منذ يوليو/تموز من العام الماضى وعلى مدى ١٤ شهرا، نشرت أربعين مقالا فى نحو ٥٠ ألف كلمة عن الكيفية التى تطورت بها السياسات العالمية منذ تشكيل الأحلاف الكبرى مع مطلع القرن الماضى مرورا بالحربين العالميتين الأولى والثانية ثم الحرب الباردة، وأخيراً تسويات مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وحتى أحداث الحادى عشر من سبتمبر/أيلول ٢٠٠١.
وكما شرحت فى مقالتى الأولى فى هذه السلسلة، لم يكن الغرض هو تقديم رصد تاريخى شامل لكل أحداث السياسة الدولية على مدى قرن كامل من الزمان، ولكن كان الهدف بالأساس هو رصد أهم سمات السياسة الدولية فى هذه الفترة عن طريق التركيز على أهم الأحداث السياسية المفصلية التى شكلت العالم الذى نعيش فيه الآن.
وعبر هذه المقالات يمكننى أن أشارك القارئ والقارئة الأعزاء والعزيزات رصد ستة عشر ملمحا رئيسيا للسياسة الدولية على مدى سنوات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادى والعشرين، نتناول بعض هذه الملامح فى هذا المقال ثم نختم بقية الملامح فى مقال الأسبوع القادم.
***
مواضيع كحقوق الإنسان وحقوق امتلاك الدول للأسلحة النووية أو غير التقليدية بشكل عام، أو محاسبة مجرمى الحرب، أو التدخل العسكرى بقيت كلها تطبق بحسب ما يعنى للساسة المتحكمين فى السياسة الدولية، بحيث أصبحت هذه المفاهيم والقضايا مجرد أدوات فى أيدي الدول الكبرى لتطويع الدول الأقل قوة وإدخالها الحظيرة الدولية أو معاقبتها على مروقها
يتمثل الملمح الأول فى دفع البشر للثمن الأكبر لكل القرارات السياسية التى تم اتخاذها ــ أو لم يتم اتخاذها ــ على مدى سنوات القرن العشرين، فما بين ملايين البشر المدنيين المسالمين الذين قضوا نحبهم فى الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بينهما، وملايين آخرين قضوا نحبهم فى حروب تم خوضها بالوكالة خلال فترة الحرب الباردة، ومئات الآلاف الآخرين الذين فقدوا حياتهم بسبب المجاعات أو الأمراض القاتلة أو خلال الحروب الأهلية أو بسبب سياسات الإفقار المتعمدة أو حتى خلال مكافحة الاستعمار والاحتلال، كانت أرواح البشر هى الثمن الأرخص لقرارات السياسة الدولية ومقامراتها فى تلك الفترة!
أما الملمح الثانى فقد تمثل ـ وما زال ــ فى ضعف التنظيمات الدولية والقانون الدولى! فعلى الرغم من أن التطور الأبرز للسياسة الدولية خلال سنوات القرن العشرين هى ولادة أول التنظيمات الدولية (عصبة الأمم) ثم الأمم المتحدة، وولادة القوانين الدولية التى ادعت الإلزامية لكل دول العالم على السواء، إلا أن واقع التطبيق قد شهد الكثير من القصور فى فعالية دور المنظمات الدولية وخاصة فى مسألة حفظ الأمن والسلم الدوليين أو بخصوص تطبيق القانون الدولى على الدول والفاعلين الدوليين المخالفين للقواعد والمواثيق الأممية والمعاهدات الدولية! فعدد كبير من هذه المعاهدات والقوانين إما تم تطبيقه بشكل جزئى أو شهد إغفال تطبيقه على الإطلاق أو شهد تطبيقه بشكل انتقائى على باقى دول العالم.
من هنا يأتى الملمح الثالث والمرتبط بالملمح الثانى ألا وهو ازدواجية المعايير فى العلاقات الدولية! فقد شهد النصف الثانى من القرن العشرين التطبيق الانتقائى للقواعد الدولية، بحيث إن هذه الأخيرة لم تطبق على القوى الكبرى، بل ولم تطبق أيضا على حلفائها، ولكن اقتصر التطبيق على الدول الضعيفة أو غير المرتبطة بأحد الأحلاف الكبرى! على سبيل المثال، فإن مواضيع كحقوق الإنسان وحقوق امتلاك الدول للأسلحة النووية أو غير التقليدية بشكل عام، أو محاسبة مجرمى الحرب، أو التدخل العسكرى بقيت كلها تطبق بحسب ما يعنى للساسة المتحكمين فى السياسة الدولية، بحيث أصبحت هذه المفاهيم والقضايا مجرد أدوات فى أيدي الدول الكبرى لتطويع الدول الأقل قوة وإدخالها الحظيرة الدولية أو معاقبتها على مروقها وعدم تجاوبها مع قواعدها الخاصة، وهو الملمح المستمر حتى اللحظة!
