إنها الحرب.. “غُرم” الجغرافيا و”غُنُم” التاريخ

تلجأ الدول ذات المكانة العسكرية والاقتصادية في حالة الحروب إلى شيطنة خصومها لزوم التعبئة النفسية وصناعة وعي متطرف يبرر قتل الخصوم وتدمير ممتلكاتهم بلا هوادة، والأهم هو توحيد كراهية مواطنيها وتوجيهها باتجاه واحد، فالكراهية ـ كما ذهب أنطون تشيخوف ـ أكثر قدرة من الحب على جمع الحشود.

شكّلت الحرب قضية تاريخية بكل أشكالها، فاهتم بها المؤرخون لما تختزنه من حركة مكثقة للنوع البشري، تعكس انفعالاته وقوته وضعفه، وتناولها بعض الفلاسفة كـ”توماس هوبز” باعتبارها انعكاسا للطبيعة التي هي في حالة حرب دائمة، أما “جورج هيجل” فقد وجدها ضرورية ومنطقية لأنها شكل بارز للتناقض المحرك لعجلة الحضارة الإنسانية، وتجلٍ لخبث العقل الفعّال في تحريك أدوات الصراع من أبطال وضحايا، كلّ ذلك جعل الحرب في مرتبة الضرورة الإنسانية والتي تظهر على الدوام في شكل تحديات تستدعي استجابات ناجحة، تدفع بالدول والشعوب إلى الأمام، أو استجابات فاشلة تخرجهم من التاريخ..
لو طبقنا تلك الفلسفة على الواقع العربي والإسلامي المعاصر، سنجد أن الحروب كانت على الدوام جزءاً أساسياً من التحولات الكبرى في منطقتنا، وبدل أن نُحسن الاستجابة الناجحة لتداعياتها، كنا عرضة لويلاتها، ندفع فيها “الغُرم” من دون تحصيل “الغُنم”، وهكذا رغم كل تلك الحروب لم نخرج من ريقة التبعية والضعف والجهل التي نعيش فيها منذ سقوط بغداد على أيدي المغول عام ١٢٥٨.
فالحرب العالمية الأولى اندلعت عام ١٩١٤ وكانت بلادنا العربية تعيش في كنف السلطنة العثمانية الهرمة التي تآكلتها في ذلك الحين المؤامرات الداخلية والخارجية وتعاظمت في أرجائها الامتيازات الأجنبية وسقطت من يديها دول في شرقها وغربها وجنوبها، فسرق الفرنسيون الجزائر باكراً ١٨٣٠، ثم تجاسرت دول البلقان الأرثوذكسية بثورات متتابعة ارخت قبضة الذئب العثماني عن عنقها لتعود إلى حكايتها الأولى حيث لا صوت يعلو فوق صوت القوميات وبَركة الكنيسة.

طيلة قرن إنطوى، لم نستطع توفير أدوات النهضة اللازمة، ولا حققنا شروطها المطلوبة بل ما زلنا في دائرة الأماني. لا نملك من مواطن القوة الاقتصادية شيئاً، فثرواتنا الطبيعية مسروقة ومرتهنة وبعضها معطّل، وقرارنا السياسي مخصيّ وأولو الأمر أشبه بالنواطير النائمة

وماذا عن مصر؟ بعد تبعية مترنحة في أوائل القرن التاسع عشر مع حكم محمد علي، ارتمت بالكامل تحت مسمى “الحماية الانكليزية” والتي كانت تجميلاً لاستعمار بشع دنيء، وبدل أن ينبض قلب إسطنبول بدقات التطور والأخذ بأسباب القوة، كان يهوي من الداخل بفعل مؤامرات الاتحاديين القومية ودموية السلطان الاحمر.

