التشبيه (ويعرف أيضاً بالتجسيم) هو القول أنّ لله شكلاً وأعضاء (يد، وجه، ساق، إلخ؛ يجلس، ينظر، يسمع، إلخ). ومن الأمثلة على ذلك ما يقوله ابن تيمية (ت. 1328) في كتابه “بيان تلبيس الجهميّة في تأسيس بدعهم الكلاميّة”:
“إنّ السلف والأئمة آمنوا بأن الله موصوفٌ بما وصف به نفسه ووَصَفَه به رسوله مِن أنّ له عِلْماً وقُدْرةً وسَمَعاً وبَصَراً ويَدَين ووَجْهاً وغير ذلك. والجهمية أنكرت ذلك، من المعتزلة وغيرهم.. لكن أي محذور في ذلك، وليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجساماً وأعراضاً؟ فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال”.
نفهم من كلام ابن تيمية أنّ الإيمان بالتشبيه يتوافق مع ما جاء في القرآن وسنّة النبي وما ينصّ عليه الشرع وأقوال السلف. ومن يقول عكس ذلك فهو ضالّ.
ورفض التشبيه هو القول إنّ أوصاف الله لا تشير بتاتاً إلى شكله وأعضائه بل هي مجاز لغوي يستخدم للتعبير عن القدرة، والكرم، والجلالة، إلخ، كما نجد مثلاً عند الزمخشري (ت. 1143) في تفسيره “الكشّاف” أنّ عبارة “يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ” (سورة القلم 42) تعني:
“يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يدّ ثمّ ولا غلّ، وإنما هو مثل في البخل. وأما من شبّه فلضيق عطنه وقلّة نظره في علم البيان..”.
إذاً في رأي الزمخشري، من يؤمن بالتشبيه هو فاسد دينيّاً وجاهل لغويّاً.
وتقبّل التشبيه بشروط هو القول إنّ هذه الأوصاف هي لشكل وأعضاء لا يمكن للبشر تصوّرها وفهمها ولا يجب عليهم الخوض في معناها (وهو رأي عرف بالـ”بِلا كَيف”، أي نؤمن بأنّ لله شكل لكن لا نعرف كيف هو هذا الشكل، كما سأوضّح في ما بعد).
من غير الصحيح أن نُقسّم الفرق الإسلاميّة إلى قائل بالتشبيه أو رافض له، بمعنى أنّنا نجد الآراء الثلاثة داخل الفكر السنّي التقليدي وداخل الفكر الشيعي. وأيضاً، انقسم متكلّمو المعتزلة قبل القرن العاشر حول هذا الأمر بين رافض للتشبيه كلّياً ومتقبّل له بشروط.
من أهمّ الأمثلة عن تقبّل التشبيه بشروط هو ما نجده عند الأشعري (ت. 936) في مقدّمته لكتاب “الإبانة عن أصول الديانة” حيث يستعرض لنا عقيدته في هذا الأمر، قائلاً:
“وجملة قولنا أنّا نقرّ بالله، وأنّ له سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال: “وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام” (سورة الرحمن 27). وأنّ له سبحانه يدين بلا كيف كما قال سبحانه: “خَلَقْتُ بِيَدَيَّ” (سورة ص 75)، وكما قال: “بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ” (سورة المائدة 64). وأنّ له سبحانه عينين بلا كيف كما قال سبحانه: “تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا” (سورة القمر 14)”.
إذاً، يرقص الأشعري بين التناقضات في موضوع التشبيه. من جهة، نجده يقرّ أنّ لله شكلاً وأعضاء ويثبت له السمع والبصر والجلوس من دون أن يكون لنا قدرة على معرفة شكل يديه وعينيه أو كيف يجلس. لكنّ الملفت للإنتباه أنّه يفسر ذلك بعكس ما تقوله نظريّته في الـ”بلا كيف”. يقول الأشعري:
“وأنّ الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزّهاً عن الممارسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش..”.
في العصر الكلاسيكي، تمحور الخلاف بين المسلمين حول ماهيّة الله وما إذا كان التجسيم يحدّ من قدرته أو يقوّض ربوبيّته. لكن عندما يُصبح الله فكرة تجريديّة، كما هو الحال الآن في الفكر العلماني العام وفي كثير من الفكر الديني الحديث، يُصبح النقاش حول التشبيه كالجدل البيزنطي: لا طائل منه
إذاً، لا يطبّق الأشعري نظريّته في الـ”بلا كيف” في حديثه عن جلوس الله على العرش. فهو من جهة يقرّ باستواء الله على العرش كما يقول في القرآن (مثلاً سورة طه 5 وسورة الفرقان 59)، لكنّه يعطي رأياً في كيفيّة ذلك الإستواء – “على العرش.. لا يحمله العرش.. وهو فوق العرش” – وهذا يشير إلى الإشكاليّات الكبيرة في الفكر الديني عامّةً، وأنّه عرضة في كثير من الحالات إلى التناقض بين النظري والعملي. فتبنّي الأشعري لمفهوم الـ”بلا كيف” في موضوع التشبيه لا يعني بتاتاً أنّه وأتباع المذهب الأشعري لم يُعبّروا عن كيفيّة أن يكون لله شكلاً وأعضاء.
