في ماهيّة الاسلام: مفهوم التقيّة عند أهل السنة (5)

هناك معتقد شائع أنّ التقية مفهومٌ شيعيٌ يرفضه أهل السنّة. للتوضيح، نتحدث هنا عن التقية بمعنى أن يتصرّف شخص ما بعكس ما يعتقد أو يقول أموراً لا يؤمن بها وذلك نتيجة خوف أو مداراة لنفسه وممتلكاته وأخوانه من بطش عدو ما. بمعنى آخر، نتحدّث عن تقية مرتبطة بالبشر، لا عن تقوى هي مزيج من العبادة والخوف من الله.

من أهمّ الأمثلة على استخدام أهل السنّة للتقيّة هي الفتوى التي أصدرها في سنة 1504 الفقيه المالكي ابن أبي جمعة الوهراني (ت. 1510) لمسلمي الأندلس (وهم بأكثريتهم العظمى من أهل السنة) الذين بدأوا يتعرضون في تلك الفترة لاضطهاد ديني كبير من قبل ما يعرف بـ”محاكم التفتيش” التي انتشرت هناك لإجبار المسلمين واليهود على اعتناق الدين المسيحي. يقول الوهراني في فتواه:

“وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله.. وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرّم.. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم.. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا اشتموا محمداً فإنهم يقولون له مُمَدْ، فاشتموا مُمَداً، ناوين أنه الشيطان، أو مُمَد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم.. وأنا أسأل الله أن يديل الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله، من غير محنة ولا وجلة”.

الوهراني: إن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله

إن مضمون فتوى الوهراني، من وجهة نظر العديد من المجتهدين، أنه من أجل حفظ النفس، يمكن للمسلمين أن يتقبّلوا الأمور التي أكرههم عليها المسيحيون (أو غيرهم)، مثل السجود للأيقونات وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وسبّ النبي والقول بأنّ المسيح ابن الله.. الخ، وهي أمور محرّمة في الشرع الاسلامي. كلّ ما عليهم فعله، برأي الوهراني، هو أن يعتقدوا في قلبهم عكس ما أجبروا على قوله أو فعله.

يمكن للبعض أن يعتقد أن هذه الفتوى هي حالة شاذة في الفكر الديني السنّي، لا يجب الأخذ بها كدليل على استخدام شائع لمفهوم التقية عند أهل السنة. لكن هذا ليس بصحيح إطلاقاً، إذ نجد أمثلة كثيرة عن ممارسة أهل السنّة للتقية. مثلاً ما يذكره القاضي عبد الجبار (ت. 1025)، وهو من عظماء مفكّري المعتزلة وكان شافعي المذهب، أنّ بعض المسلمين الذين أخذهم البيزنطيون رهائن إلى القسطنطينية “أظهروا النصرانية تقيّةً”، وهو أمر إعتبره القاضي عبد الجبار مباحاً في الشرع.

وهناك أيضاً الكثير من الأمثلة التي تؤكّد أنّ معظم علماء المذاهب السنية تحدّثوا عن التقية والحاجة اليها وما يمكن للمسلم فعله في ظرف معيّن أو حالة معينة تُصبح فيه التقيّة بمثابة أمر ضروري بل إجباري. مثلاً، ماذا يقول الإمام الثعلبي (ت. 1035) في معرض تفسيره للآية 28 من سورة آل عمران التي تنص على الآتي “لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس مِن اللّه في شيء إلا أن تتقوا منهم تُقاة وَيحذّركم اللّه نفسه وإلى اللّه المصير”. يقول الثعلبي:

“اتفق الفقهاء على أن المُكرَه على الكفر ـ وعلى شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات ـ بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له”.

بمعنى آخر، يحق للمسلم، إذا ضُرب ضرباً شديداً أو هُدّدَ بالتعذيب وخاف على نفسه من الموت أن يشتم النبي ويتظاهر بترك العبادات ويرتكب الشبهات. ويقول الزمخشري (ت. 1144) في “الكشّاف” مثل ذلك، أن الله رخص للمسلمين في موالاة أعدائهم “إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء”. أي، برأي الزمخشري، أباح الله للمسلمين إذا خافوا من أعداء لهم أن يوالوهم ويعاشروهم ظاهراً، لا قلباً.

ويقول الإمام فخر الدين الرازي (ت. 1210):

“ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس”.

بمعنى آخر، ليس هناك من حصرية لممارسة التقية في وجه عدوّ يجبر المسلمين على ممارسة أو قول أمور تخالف شرعهم، بل تنطبق أيضاً إذا اضطهد المسلمون بعضهم البعض.

