عاد السعوديون إلى لبنان. الأمر لا يتصل لا بإقالة أو إستقالة وزير لبناني ولا بعودة ميمونة للسفير الملكي إلى اليرزة. حتى البيان الثلاثي (السعودي ـ الفرنسي ـ الأميركي) وقبله الثنائي (الفرنسي ـ السعودي)، كان يُمكن ألا يُعيره أحد إنتباهاً لولا أنه سبق لقاء دار الفتوى الشهير.
يشي المسار الممتد منذ ما بعد الإنتخابات النيابية حتى يومنا هذا بأن السعوديين إستخلصوا العبر من تجربة إنتخابات 2022. تبدّدت رهانات فريق سعودي وازن على ما يُمثله رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في “الحسابات الوطنية” ولا بد من “تنظيف الملعب”. حسناً أن الصرف المالي الخليجي كان متواضعاً وإلا كانت الخسارة أكبر بكثير. أعطاهم جعجع الإشارات الآيلة إلى فوز لوائحه وحلفائه “في كل لبنان”. كاد يقول إن ثلثي المقاعد النيابية مضمونة في جيبه!
قبيل الإنتخابات، هُناكَ من حذّرهم في قلب الرياض: إياكم والرهان على جعجع زعيماً للمسلمين السنة في لبنان. ظنَّ البعض السعودي أن إستطلاعات الرأي أصدق إنباء من الوقائع الآتية.
وكما فعل فؤاد السنيورة محاولاً تعميم وهم “إنتصار” لوائحه أيضاً في كل لبنان، في أول تقاريره المُدبجة للمملكة، سار جعجع على درب الأوهام نفسه. ما زال الرجل يتصرف ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ على أساس أن أسامة سعد وعبد الرحمن البزري وشربل مارون مسعد صاروا أعضاء في “خلية معراب السرية”. توسل الرجل لمن بيده القرار أن يأتي إليه بنواب “المستقبل” المُغردين خارج سرب زعيمهم سعد الحريري، مكبلي الأيدي حتى يصبحوا تحت جناحيه في “كتلة الجمهورية القوية”. تبين أنها كلها أوهام بأوهام، وكانت ردة فعل السعوديين قاسية جداً: “لا وكيل أو كفيل لنا في لبنان.. بعد الآن”.
***
في خريف العام 2019، قرّر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تفعيل الخلية السعودية المعنية بالأزمة اللبنانية. رئيسها شقيقه الأمير خالد بن سلمان (وزير الدفاع مؤخراً)؛ الأعضاء هم وزير الدولة ومستشار الأمن الوطني مُساعِد العيبان، المستشار الملكي (برتبة وزير) نزار العلولا، رئيس جهاز المخابرات خالد الحميدان، رئيس جهاز أمن الدولة عبد العزيز الهويريني. عملياً هي خلية سياسية ـ أمنية، تضم مندوبين للديوان الملكي ولوزارتي الخارجية والدفاع ولجهازي المخابرات وأمن الدولة، لكن الأكثر تأثيراً في الملف اللبناني هو مُساعِد العيبان الذي ندر أن تغيب صورته عن لقاء دولي أو إقليمي يشارك فيه محمد بن سلمان، كإجتماعه برئيس الولايات المتحدة جو بايدن على هامش قمة جدة في تموز/يوليو 2022.
من الواضح أنه لا يتقدم إعتبار عند السعوديين على أولوية “بناء شبكة أمان سياسية ـ إقتصادية ـ أمنية” تُوفر إنتقالاً سلساً للسلطة من الملك إلى ولي عهده، وفي الوقت نفسه، تحمي المملكة من تداعيات الفراغ الأميركي الحتمي، وما يُمكن أن يُرافقه من “تصادم” سعودي مع “الإدارة الأوبامية” في البيت الأبيض برئاسة جو بايدن، كما نشهد حالياً، على خلفية قرار “أوبك بلاس” الأخير بخفض الإنتاج النفطي مليوني برميل يومياً خلافاً لإرادة واشنطن والأوروبيين! (للمناسبة، كان لبنان في اليومين الماضيين أسير إشتباك سعودي ـ أميركي إستوجب زيارة للبخاري إلى دارة رئيس الحكومة دعماً لقرارات “أوبك +”، فيما كانت السفيرة الأميركية دوروثي شيا بالمرصاد.. إلى أن صدر بيان رئيس الحكومة غير الشافي لغليل السعوديين!).
بالمناسبة، وعلى سيرة منظومة حماية الداخل السعودي، لم ينتبه كثيرون إلى ما جرى يوم الأربعاء في العاشر من آب/أغسطس 2022، عندما أقدم إنتحاري “داعشي” على تفجير نفسه في جدة أثناء محاولة الأمن السعودي إلقاء القبض عليه. حادثة هي الأولى من نوعها منذ خمس سنوات على الأقل، إستوجبت إجراءات أفضت إلى إلقاء القبض على “خلايا نائمة” من جنسيات متعددة، لكن الأهم التدقيق سياسياً في من هو صاحب مصلحة في تفريخ هذه “الفزاعة” للسعوديين في الآونة الأخيرة.