هكذا زارتنا الحرب العالمية الأولى، ونحن في لبنان – كبقية عالمنا العربي – وجدنا أنفسنا “مشلعين” سياسياً بين أرض “الولاية” وجنّة “المتصرفية”، ومكشوفين اقتصادياً لا نملك بالكاد قوت يومنا، وأجدادنا عالقين بين ثلاثي الموت: المجاعة والأمراض والتجنيد الاجباري.. وأما الوعي السياسي فكان ترفا لنخب موزعة بين المحورين، زادها ألقاً دخول الشريف حسين بثورته العربية إلى جانب الإنكليز، ما زاد من لهيب الحماسة عند الجموع العربية التي كانت في غالبيتها معدمة، فقٍسم من أجدادنا العرب أكلهم وحش التجنيد الاجباري، وقلة منهم عادوا بحكايات مؤلمة، ومن تبقى أخذهم حلم الاستقلال العربي وقاتلوا في سبيل مملكة عربية، وما إن استفاقوا وجدوا أنفسهم مخدوعين وعالقين بين سايس بيكو ١٩١٦ وبلفور ١٩١٧ ومؤتمر سان ريمو ١٩٢٠، الأول استبدل احتلالاً باحتلال والثاني احل شعب مكان شعب، والثالث أطاح بالحلم العربي وقيادته الهاشمية التي تأرجحت بين خوف من فقدان نفوذها وبين مسايرتها للحلفاء- الخصوم، فسقط من يدها الحجاز ودمشق وانتهى الأمر بمليكها الحسين منفياً في قبرص، قبل أن يموت معزولا عام ١٩٣١، مسجلا واحدة من أقسى التجارب والعبر لمن “يتفكّر”، واما أبناؤه فاستحالوا بيادق في يد الإنكليز على غرار كلٌ الحكام “المتمرنين” في البلاد العربية.

عقدان من الزمن فصلا بين ميسلون في صيف ١٩٢٠ وبين طائرات الجنرال ” كاترو” التي رمتنا بوعود الاستقلال عام ١٩٤١، ونحن في ذلك الزمن نتقن فنّ التصديق وترف التجربة المتجددة، نراقب حرب الآخرين على أرضنا، ونتوزع بين الفريقين المتنازعين تأييداً وتنديداً، ولكل منا حجته وحلمه، فكان أن ربحنا أوطاناً مع وقف التنفيذ ولم نذق طعم المواطنة النبيلة والعادلة.

انتصرت فرنسا وبريطانيا في الحرب ولكن الغنيمة كانت للولايات المتحدة الأميركية التي ورثت النفوذ والتأثير بالتدرج بين ١٩٤٥- ١٩٥٦، فلم تكد شمس الاستقلال تشرق من النيل الى الليطاني حتى تلبدت سماؤنا بنكبة ١٩٤٨ وولادة الكيان المصطنع ودخولنا منذ ذلك الوقت في حروب إتخذت طابعاً رسمياً فولكلورياً في فلسطين وسوريا ولبنان، كانت الهزيمة فيها مرسومة سلفاً، ونحن في تيه مثلث الاضلاع: بطء في ردم الهوة الحضارية، وإنتشار بين “وارسو” و”الناتو”، والحَبوْ بدل العَدوْ في استئصال وكلاء الدول الكبرى من حكامنا، فكانت النتيجة أن خرجنا “بخفي حنين” فلا الاحتلال زال ولا تبعية حكامنا من قَرنِهم إلى أقدامهم ضَعُفت، ولا عرفنا تنمية لبشر أو حجر، وحتى التجربة الناصرية استحالت حنيناً بعد أن خذلها الإخوة والأبناء، ولولا بقية من “معتمري الكوفية” و”حملة المنجل” و”مجانين التراث”، ظهروا على حين غرّة، انتزعوا غزَّة من فمِ الصهاينة وأعادوا جنوب لبنان الى شتلة التبغ، ووقفوا في حارات دمشق إلى جانب أهلها يحافظون على ما تبقى من ياسمين، لكنا أثرا بعد عين على تخوم “معركة اوكرانيا” والتحولات الكبرى المرتقبة بعد نهاية الخُمس الأول من القرن الواحد والعشرين.

إقرأ على موقع 180  ما هي مُحدّدات موقف المقاومة اللبنانية من احتمال توسع معركة غزة؟