يعطي الغزالي أيضاً أمثلة كثيرة عن الضرورة التي تبيح الكذب منها أنّ “عصمة دم المسلم واجبة فمهما كان في الصدق سفك دم أمرىء مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب”، أي يصبح الكذب واجباً إذا تطلب الأمر أن يكذب المرء من أجل انقاذ حياة أخيه المسلم

وفي تفسيره للآية 106 من سورة النحل القائلة: “من كفر باللّه من بعد إيمانه، إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم”؛ يشرح الإمام البيضاوي (ت. 1319) أنّ هذا “دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه”.

إقرأ على موقع 180  البطولة بين الخطورة.. والضرورة

حتّى الإمام الغزالي (ت. 1111) يقول في كتابه “الأربعين في أصول الدين”: “اعلم أنّ الكذب حرام في كلّ شيء إلاّ الضرورة،” ويضيف: “نعم إنّما يُرخّص في الكذب إذا كان الصدق يُفضي إلى محذور آخر أشدّ من الكذب، فيباح كما تباح الميتة إذا أدى تركها إلى محذور أشدّ من أكلها، وهو فوات الروح”.

وفي كتابه “إحياء علوم الدين”، يعطي الغزالي أيضاً أمثلة كثيرة عن الضرورة التي تبيح الكذب منها أنّ “عصمة دم المسلم واجبة فمهما كان في الصدق سفك دم أمرىء مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب”، أي يصبح الكذب واجباً إذا تطلب الأمر أن يكذب المرء من أجل انقاذ حياة أخيه المسلم.

وكما نرى، ناقش الفقهاء السنّة مفهوم التقية تحت عناوين كثيرة، منها “التقية” و”الكذب” و”الإكراه”، وأيضاً تحت مفهوم “التورية” أو “الإعراض” والذي يعني قول كلام يحتمل معاني كثيرة من أجل إقناع عدو ما بأنّ القائل انصاع لما أراده.

ويستشهد الفقهاء السنة بالحديث النبوي أيضاً لتبرير إباحة التقية. مثلاً هناك قصّة اثنين من صحابة النبيّ قبض عليهما مسيلمة الكذّاب وسأل كلّاً منهما: “أتشهد أنّي رسول الله” فقال الصحابي الأول: نعم، فأطلقه مسيلمة، وأجاب الثاني: لا، فتم قتله. عندما وصل الخبر إلى النبي محمد، قال: “أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله، فهنيئاً له. وأمّا الآخر فقَبِل رخصة الله فلا تبعة عليه”. (أخرجه ابن أبي شيبة). بمعنى آخر، أجاز النبي التقية من أجل حفظ النفس من القتل أو التعذيب (وهو أمر يتكرّر في أحاديث كثيرة).

الفارق الكبير في مفهوم التقية بين أهل السنة والشيعة الاثني عشرية هو أنّ التقية عند الشيعة الاثني عشرية هي من أصول الدين كما نجد، مثلاً، عند العلامة ابن بابويه (ت. 991) في “كتاب الاعتقاد”: “اعتقادنا في التقيّة أنّها واجبة، من تركها كان بمنزلة تارك الصلاة”. ويضيف ابن بابويه: “والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم عليه السلام، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله ودين الأئمّة، وخالف الله ورسوله والأئمّة عليهم السلام”.

تجدر الاشارة إلى أنّ نبذ فكرة التقية كان رأي مرفوض عند المذاهب السنيّة (إلاّ من باب النقض على أتباع المذهب الشيعي)، لذلك نجدهم دائماً يردّون ما نُسب إلى مجاهد بن جبر (ت. 722) أنّه حرّم التقية قائلاً: “كان (مفهوم التقية) ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا”، وهو رأي رفضه الإمام الرازي مثلاً قائلاً: “دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان”.

وبالنسبة للضوابط في ممارسة التقية، تحدّث بعض العلماء المسلمين عن ذلك ايضاً. فمثلاً يقول الشيخ الطوسي (ت. 1067) أنّ ممارسة التقية عند الشيعة الاثني عشرية لا تجيز قتل المسلم لأخيه، ويضيف الشيخ المفيد (ت. 1022) أنّ استخدام التقية من أجل إفساد الدين غير جائز. كذلك الأمر عند كثير من فقهاء أهل السنة، فهم لا يسمحون لمن يمارس التقية بالقيام بـ”ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز البتة”، كما يقول الإمام الرازي.

العبرة من هذا البحث أنّ مفهوم التقية موجود عند كلّ المسلمين (سنّة كانوا أم شيعة اثني عشرية) ومارسوه في كلّ زمن تطلّبت الحاجة إليه، وهذا إن دلّ على شيء فهو أنّ العلماء بسوادهم الأعظم كان همّهم الأكبر إيجاد حلول لمشاكل المسلمين لا تعقيدها أو الوقوف حائل بينهم وبين مصالحهم الحيويّة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  لأنه الميلاد، لأنه أيقونة فلسطين، لأنه الشرق الحزين