يستحضِر فلاديمير بوتين في خطابه الأخير “اللوغوس” و”الباتوس” و”الإيتوس”، أو بكلام تبسيطي العقل والعاطفة وبناء الهوية الذاتية أمام من يتوجه إليهم، في خطابه المنتمي إلى الحقل السياسي. العقل لإقناع المتلقي على المستوى الدولي، والعاطفة والذاتية لتحفيز شعبه الروسي.
في المضمون، هناك قطبان متواجهان، وخطان متوازيان لا يلتقيان، روسيا والغرب بقيادة أميركية. صورتان لقطبين متناقضين، على المستويات السياسية والإستراتيجية والإقتصادية والثقافية – القيمية.
في أدوات العقل والإقناع، متوجهاً إلى الغرب كما إلى القوى الحليفة والصديقة، فإن حلف الناتو “أخلَّ” بوعده عدم التوسع شرقاً، والغرب يسعى إلى “السيطرة” و”الهيمنة”. هذه السيطرة يواجهها بوتين في الخطاب بإشراك قوى ودول أخرى مع تقديم صورة ضمنية هي روسيا كبلد يسعى للتعاون والشراكة، على عكس الولايات المتحدة والغرب، فهي “جاهزة لحل أزمات الطاقة والغذاء”.
ومن ضمن هذا التعاون والمساحات المشتركة مع قوى أخرى، هناك “محاولات احتواء لروسيا والصين وإيران”، وهناك دول “تالية”. هنا يُترجَم مصطلح “التعددية القطبية” بأن “العالم دخل مرحلة التحولات الجذرية”، فالنظام الدولي الذي تقوده أميركا والغرب “فاشل”. كما أن تهديد أوروبا بأن أميركا لن تستطيع “تدفئتها بأموال إفتراضية” ولا إطعام الناس “بالدولارات الورقية”، يدخل في إطار المحاججة العقلانية ذات البعد المصلحي.
الأبعاد العاطفية
بالنسبة للغة بوتين العاطفية وصورة الذات الروسية، هناك صورتان متناقضتان، مُدافع يتعرض للمظلومية هو روسيا والأقاليم التي ضَمتها، و”معتدٍ” هو “الغرب”، فأبناء الأقاليم الأربعة هم “ضحايا”، يتعرضون “للقصف والتهديد” منذ العام 2014. وروسيا هي جاهزة “للدفاع”، في مقابل غربٍ هجومي تنعكس نواياه في أفعاله.
في المقابل، هذا الغرب هو “المعتدي”، فهو يحاول “إضعاف روسيا وتقسيمها – و”نهبها”- وتأليب الشعوب على بعضها” منذ ثلاثة عقود من الزمن، كما أنه يُكنّ “الكراهية” للروس، وهو “قذِر”، كونه أخل بوعوده إزاء عدم توسيع الناتو.
ومن ضمن الحقل العاطفي الذي يخاطب مخيال الشعب الروسي، يُستحضر “التاريخ العريق” لروسيا “التاريخية” و”العظيمة”، والذي يعود لـ”1000 عام”، كتحفيز لوطنيتها. في اللامُقال في خطابه، أنَّ أميركا تاريخها “حديث”. أقل من 300 عام! بالتالي، تصبح المعركة ذات أبعاد ثقافية ـ تاريخية، متماهياً بين ذاته كرئيس والروس، فهذه حرب “من أجل شعبنا” و”الهدف الأساسي للغرب هو فكرنا وفلسفتنا”، من دون أن يزرع أوهام العودة إلى الإتحاد السوفياتي القديم، قائلاً “لا عودة إلى الوراء”.
وكون الذاكرة الروسية الجماعية حافلة بآثار الغزو الآتي من الغرب، من نابوليون بونابرت إلى هتلر وصولاً إلى توسع حلف شمال الأطلسي، يُقدّم بوتين ذاته كضمانة أكيدة لشعبه، بأن “الماضي لن يتكرر”. هي صورة ذاتية يقدمها كرجل “شجاع” صانع لانتصار وليس للهزائم ورافض للإهانة بحق القومية الروسية. وهذه الذاتية من خلال “الأنا” المعظمة تضعه في موقع الملوح للقادة الأوكران، “أريد أن تسمعني سلطات كييف”، وحكامها يبدون كـ”خاضعين” عندما يضيف “وأسيادهم ومشغلوهم في الغرب”.