والأمثلة على ذلك كثيرة. مثلاً يقول فخر الدين الرازي (ت. 1210) في تفسيره المسمّى “مفاتيح الغيب” عن الآية “يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ” (سورة القلم 42) أنّ لها وجوهاً، منها:
“اختيار المُشَبِّهة أنه ساق الله، تعالى الله عنه. رُوِيَ عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام أنّه تعالى يتمثّل للخلق يوم القيامة حين يمرّ المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله. فيشهدهم مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ يقول هل تعرفون ربّكم؟ فيقولون: سبحانه إذا عرّفنا نَفسه عَرِفناه. فعند ذلك يكشف عن ساقٍ فلا يبقى مؤمنٌ إلاّ خرّ ساجداً ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنّما فيها السفافيد”.
ينتقد الرازي هذا الحديث المنسوب للنبي ودلالاته (والذي كان شائعاً عند بعض أهل السنّة مثل الحنابلة والمتصوّفة) قائلاً:
“واعلم أنّ هذا القول باطلٌ لوجوه أحدها أنّ الدلائل دلّت على أنّ كلّ جسم محدثٌ لأنّ كلّ جسم متناهٍ، وكل متناه محدث ولأنّ كلّ جسم فإنّه لا ينفكّ عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث”.
الملفت للإنتباه في ما يقوله الرازي (وهو من أهمّ مفكّري المذهب الأشعري) واستعراضه للوجوه العديدة في معنى الآية أنّه لا يأخذ بنظريّة الـ”بلا كيف”، بل يستفيض في تفسير الوجوه العديدة لمعنى الساق، ويرفض كل ما يشير إليها كعضو بأي شكل من الأشكال، لأنّ ذلك يقود إلى خلاصة أنّ الله مخلوق ومحدود. لذلك، ومن غير المفاجئ، نجده يلجأ إلى تفاسير المعتزلة (كما هو الحال في مواضيع أخرى) – تحديداً أبو مسلم الإصفهاني (ت. 934) والزمخشري – من أجل استخدام ما يقوله الإثنان في نقد التشبيه لتدعيم رأيه.
في كثير من الحالات، كان النقاش حول التشبيه نقاشاّ على الورق (أكاديمي). لكن في بعض الحالات، تحوّل إلى شكل من أشكال الإرهاب والعنف الجسدي بين المتخاصمين. مثلاً، يُرْوى أنّ الحنابلة في أصفهان بقيادة ابن مَنْدَه (ت. 1005) شتموا ومنعوا أبا نُعَيم الإصفهاني (ت. 1038) من دخول الجامع الكبير في المدينة لأنّه كان يرفض القول بالتشبيه وينتقده علناً، وأرادوا أيضاً قتله. وفي بغداد، رجم الحنابلة والمتصوّفة المتكلّم الأشعري ابن المُعتمد الإسفراييني (ت. 1144) لنقده على التشبّيه ونفوه من المدينة. وفي دمشق، حصلت جولات كثيرة من التشابك بالإيدي والتكفير في الجامع الكبير بين الأشاعرة (الذي كان معظمهم من أتباع المذهب الفقهي الشافعي) والحنابلة، ويقال إنّ ابن عساكر (ت. 1176) كان يتجنّب المرور بالأحياء التي فيها حنابلة خوفاً من غدرهم كونه كان ينتقدهم لقولهم بالتشبيه. وتعرّض الحنابلة أيضاً لبعض التنكيل لقولهم بالتجسيم، مثل عبد الغني المقدسي (ت. 1209) الذي أُخرج مرّة من دمشق بسبب قوله بالتشبيه وحُبِسَ. وابن تيمية (ت. 1328) أيضاً تعرّض للحبس والمضايقات والتكفير بسبب إصراره على التشبيه (وأمور أخرى).
في الخلاصة، النقاش حول شكل الله هو نقاش يتصل بمُسَلّمات المفكّر الديني، والبيئة الفكريّة التي تنتجه، والجو الفكري العام في وقته. في العصر الكلاسيكي، تمحور الخلاف بين المسلمين حول ماهيّة الله وما إذا كان التجسيم يحدّ من قدرته أو يقوّض ربوبيّته. لكن عندما يُصبح الله فكرة تجريديّة، كما هو الحال الآن في الفكر العلماني العام وفي كثير من الفكر الديني الحديث، يُصبح النقاش حول التشبيه كالجدل البيزنطي: لا طائل منه.