هؤلاء الضحايا، ضحايا مرتين أيضاً: في الأولى لأنهم اقتلعوا من أرض فلسطين تنفيذاً لمخطط صهيوني إجرامي إحلالي عنصري فصاروا لاجئين، وفي المرة الثانية لأنهم لاجئون ويجب وفقاً لمخطط أرييل شارون اقتلاعهم مجدداً، وأيضاً بقوة المجازر والارهاب الذي هو العامود الأساس للفكر الصهيوني.
ضحايا مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا كانوا ناموا، قبل أربعين عاماً، على وعود أميركية للقيادة السياسية الفلسطينية بعدم المس بالمدنيين من سكان المخيمات، بعد إنتهاء ترتيبات ترحيل تلك القيادة السياسية من بيروت، غير أن وعود الأميركيين تشبه تماماً تكليف الذئب بحراسة قطيع الغنم وحمايته.
ثمة أسئلة كثيرة في الذكرى الأربعين، تتجاوز الفجيعة والصدمة، وإحياء المناسبة والذاكرة وتحفيز العقول بالوعي لمخاطر الفكر الصهيوني الإجرامي؛ ولا سيما منها سؤال العدالة المؤجلة للضحايا، برغم معرفة هوية القاتل منذ ما قبل نكبة العام 1948 حتى يومنا هذا؟.
السؤال الثاني لماذا لم تلجأ القيادات والهيئات والمؤسسات والاحزاب والقوى المدنية الفلسطينية وكل المدافعين عن قضية فلسطين إلى المحاكم الدولية.. مع أننا نعرف جميعاً الجواب: إنه الإنحياز الدولي السافر إلى إسرائيل، ولكن، هل يعني ذلك أن ننكفىء وأن لا نُقدِمْ؟
لن أطيل في أسئلتي، بل سأحكي عن مجزرة صبرا وشاتيلا بصفتي المهنية كصحافية.
لم يكن قد مضى على دخولي عالم مهنة الصحافة المكتوبة سوى أشهر معدودة قبيل اجتياح اسرائيل للبنان في حزيران/يونيو 1982.. بالنسبة لنا نحن كناس عاديين، كان الإجتياح مفاجئاً، لكن خلف الكواليس لم يكن كذلك.
***
قبل عام على وقوع هذا الاجتياح الاسرائيلي وصل المستشار النمساوي الراحل برونو كرايسكي إلى دمشق وأبلغ الرئيس الراحل حافظ الأسد أن إسرائيل وتحديداً وزير دفاعها آرييل شارون وضع خطة لاجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت بهدف اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية وتعطيل دورها، وتشتيت الشتات الفلسطيني مجدداً. فكان أن طار الرئيس الأسد إلى الرياض والتقى ولي العهد حينذاك الأمير الراحل فهد بن عبد العزيز وأبلغه بما بلغه من معلومات من كرايسكي، فما كان من الأخير- أي فهد – إلا أن أرسل بطلب الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) ونقل إليه ما سمعه من الأسد. هذه المعلومة واردة في كتاب مذكرات سفير لبنان السابق في السعودية في تلك الفترة ظافر الحسن، (شغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية اللبنانية قبل إحالته إلى التقاعد).
كي لا ننسى مجزرة صبرا وشاتيلا، وكي لا نقع في أفخاخ التطمينات الكاذبة وكي لا يتكرر مسلسل الضحايا مجدداً، لنُحصن الساحة الفلسطينية في الداخل وكذلك مجتمع الشتات حتى يبقى متمسكاً بحق العودة
***
سث أنزيسكا هو كاتب أميركي نشأ على تربية يهودية مؤيدة للصهيونية وكان يشارك في معسكرات تدريب دينية في اسرئيل، الأمر الذي جعله يلاحظ التفاوت في الحرية ما بين الاسرائيلي والفلسطيني لمصلحة الأول طبعاً، الأمر الذي قلب وعيه جذرياً.
مؤخراً، أطل أنزيسكا بكتاب عنوانه “قطع الطريق على فلسطين-تاريخ سياسي من كامب دايفيد إلى أوسلو”، صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. في هذا الكتاب يكشف أنزيسكا معلومات خطيرة للغاية، ومنها اجتماع حصل بين شارون والمرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية بشير الجميل بحضور مدير المخابرات اللبنانية جوني عبده، في 31 تموز/يوليو 1982، تبلغ خلاله الجميل من شارون أمراً بضرورة إنهاء الوجود الفلسطيني في مخيمات لبنان. وقال شارون للجميل: إن لم تفعلوا ذلك انتم (القوات) سنفعل نحن، وهو ما وافقه على تنفيذه بشير الجميل.
كما يكشف الكتاب تفاصيل اللقاء المتوتر بين اسحق شامير وكان وزيراً للخارجية الإسرائيلية وموريس درايبر مساعد وزير خارجية اميركا بحضور فيليب حبيب وشارون. وعندما حاول درايبر لوم شارون على قراره بدخول العاصمة بيروت، سرعان ما تراجع أمام لهجة شارون العنيفة واللامبالية فما كان من درايبر إلا أن وافق على تأجيل طلبه انسحاب الجيش الاسرائيلي من العاصمة اللبنانية لمدة يومين لتزامنهما مع عطلة رأس السنة اليهودية (روش هاشاناه) التي تبدأ مساء 16 ايلول/سبتمبر، وبذلك يكون الاميركي أعطى غطاء للاسرائيلي وعناصر القوات اللبنانية لارتكاب المجزرة بين 15 و18 من الشهر نفسه!.