يُكرر زعيم روسيا استعمال أداة فعالة في خطابه خاصة تجاه شعبه المفعم بالنفحة الروحية – كما تبرزه كتابات الأدباء الروس – هي أداة البعد الحضاري – القيمي، ويضعها أساساً للهوية الوطنية الروسية الملتصقة بالمجتمع أكثر من الفرد
الأبعاد السياسية
هو خطاب إستثنائي لا شك، لكنه أيضاً في معناه السياسي تذكيري، واستكمالي أو استطرادي لمنطق بوتين ورؤيته لروسيا ماضياً وحاضراً، يرتكز خاصة على نقطة انطلاق هي خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007. منذ ذلك الحين، ومصطلحات التعددية القطبية والتعاون على المستوى الدولي واحترام السيادة ورفض تجاوز القانون الدولي والهيمنة الغربية، تمثل مرتكزات التصور الإستراتيجي الروسي.
ففي البعد الإستراتيجي والجيوبوليتيك، تهديد للأمن القومي الروسي من خلال توسع الناتو شرقاً، في اتجاه روسيا. سبق للمفكر ألكسندر دوغين الذي دفعَ ثمن تحديه لأميركا والغرب من دم ابنته، أن اعتبر “العامل الأوكراني يمثل النقطة الأضعف في الحزام الروسي الغربي”، وبالتالي “فإن حقيقة وجود أوكرانيا المستقلة تعد على المستوى الجيوبوليتيكي، إعلان حرب جيوبوليتيكية على روسيا (وهذه قضية ليست من صنع روسيا نفسها، بقدر ما هي من صنع الأطلسية والقوى البحرية)”. في الأساس عاد صراع الجيوبوليتيك بقوة بعد أن نعته النظريات المستولدة أميركياً وغربياً وتُوجت بالحديث عن “نهاية التاريخ” لمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات والجيو – اقتصاد”.
وفي مجال العلاقات الدولية، هناك “السيطرة الغربية على النظام الدولي”، ومحورية “السيادة”. يستكمل بوتين هنا نسف أساس الرؤية الأميركية التي استعملت المؤسسات الدولية منذ قصف صربيا 1999 إلى اجتياح العراق 2003 لضرب “سيادة الدول ووحدتها”، فالدولة الوطنية أو القومية بصيغتها منذ معاهدة وستفاليا التي أنهت الحروب الدينية في أوروبا، هي نقيض البعد السياسي للعولمة الأميركية.
يُكرر زعيم روسيا استعمال أداة فعالة في خطابه خاصة تجاه شعبه المفعم بالنفحة الروحية – كما تبرزه كتابات الأدباء الروس – هي أداة البعد الحضاري – القيمي، ويضعها أساساً للهوية الوطنية الروسية الملتصقة بالمجتمع أكثر من الفرد. لا بل ان روسيا هنا نموذج عالمي مضاد لحضارة الغرب “الليبرالية المتطرفة”، يتمسك بقيم “الأخلاق والعائلة ورفض السلوكيات الشاذة”.
الأبعاد الإعلامية
البعد الإعلامي يأتي من خلال إشارة بوتين إلى “الدعاية الغربية”، بوصفها أداة أساسية في حروب العصر التي تسمى بحروب الجيل الخامس. استهدفها في خطابه في إطار ضرب صدقيتها. فعلى الرغم من استعمال روسيا الدعاية السياسية والهجمات السيبرانية بكثافة من انتخابات أوروبا إلى الإنتخابات الأميركية، فإن الدعاية الأوروبية والأميركية في حرب أوكرانيا أظهرت البعد الإلغائي ضد الثقافة الروسية بحد ذاتها، ومثّلت ذروة استعمال الإعلام في الصراع، من قبل دول “ليبرالية” تدعي الحرص على “حرية” الإعلام والمساواة بين الشعوب.
في الخلاصة، لو دقّقنا بالظروف التي رافقت خطاب فلاديمير بوتين، نجد أن روسيا التي يُراد لها في العقل الأميركي ـ الغربي أن تتفتت وتنهار وتزداد ضُعفاً، خرجت أكثر إتساعاً بالجغرافيا وأكثر صموداً بالإقتصاد وأكثر تباهياً بهويتها الوطنية، لكن تبقى العبرة في الميدان. هناك يُكرّم المرء أو يُهان.