سميح صعب06/11/2022
تلقي الحرب الروسية-الأوكرانية بثقلها على دول الإتحاد الأوروبي إلى درجة بدأت تظهر بوادر تشقاقات في جدار الوحدة التي تجلت في الأشهر الأولى من الحرب. ولم يعد ممكناً إخفاء التباينات حيال طريقة معالجة الأزمات الداهمة وفي مقدمها أزمتا الطاقة والتضخم ومستقبل العلاقات مع روسيا.
لطالما شكل محور باريس-برلين المحرك لديناميكيات الإتحاد الأوروبي حتى قبل أن تخرج بريطانيا من الإتحاد. وأي خلل يطرأ على دوران عجلة هذا المحور، لا بد أن ينعكس على بقية دول الإتحاد. ومنذ تسلم أولاف شولتس منصب المستشارية في ألمانيا، طار ذاك الود الذي كان قائماً بين المستشارة السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وصارت اللقاءات بين قادة البلدين أكثر تباعداً بينما الأزمات تتعاظم في ظل إستمرار الحرب التي أخذت أوروبا على حين غرة.
ليس سراً أن كل الدول الأوروبية تتلقى على درجات متفاوتة سلبيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وكانت مرغمة على تبني سياسات جديدة على المستوى الوطني وعلى مستوى التكتل الأوروبي. وبتنسيق وتكافل مع الولايات المتحدة، فرض الأوروبيون ثماني حزمات من العقوبات على روسيا تبدأ بالطاقة ولا تنتهي بمصادرة الأصول الروسية في المصارف الأوروبية. وعمدوا إلى إرسال مساعدات عسكرية وإقتصادية إلى كييف.
وفي قارة كانت تعتمد على 40 في المئة من الغاز والنفط الروسيين لتسيير عجلة إقتصاداتها، تأثرت دولها بدرجات مختلفة بقرار الإنفطام عن موارد الطاقة الروسية، وبدء البحث عن بدائل. وإرتفعت الأسعار بشكل صاروخي في ظروف لم تمر بها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستويات لم يشهدها من قبل. وإستلزم ذلك إتخاذ إجراءات التقنين في إستهلاك الطاقة. وبدت دول الإتحاد الأوروبي مهددة بركود لا سابق له. وحفز الغلاء الناس في دول الإتحاد للنزول إلى الشوارع، وإنعكس تغييراً في المزاج الشعبي الذي بدأ يميل نحو أحزاب اليمين المتطرف. ووصول جورجيا ميلوني إلى رئاسة الوزراء في إيطاليا يُمثّل جرس إنذار من أن شبح موسوليني يطل برأسه مجدداً.
الأعباء الإقتصادية الثقيلة التي رتبتها الحرب، جعلت ألمانيا تنفرد بقرارات وطنية أجفلت دولاً أوروبية أخرى ووضعتها في موضع المتهم بإنتهاج سياسة عزلة لا تتماشى مع سياسات الإتحاد الأوروبي. وعلى سبيل المثال، فوجىء الفرنسيون بقرار شولتس إنفاق مئة مليار دولار لبناء “أقوى جيش في أوروبا”. وفوجئت دول الإتحاد قبل أسابيع بقرار المستشار صرف 200 مليار يورو لمساعدة الشركات والمواطنين الذي سيتضررون من التقنين في إستهلاك الطاقة أو من حال الركود.
ليس من السهل تعويض خسارة فرنسا من جراء التباين مع ألمانيا، في وقت تزداد فيه معاناة الأوروبيين مع إستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي بدأت تفرض على دولهم نمطاً جديداً وعدم إستقرار في العلاقات التي نسجت على مدى عقود. والسؤال الأهم: هل فقدان الود بين ماكرون وشولتس هو بداية تصدع أوروبي في زمن الحرب؟
قرارات شولتس باغتت ماكرون الذي لم يستطع كبت إنفعاله عندما قال صراحة إن “ألمانيا تمر بلحظة تغيير لنموذجها يجب ألا نقلل من أهمية طابعها المزعزع للاستقرار.. لكن إذا أردنا أن نكون متّسقين، يجب ألا نتبنى استراتيجيات وطنية بل استراتيجية أوروبية”.
صحيفة “الغارديان” البريطانية أوردت من باب التهكم أن ماكرون وشولتس عندما إلتقيا في قصر الإليزيه قبل أسبوعين “بذلا جهداً كي يتصنعا الإبتسامة” أمام الكاميرات، بينما كان المستشار الألماني يتفادى وضع محاولات الرئيس الفرنسي لوضع يده على كتفه. ولاحظ مدير المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية جاك بيار غوجون “لطالما كانت هناك اختلافات، لكن الوضع حالياً أكثر جدية”.
التباين الفرنسي-الألماني حمل الجانبين إلى ترحيل إجتماعات وزارية كانت مقررة بين الجانبين الشهر الماضي، إلى كانون الثاني/يناير المقبل. وإتسعت الفجوة مع إستثناء شولتس فرنسا من مظلة للدفاع الجوي تعتزم ألمانيا إقامتها مستقبلاً، بينما قررت شراء صواريخ مضادة للصواريخ من طراز “باتريوت” ومقاتلات “إف-35” من الولايات المتحدة، وعدم الإستعانة بصناعات الأسلحة الفرنسية في سياق تحديث الجيش الألماني.
ووسط تحفظات لا يخفيها ماكرون حيال العلاقات الأوروبية-الصينية، يذهب شولتس مذهباً معاكساً ويتفق مع بكين على إدارة موانىء ألمانية ووثق التعاون بزيارة للصين الجمعة، وهذا الصدع في العلاقات الفرنسية-الألمانية بالنسبة إلى الإستراتيجيات الدفاعية وأزمة الطاقة والعلاقات مع الصين، حمل وزير الإقتصاد الفرنسي برونو لومير إلى الدعوة إلى “إعادة تقويم العلاقات” مع برلين.
وتقول الباحثة في الشؤون الفرنسية والألمانية في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ماري كرباتا إن ماكرون الضعيف على الجبهة الداخلية بعد خسارة غالبيته في الجمعية الوطنية في إنتخابات حزيران/يونيو الماضي “يعتمد موقفه الآن على الإتحاد الأوروبي. إن ضعفه على صعيد السياسات الداخلية يجعله يحاول البحث عن هويته وموقعه من خلال العمل الأوروبي”.
ويوافق زعيم حزب الإتحاد المسيحي الديموقراطي الألماني فريدريك ميرز الرئيس ماكرون موقفه، متهماً شولتس بعزل ألمانيا عن أوروبا.
“العزلة” الألمانية دفعت ماكرون إلى التوجه إلى روما في اليوم التالي لتسلم ميلوني مهام منصبها رسمياً، في محاولة لتعزيز العلاقات الفرنسية-الإيطالية في هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها أوروبا، وبعدها كان الرئيس الفرنسي أول المتصلين برئيس الوزراء البريطاني الجديد ريشي سوناك الأسبوع الماضي.
وعلى رغم هذه المساعي الفرنسية، ليس من السهل تعويض خسارة فرنسا من جراء التباين مع ألمانيا، في وقت تزداد فيه معاناة الأوروبيين مع إستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، التي بدأت تفرض على دولهم نمطاً جديداً وعدم إستقرار في العلاقات التي نسجت على مدى عقود. والسؤال الأهم: هل فقدان الود بين ماكرون وشولتس هو بداية تصدع أوروبي في زمن الحرب؟