طيلة قرن إنطوى، لم نستطع توفير أدوات النهضة اللازمة، ولا حققنا شروطها المطلوبة بل ما زلنا في دائرة الأماني. لا نملك من مواطن القوة الاقتصادية شيئاً، فثرواتنا الطبيعية مسروقة ومرتهنة وبعضها معطّل، وقرارنا السياسي مخصيّ وأولو الأمر أشبه بالنواطير النائمة، والشعوب العربية تغضب وتغضب وتجرب المجرّب، وما “الربيع العربي” سوى عينة لتجربة عقيمة جعلتنا نترحم على مَن وما سَبق، ولأعطيكم مثلاً آخر على تقهقر التاريخ وفلسفاته على مسافة الزمن العربي، تأملوا في الصراع المركزي بيننا كعرب وبين الكيان الإسرائيلي، فهو استحال بجرّة قلم إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي، ثم استحال صراعا بين حماس وإسرائيل في فلسطين وحزب الله وإسرائيل في لبنان، وبدل أن يطوق عرب “الطوق” إسرائيل، طوقتهم بالتكفيريين من جهة وبالتطبيع العلني مع مشيخات ودول عربية من جهة أخرى، ورمت كلّ دولة يخرج منها رصاصة مقاومة بالحصار والتجويع، وأصبح لدينا صراعات عربية في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وليبيا، فنصف العرب جائعون وربعهم مُطَبِعون والربع الآخر متهمٌ بالمقاومة.

منذ ظهور السلاح النووي كأداة حربية لم نشهد حرباً مباشرة بين دول من النادي النووي نظراً لمخاطرها، فمن يمتلك سلاحاً نووياً يمتلك ديمومة البقاء والتأثي

ونحن على أعتاب نهاية الاسبوع الثالث من معركة ” أوكرانيا”، تتآكل احتمالات توسع المعركة وتدحرجها إلى حرب كونية مدمرة كما يرجح البعض، حرصاً من روسيا ودول الناتو على الحركة ضمن توازنات القوة وانتفاء الرغبة في توسع الحرب والتدمير خارج اوكرانيا، التي ارتضى رئيسها الساذج أن تكون مسرحاً لهذه الحرب المجنونة.
فمنذ ظهور السلاح النووي كأداة حربية لم نشهد حرباً مباشرة بين دول من النادي النووي نظراً لمخاطرها، فمن يمتلك سلاحاً نووياً يمتلك ديمومة البقاء والتأثير.
وعليه نحن أمام ثلاثة مآلات تكتية بأبعاد استراتيجية:
أولاً؛ أن تنتصر روسيا في الحرب وتحقق أهدافها من خلال تحويل اوكرانيا على الأقل دولة حيادية، ما سيعزز من الحضور الروسي عالمياً ويقوي موقع الصين.
ثانياً؛ أن تُهزم روسيا وتغرق في الوحول الأوكرانية، ما يفقد الجيش الروسي هيبته ويضعف من موقع فلاديمير بوتين في الحفاظ على المكتسبات الاستراتيجية التي راكمها على مدى سنوات حكمه، أما الصين فتنال نصيبها من التأديب “على الريحة”، ما يجعلها تحسب حساباً لكل خطوة لاحقة وبالتالي كبح جماح طموحها باحتلال موقع الصدارة والتأثير في الشرق الأقصى والعالم.
ثالثاً؛ أن لا يخرج من المعركة رابح وتنتهي المعركة بشطر اوكرانيا قسمين على غرار ألمانيا في غرب أوروبا وكوريا في شرق آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، فلا مكسب لأحد بالضربة القاضية وانما تقدم بالنقاط، ما يعطي مؤشرا إلى أننا أمام حرب طويلة، ستستنزف موارد أوروبا وروسيا، وتجعل بعض الساحات الحساسة مكاناً لحلول “لعنة الجغرافيا” تدميراً وتهجيراً كما يجري الآن في أوكرانيا، إنه المخاض الذي يسبق ولادة الحروب الكبرى أو التسويات الكبرى فهل سيعزّز ذلك دور الدول الإقليمية المؤثرة في المناطق الاستراتيجية لا سيما في الشرق الأوسط؟

العالم يتغير، ونحن نعيش في مرحلة تحولات كبرى في القرن الحادي والعشرين، قد تقصر وقد تطول، ولكن الأكيد أن الولايات المتحدة الأميركية لن تبقى سيدة العالم الأولى، وأن قطار “فوكوياما” الحضاري سيضيف مقصورات جديدة تحمل ثقافات ملونة وقيماً جديدة أكثر توازناً وصدقية من تلك التي رافقتنا طيلة مائة عام من هيمنة “إمبراطورية الكذب الكبرى”.

Print Friendly, PDF & Email
طليع كمال حمدان

أستاذ جامعي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ضابط إسرائيلي: لسنا مستعدين لحرب غزة البرية ولا للحرب الإقليمية!