***
كيف يُصرف لبنان في معادلات الأمن القومي السعودي؟
بعيداً عن التذاكي اللبناني “التاريخي”، ومنذ لحظة 14 شباط/فبراير 2005، لم يعد لبنان في صلب الأولويات السعودية. مبادرات وأموال خيالية طغى عليها البعد العاطفي لا السياسي؛ الإرتجال لا التخطيط؛ بما فيها مبادرة “السين سين”. الدليل أنه مع كل مبادرة سعودية، كان يتم الإستنجاد لبنانياً بالأميركيين، فتسقط كل هيبة عبدالله بن عبد العزيز يوم كان ولياً للعهد ثم ملكاً (الإطاحة بالإتفاق الرباعي وإتفاق الرياض والـ”سين سين” بأدوات لبنانية ودائماً برعاية أميركية).
بعد وصول سلمان بن عبد العزيز إلى سدة العرش، إنفتح جرح اليمن الكبير. عندما حان موعد إستحقاق الرئاسة اللبنانية حينذاك، كان ملك السعودية مُباركاً لإنتخاب سليمان فرنجية، تماماً كما كان الحال قبل حوالي السنة من الآن. “سليمان فرنجية إبن عيلة.. وإبن العيلة ما تخاف منو لأنو ما بيغدر عادةً”. هذا كلام منسوب للملك سلمان وليس لولي العهد. وللمناسبة، فإن من قرر قطع العلاقات مع لبنان قبل سنة تقريباً هو ملك السعودية وليس ولي العهد. السبب بسيط جداً. عنوان الأزمة هو جورج قرداحي وليس أحداً غيره. الإسم بحد ذاته جعل الملك لا يتردد “إذا كان الأستاذ جورج من أهل البيت.. وغدر فينا”!
هذا الغوص في التفاصيل السعودية، يعيدنا إلى السؤال الأول: ماذا تريد المملكة من لبنان.. وللبنان؛ هل للمملكة إستراتيجية ما للتعامل مع الملف اللبناني؟
يُسارع أحد “العارفين” بالشأن الخليجي ـ وهؤلاء قلة لبنانية ـ للقول “لا إستراتيجية سعودية. قرارهم الوحيد هو التعطيل. لن يسمحوا بوصول رئيس جمهورية للفريق الآخر. شطبوا سليمان فرنجية من حساباتهم. نجيب ميقاتي شُطِبَ أيضاً كمرشح لرئاسة الحكومة. كل محاولات الأخير لإعادة فتح أبواب المملكة باءت بالفشل. إستعان بأصدقاء عرب ولا نتيجة حتى الآن”!
يُحيلُك آخر إلى ديباجة تبدأ من عند “رؤية 2020 ـ 2030” للقول إن لبنان “في صلبها وظيفةً، كما إيران دوراً وموقعاً. الأول له حصته لكن وفق معادلة تصويبية مختلفة، والثانية بحتمية التفاهم الذي لا بد منه معها خليجياً حماية للرؤية بأسرها”.
غياب الإستراتيجية السعودية لبنانياً يُحيلك إلى لعبة تجميع الأوراق على طريقة حافظ الأسد. إذا كانت الأولوية سعودياً لليمن، فلا بأس بلبنان ورقة تعطيل و”فيتو” بوجه الإيرانيين وحزب الله. تقديرات الرياض أن الأمور قابلة للتأزم يمنياً، لأسباب أميركية. إقفال مستودعات السلاح الأميركية، ولا سيما ترسانة الصواريخ بوجه السعوديين، سيُعزّز وضع الحوثيين ميدانياً في المرحلة المقبلة. تطورات المشهد العراقي، ولا سيما الإطاحة بمصطفى الكاظمي، تشي بتراجع دور المنصة البغدادية كمساحة حوار سعودي ـ إيراني.
أما الترجمة اللبنانية فتتجسد في الإقتحام السعودي لكل البيئات: مسيحياً، لا بأس بجعجع و”قواته اللبنانية”. درزياً، لا يُضير الشغل مع وليد جنبلاط “عالقطعة”، في ظل إستعدادته العالية لإعادة التموضع سياسياً. شيعياً، يصعب الرهان على نبيه بري، لكن يُمكن الإفادة من أي تناقضات محتملة في البيت الشيعي. أما سُنياً، وهنا بيت القصيد، للمملكة أن تُدير الملف بلا وكالة مُسبقة لأحد، بما في ذلك لدار الفتوى.