فيما يتمثل الملمح الرابع للسياسة الدولية فى تصاعد دور الفاعلين من غير الدول خلال سنوات القرن العشرين، فبعد أن كانت السياسة الدولية قاصرة على دور الدول القومية، فإن العقود الأخيرة قد شهدت ازدياد الأدوار الدولية لعديد الفاعلين سواء الذين يأتون فى مرتبة أعلى من الدولة القومية (كالمنظمات الدولية والإقليمية)، أو الذين يأتون فى مستوى أقل مثل المنظمات الحكومية والشركات الدولية! فبالإضافة لتصاعد دور منظمات مثل الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسى (الناتو)، أو منظمات دولية اقتصادية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى أو منظمة التجارة العالمية، فإن منظمات مثل الصليب الدولى وأطباء بلا حدود وبعض المنظمات الحقوقية الأخرى مثل «فريدوم هاوس»، أو حتى بعض الحركات الاجتماعية غير الرسمية أو الأحزاب السياسية (كأحزاب الخضر) أصبحت تؤثر على مسار العلاقات الدولية وبعضها تجاوز نفوذه وقدراته المادية أو السياسية العديد من الدول القومية بل وبعض المنظمات الدولية أو الإقليمية!
***
مع نهاية الحرب العالمية الثانية فإن أدوات أخرى مثل الأفكار والأيديولوجيات والفن والثقافة وصناعة السينما وكرة القدم، فضلا عن الأفكار والمذاهب والأماكن الدينية المقدسة، أصبحت من أهم الأدوات التى تستخدمها الدول كبيرها وصغيرها لزيادة نفوذها الإقليمى والدولى!
أما الملمح الخامس فهو أن السياسة الدولية لم تعد فقط قاصرة على المفاهيم السياسية أو العسكرية، بل إن مواضيعها أصبحت من التشعب بحيث لا يمكن حصرها بسهولة! فبالإضافة للأمن والسياسة، فإن القضايا الصحية والبيئية وقضايا التنمية البشرية والاقتصادية، فضلا عن قضايا أخرى مثل التعليم أو الثقافة، وقضايا المرأة والطفل، بل وقضايا أخرى أكثر جدلية مثل الحريات الجنسية أو حقوق المثليين والمثليات أصبحت فى صدر اهتمامات الأجندات الدولية للدول سواء فى علاقاتها الثنائية أو فى أجندتها المطروحة على المنظمات الدولية والإقليمية والمنتديات العالمية والجهات المانحة، وهو أمر أصبح يُسبب الكثير من الحساسيات الثقافية والسياسية ليس فقط بين دول العالم، ولكن حتى داخل هذه الدول نفسها!
يتعلق الملمح السادس الذى رصدته مقالات هذه السلسلة فى تأثير القوى الناعمة المتزايد على السياسة الدولية! فالأخيرة قبل القرن العشرين، بل وخلال النصف الأول من القرن العشرين كانت تتأثر بالأساس بالأدوات المادية، حيث كانت الأدوات الاقتصادية والعسكرية هى بالأساس أدوات صنع السياسة الخارجية لمعظم دول العالم خلال تلك الفترة، ولكن ومع نهاية الحرب العالمية الثانية فإن أدوات أخرى مثل الأفكار والأيديولوجيات والفن والثقافة وصناعة السينما وكرة القدم، فضلا عن الأفكار والمذاهب والأماكن الدينية المقدسة، أصبحت من أهم الأدوات التى تستخدمها الدول كبيرها وصغيرها لزيادة نفوذها الإقليمى والدولى!
ويتعلق الملمح السابع والأخير الذى نتناوله فى هذه المقالة فى تعدد وتطور صور الاستعمار كأحد قضايا وأدوات التأثير والنفوذ! فالاستعمار فى صورته التقليدية كان العنوان الأبرز للسياسة الدولية منذ الثورة الصناعية فى أوروبا وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية! ورغم انحصار ظاهرة الاستعمار بشكل كبير فى السبعين سنة الأخيرة، إلا أن أوجها بديلة للاستعمار ما زالت تستخدم حتى اليوم لربط المستعمرات بالقوى الاستعمارية القديمة، ولكن فى ثوب جديد! وهنا يرصد باحثو وباحثات العلاقات الدولية أوجها متعددة للاستعمار البديل، كالقروض الدولية أو تسييس استخدام الديون المستحقة على الدول، أو التدخلات العسكرية أو السياسية غير المباشرة فى شئون الدول، أو السيطرة الثقافية والاقتصادية والسياسية على النخب السياسية الحاكمة فى الدول الأقل قوة. (نكمل باقى ملامح السياسة الدولية فى مقال الأسبوع القادم).
(*) بالتزامن مع “الشروق“