّة واضحة للتعافي. فالدولة منهارة وشبه متحللة. الأجهزة الرقابيّة كلّها معطّلة. كيف إذاً تحرص دولة اللا دولة على حماية المستهلكين من تداعيات إجراء كهذا ومن يضمن ألا يستفيد أصحاب الثروات على حساب الفقراء؟

هذا السيناريو بأكثريّة فصوله يتكرّر اليوم: فالقيمة الحقيقية للرواتب والأجور تذوب مع ذوبان الليرة وموجة الغلاء باتت مستفحلة. “التجّار” نجحوا بالفعل في إيجاد مجالات عدّة لمراكمة أرباحهم وهم إستفادوا من الإستيراد على أساس دولار جمركي بـ1500 ليرة للدولار الواحد وراكموا ما يكفي في المستودعات لكي يرفعوا الأسعار. قالوا للناس صراحةً: “المسّ بمكاسبنا ممنوع”، وقالت طبقة الأثرياء “نريد أن نستورد الكافيار بسعر دولار جمركي 1500 ليرة”.

في جميع الأحوال، لن يكون إقرار الدولار الجمركيّ سهلاً. فهو بصيغته المتحركة ليس أداة إصلاح إقتصادي ومالي. لن ينجح في لجم فلتان التهريب عبر الحدود والمعابر والمرافئ، شرعيّة كانت أم غير شرعيّة. لن يكون جهازاً تفضيلياً للإنتاج على الاستهلاك. كما لن يشكّل قبضة تقمع “التهرب الضريبي”.

وإذا كان الحلّ ينطلق من تطبيق الإصلاحات، وإتمام التدقيق الجنائيّ، والسير بآليّة إستعادة الأموال المنهوبة، وصولاً الى رفع الرسوم الجمركية تدريجياً للجم إرتفاع الاسعار وإمتصاص غضب الشارع، يبقى الأهم أن حالة الإنكار صارت سياسة رسمية مُتقنة وليس مجرد إرتجال، وليس أداء الحكومة في موضوع الدولار الجمركي إلا خير دليل على عدم إلتزامها بأي من “الوصفات” الإصلاحية التي يحتاجها البلد أو يطلبها صندوق النقد.

(*) راجع مقالة سعادة الشامي بعنوان: “الدولار الجمركي” بين المخاوف المشروعة والموارد المطلوبة

Print Friendly, PDF & Email
إيڤون أنور صعيبي

كاتبة وصحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  وداد يونس تسرد "بوكالتها".. عن قصصنا!