هذا التحشيد وظيفته تفاوضية، إلى درجة جعلت أحد المقربين جداً من المملكة لا يتردد في البوح “أنا خائف أن يبيعوا لبنان مقابل اليمن.. ولولا دور حزب الله في اليمن، لم تكن المملكة لتلتفت إلينا”!
كل الضجيج السياسي الذي أثير حول ردة فعل السعوديين على مؤتمر الحوار الذي دعا إليه السويسريون في جنيف، هو جزء من التحشيد. لا يمت الأمر بصلة إلى إتفاق الطائف. المأخذ السعودي أن تسرُّع البعض في لبنان “دائماً يصب في خانة حزب الله. فلماذا يأخذ مرجع حكومي على عاتقه إعداد ورقة لمؤتمر تأسيسي؟ وإذا عُقدَ مثل هذا المؤتمر، مَن سيتنازل لمن؟ وهل هناك من يستعجل تقديم هدايا مجانية إلى حزب الله”؟
لجم هذا الدخول السعودي أي محاولة لجس نبض الأطراف المحلية والإقليمية حيال الطائف الجديد. الباقي حفلة علاقات عامة وصرف ميزانيات. من أمسيات اليرزة المفتوحة إلى ما يسمى “منتدى الطائف” الشهر المقبل.
***
لم تدخل السعودية، حتى الآن، في لعبة الأسماء الرئاسية مخافة أن يُحتسب عليها الفشل أو النجاح لاحقاً. أبلغت الرياض الجانب الفرنسي أنها لا تُعطي تفويضاً لأي جهة دولية للتفاوض بإسمها في الملف اللبناني، وبالتالي لن تقبل إلا بالحديث المباشر معها. السعودية مجرد receiver (متلقي)، حتى في الملف الإقتصادي، لا أوهام سعودية بأن الترسيم الحدودي يمكن أن ينعكس بحبوحة إقتصادية على لبنان. المعادلة التي أرساها ولي العهد في خريف العام 2019 ما زالت قائمة: “دعوا اللبنانيين يجوعون.. دعوا لبنان يحترق”. ترجمتها أن من يقف معنا نقف معه، و”لا يتوهمن أحد من اللبنانيين أن صندوق النقد أو أي باب آخر يُمكن أن يفتح أبواب المال السعودية للبنان. هذا أمر مشروط بتنفيذ ما تُريده المملكة”.
***
مُجدداً؛ ماذا تريد المملكة؟
السياسة أولاً وليس كما جرت عادة التعامل لبنانياً مع المملكة بوصفها “بيت المال” منذ زمن حسين العويني في نهاية الأربعينيات الماضية حتى الأمس القريب. هذه النقطة كانت في صلب مناقشات عديدة بين نواب الطائفة السنية وسفير المملكة. في عشاء اليرزة الشهير، إنبرى أكثر من نائب لطرح أسئلة مباشرة تتصل بالدعم السعودي للشارع السني، إجتماعياً وخدماتياً ومالياً. كان الجواب السعودي “صامتاً”: لا قرار عندنا وعليكم أن تتحملوا مسؤولية خياراتكم.
عملياً، كان هناك من يقول للحاضرين بأن “من يغامر منكم بالسياسة بوجه خيارات المملكة عليه أن يتحمل مسؤولية قراره”. فجأة، طارت الوعود التي قطعها أربعة نواب “مستقبليين” شماليين لفرنجية بالتصويت له في الإستحقاق الرئاسي.
من راقب جلسة الإنتخاب الرئاسية الثالثة بالأمس (الخميس)، يستنتج أن السعودية فازت فعلياً بالثلث المعطل. 42 صوتاً لميشال معوض.. وله (للمملكة أيضاً) إثنان بين التسعة الغائبين هما شوقي الدكاش وإيهاب مطر، فضلاً عن عدد آخر من أوراق “لبنان الجديد”، وتحديداً النواب المستقبليين.
رسمياً، صار بمقدور المملكة رفع “الفيتو” بوجه أي مرشح رئاسي مغضوب عليه. بالمقابل، يمكنها أن تجلس إلى طاولة التفاوض الرئاسية، بوصفها أحد اللاعبين القادرين على الشراكة في صنع رئيس لبنان المقبل.
معضلة السعودية أن تكون إستراتيجية إيران مطابقة لها تماماً، أي عدم التسمية وبالتالي إنسداد رئاسي كبير وفراغ مديد، لكن بكل الأحوال، هناك ثلث سعودي معطل لا يمكن تجاهله بعد الآن. حتماً هناك مرشح رئاسي سعودي غير معلن، وهناك مرشح “غير تقليدي” وغير مُعلن لرئاسة الحكومة (رُبما يبدأ إسمه الأول بحرف “النون”).. ولكن نقطة ضعف حلفاء المملكة أن ما يمكن أن تجمعه من رصيد لبناني قابل للصرف في لحظة ما في “الصندوق اليمني” على حساب لبنان، رئاسة وحكومة وطائفاً وبلداً.. للبحث صلة.