وتحت عنوان “ضوء أخضر اميركي”، يكشف أنزيسكا عما هو أخطر، فيذكر أن اجتماعاً حصل في كانون الاول/ديسمبر 1981 بين وزير الدفاع أرييل شارون والسفير فيليب حبيب في وزارة الخارجية الاسرائيلية، وفيه كشف شارون عن خططه العسكرية تجاه الوجود الفلسطيني في لبنان، ورغبته بتوغل كبير في لبنان. وسأله حبيب ماذا ستفعل بآلاف الفلسطينيين فأجابه شارون سيتولى المسيحيون أمرهم. وبعد هذا الاجتماع بأيام ذهب شارون إلى واشنطن وشرح لوزير الخارجية الكسندر هيغ أهدافه الحربية الموسعة، وأن على ادارة ريغان أن تتهيأ لهذه العملية..
ويكمل أنزيسكا في الوثيقة التي يتضمنها كتابه، كيف أن هيغ أعطى الضوء الاخضر الاميركي لشارون لاجتياح لبنان عام 1982 عندما قال له: يجب ان يكون هناك استفزاز يسهل تلمسه. آمل أن تدركوا الحاجة إلى استفزاز ليكون هناك تفهم على الصعيد الدولي.. فكانت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو أرغوف يوم 3 حزيران/يونيو 1982، وما تلاها من اجتياح. يقول انزيسكا إن محاولة اغتيال شلومو أرغوف كانت بمثابة الاستفزاز الملموس على الصعيد الدولي.
إذاً، هم كانوا يعلمون وبشهاداتهم.
***
أخذت على عاتقي مهمة تسجيل المقابلات مع عناصر الدفاع المدني حول مشاهداتهم، وسألتهم عن أفظع الحوادث التي حصلت معهم، وكان الجواب المشترك لدى الجميع أنها مجزرة صبرا وشاتيلا
بقيت في بيروت، وقد مسّني شعور عدم الخوف من الموت وأنا اشاهد الدبابات الاسرائيلية تدخل العاصمة بيروت. قبلت تحدي نفسي، للقيام بواجبي المهني والوطني والانساني والقومي والاخلاقي والديني من أجل فلسطين.
حصل الذي حصل، وتراكمت المفاجآت سريعاً، لتتوج تلك المرحلة العصيبة بمجزرة ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي وعملائه من ميليشيا القوات اللبنانية وحزب الكتائب في مخيمي صبرا وشاتيلا وعلى مدى أيام ثلاثة بدأت من ليل 15 أيلول/سبتمبر إلى 18 منه. شكّلت المجزرة بكل تفاصيلها الوحشية خاتمة لمرحلة من الانهيار، وفاصلاً جديداً بين ضمير متروك وضمير مأزوم وضمائر ما تزال جينات العدالة في تكوينها نائمة.
بعد أقل من شهر، استدعتني المؤرخة الفلسطينية الدكتورة بيان نويهض الحوت وشرحت لي نيتها توثيق ما جرى في صبرا وشاتيلا. طلبت مني تسجيل مقابلات مع عناصر فرق الدفاع المدني اللبناني الذين أشرفوا على تعداد ما أمكن من الجثث المقطعة الأوصال، وفي تهيئة المقابر الجماعية لدفنهم. وقتذاك؛ وبعد وصول أمين الجميل إلى سدة الرئاسة في لبنان، تمّ إعلان حالة الطوارئ وفرض الرقابة على الصحف المكتوبة ووسائل الاعلام المسموع، لأن المرئي لم يكن منتشراً بعد، وكانت القناة المرئية الوحيدة تابعة للدولة اللبنانية (تلفزيون لبنان).. وقد حال قانون الطوارئ دون مجرد ذكر عبارة مجزرة صبرا وشاتيلا في كل الصحافة اللبنانية.
وبالرغم من كل هذه الأجواء المتوترة فإنني أخذت على عاتقي مهمة تسجيل المقابلات مع عناصر الدفاع المدني حول مشاهداتهم، وسألتهم عن أفظع الحوادث التي حصلت معهم، وكان الجواب المشترك لدى الجميع أنها مجزرة صبرا وشاتيلا.
شهادات هؤلاء العناصر أوردتها المؤرخة بيان نويهض الحوت في كتابها ـ المرجع عن هذه المجزرة وعنوانه “صبرا وشاتيلا ـ أيلول (سبتمبر) 1982” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (802 صفحة) وباللغتين العربية والانكليزية.
كي لا ننسى مجزرة صبرا وشاتيلا، وكي لا نقع في أفخاخ التطمينات الكاذبة وكي لا يتكرر مسلسل الضحايا مجدداً، لنُحصن الساحة الفلسطينية في الداخل وكذلك مجتمع الشتات حتى يبقى متمسكاً بحق العودة.
(*) من نص ألقته الزميلة منى سكرية في ندوة نظمها مركز العودة الفلسطيني – لندن، لمناسبة مرور أربعين عاماً على مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا.