ثمة إضطراب في المشهد العالمي سببه احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو احتمال أصبح أكثر واقعية بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في ولاية نيوهامبشير في مواجهة نيكي هايلي، وهو الفوز الثاني له بعد فوزه بالانتخابات التمهيدية في ولاية أيوا وانسحاب حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس من السباق الجمهوري لصالحه بعد أن كان أبرز منافسيه. وهذا يقرّبه من انتزاع بطاقة الترشيح الحزبية للانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. ويقول أحد المشرعين الأميركيين إن الحكومات الأجنبية “تشعر بالفزع بسبب ما تتابعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول واقع الديموقراطية الأميركية الراهن”.
الانتخابات الرئاسية على بعد عشرة أشهر فقط. وكما تراهن الأسواق المالية على الأحداث المستقبلية، بدأ العالم يستعد لـ”العواقب المرتقبة” لـ”ولاية ترامب الرئاسية الثانية“، ليس أقلها: التعريفات الجمركية، التخلي المحتمل عن أوكرانيا وتايوان، اتباع نهج قاس في التعامل مع الحلفاء، المقايضة العدوانية مع الأعداء، والمزيد من الاضمحلال والتدهور في التعاطي مع القوانين والقواعد العالمية.
كل تغيير يطرأ على الإدارة الأميركية ينعكس حُكماً في السياسة الخارجية للبلد (…). ومع ذلك، فإن التحول من إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إلى إدارة ترامب (المحتملة) سيكون كبيراً ومختلفاً جداً بسبب الفجوة الحاصلة بين مواقفهما السياسية والظروف العالمية الفوضوية التي سيحدث فيها التحول المرتقب، فيما مخاطر نشوب حرب هنا وهناك تتزايد؛ 50 صراعاً قائماً، وهو الأعلى منذ العام 1946، وفقاً لـ”معهد أبحاث السلام” في أوسلو.
لقد حاولت إدارة بايدن إعادة اختراع دور أميركا لعام 2020 وما بعده، وأعطتها صورة “القوة العُظمى” التي لا تزال فاعلة عالمياً وقريبة من حلفائها. وفي الوقت نفسه صورة الدولة التي تدير مصالحها التجارية بـ”أنانية” مطلقة، وتتعامل مع أمنها الاقتصادي بـ”حذر شديد”، وتتخذ قرارات بنشر قواتها العسكرية بـ”انتقائية” مدروسة بدقة. ومن إنجازات هذا النهج إعادة حشد التحالفات في آسيا ودعم أوكرانيا.
ومع ذلك، تنامت الفوضى العالمية في عهد بايدن: اضمحلال النظام العالمي القائم على القواعد؛ استفحال الفوضى في الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا وأفغانستان؛ وتفشي الانعزالية في السياسة والرأي العام الأميركيين.
يُصرُ مسؤولو إدارة بايدن على أنه لا يوجد ما يشير، حتى الآن، إلى أن نظراءهم “يتحوطون” في رهاناتهم على رئاسة جديدة. فهم يجولون العالم لطمأنة الحكومات، ويصرون على أن إدارة بايدن ستحصل على حزمة تمويل جديدة لأوكرانيا من خلال الكونغرس قريباً. ولكن مع اقتراب موعد الانتخابات قد تتراجع فعَّالية عقيدة بايدن. سيصبح من الصعب تقديم التزامات تمتد إلى ما بعد عام 2024، بما في ذلك ما يخص موضوع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني و”حل الدولتين”. لذا، تعمل الحكومات في مختلف أنحاء العالم على وضع خطط بديلة لـ”أميركا التي يديرها ترامب”.
ستكون رئاسة ترامب الثانية مختلفة عن الأولى لأن العالم الآن أكثر فوضوية، ولأن ترامب أقل احتمالاً للتسامح مع أي عرقلة قد تعترض أجندته. ويُقال إن فرض تعريفة شاملة بنسبة 10% أمر محتمل، وكذلك تعليق “العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة” مع الصين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى فرض رسوم عليها أعلى مما هو قائم اليوم.
بالنسبة لبعض السياسيين والدول، التي ينحاز ترامب إليهم أيديولوجياً، فإن رئاسته ستكون خبراً جيداً. في إسرائيل، مثلاً، يستطيع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو (إذا تمكن من التشبث بالسلطة حتى عام 2025) أن يتوقع دعماً كاملاً بما في ذلك القضاء على تطلعات الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. كما يمكن لـ”رفاق الروح”، أمثال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أن يتوقعوا استقبالاً حاراً في المكتب البيضاوي. لدى ترامب أيضاً نقطة ضعف بالنسبة للسعودية في ظلّ ولي العهد محمد بن سلمان. ويتمتع رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي بعلاقات قوية مع ترامب، ولذلك تتوقع الهند استمرارية في السياسة وانتقادات أقل للحريات المدنية. وحتى بعض الحلفاء الغربيين الديموقراطيين الليبراليين يبدون مرتاحين، مثل رئيس الوزراء الأسترالي السابق سكوت موريسون، الذي يقول إن ترامب ساعد العالم على “الاستيقاظ” والتنبه للتهديد الذي تشكّله الصين (…).
أبعد من ذلك، فإن أسلوب ترامب الفوضوي وشخصيته غير المستقرة تجعل التنبؤات بخصوص ولايته المرتقبة صعبة. ومع ذلك فمن الممكن، وربما من الضروري، محاولة رسم الخطوط العريضة للنهج الذي قد يتبعه مع الدول التي يضعها ترامب في خانة “الحلفاء الجاحدين”، والدول التي تندرج في خانة “الخصوم المدمرين” والدول التي لا يهتم بها، ويصفها بـ”الخاسرة”.
أصدقاء أشبه بـ”الخصوم”
سينظر ترامب إلى معظم الحلفاء على أنهم مستخدمون. ومن الممكن أن يتوقعوا معاملة غير عاطفية: تقييم مدى قدرتهم على “تحمل” أميركا، على سبيل المثال من خلال إحداث خلل في التوازن التجاري معهم أو إستعدادهم لإنفاق مبالغ زهيدة على قواتهم المسلحة. قد يصبح التدقيق غير مريح (انظر الرسم البياني). فمن بين 38 حليفاً لأميركا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو آسيا، عانت أميركا من عجز تجاري مع 26 حليفاً في عام 2023 (…).
وتحاول بعض البلدان بالفعل تعزيز جاذبيتها بشأن هذه التدابير. ويصف مسؤول حكومي ألماني العرض المؤقت الذي سيقدمه إلى إدارة ترامب المرتقبة: من المتوقع أن يرتفع الإنفاق الدفاعي في ألمانيا، بعد إنشاء صندوق عسكري خاص بقيمة 109 مليارات دولار، وبالتالي لم يعد حراً؛ فألمانيا تنفق الآن 14 مليار دولار على طائرات F-35 الأميركية، كما أنها توقفت عن نقل الغاز الروسي عبر أنابيب في أراضيها لمصلحة استيراد الغاز الطبيعي المُسال، والذي اشترت معظمه من موردين أميركيين.
المستخدمون غير القادرين على الاعتراض على هذه الأسس قد يجدون أنفسهم تحت الضغط. ومن المرجح أن يتعرضوا لتهديدات بشأن التعريفات الجمركية أو أن يتم سحب التزاماتهم الأمنية. وقد تكون المكسيك واحدة من هؤلاء. فمنذ أن استبدلت إدارة ترامب اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية باتفاقها الخاص (عام 2020) ارتفع العجز التجاري فعليا في المكسيك.
هناك حليفان ضعيفان غير محصنين للتعامل مع الطريقة التي يفكر بها ترامب. الأول هو تايوان، وبحكم حجمها، تدير فائضاً تجارياً كبيراً مع أميركا، وصل إلى 45 مليار دولار في نهاية 2023. وعلى الرغم من أنها رفعت الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنها لا تزال تعتمد على الوجود العسكري الأميركي الواسع في آسيا لردع أي هجوم محتمل من الصين (…).
أما الحليف الضعيف الآخر فهو أوكرانيا. من الناحية الموضوعية، يُعَد الدعم الأميركي لأوكرانيا صفقة رائعة: فالمساعدات الأميركية التراكمية للحرب التي وصلت إلى أقل من 10% من ميزانية الدفاع الأميركية السنوية من دون أن تشكل أي خسائر أميركية، ساهمت في تقييد قدرات الجيش الروسي وإضعاف اقتصاده. كما أن معظم الأموال التي تُنفق على الأسلحة لأوكرانيا لا تزال داخل أميركا. ومع ذلك، قد يرى ترامب أن الحرب الأوكرانية تستنزف الموارد الأميركية وسيحاول دفع كييف إلى إبرام اتفاق سلام مع روسيا.
إن التخلي عن تايوان من شأنه أن يشكل سابقة لحلفاء آسيويين آخرين، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لأن تايوان جزء من “سلسلة جزر” حول الصين، وبالتالي هذا من شأنه أن يحبط خطط الدفاع الإقليمية. وخيانة أوكرانيا ستجعل روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين في مواقف أكثر قوة وتثير تساؤلات حول التزام أميركا تجاه “الناتو”، حتى لو لم يتراجع ترامب صراحة عن الضمانات الأمنية الأميركية. ومؤخراً، ادعى مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي أن ترامب كان قد أخبر رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، في عام 2020، أن أميركا لن تَهُبَّ لمساعدة أوروبا إذا تعرضت القارة لأي هجوم. وأضاف المسؤول: “بالمناسبة، الناتو قد مات، وسوف ننسحب من الحلف”.
أعداء الدولة
ماذا عن أولئك الذين قد يعتبرهم ترامب مصدر “كدمات” لأميركا؟ ربما يتوقع أعداء أميركا وخصومها أن يتلقوا تهديدات من أجل الفوز بتنازلات وكذلك الانفتاح الدوري على إبرام “صفقات” جديدة. ترامب كان قد عبر الحدود إلى كوريا الشمالية (عام 2019)، وهي الدولة التي كان قد هدَّد في وقت سابق بإحراقها. ومن بين الدول الأكثر تضرراً، يمكن لروسيا أن تتطلع إلى معاملة ودّية نظراً لإعجاب ترامب ببوتين. وستكون توقعات الصين أقل بعد أن كانت المفاوضات السابقة مع ترامب مخيبة للآمال، ولأن العداء المتبادل أصبح الآن متغلغلاً بين البلدين.
خلال إدارة ترامب الأولى، واجهت إيران عقوبات قاسية جداً، وقتل قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، لكن ترامب فشل في الرد عندما هاجمت إيران منشآت النفط السعودية (2019). والنتيجة الأكثر ترجيحاً الآن، نظراً للفوضى التي تسببها إيران في الشرق الأوسط، هي فرض عقوبات صارمة على نظام الجمهورية الإسلامية، الذي قد يميل إلى مواصلة حروبه بالوكالة في مختلف أنحاء المنطقة.
إن نهج ترامب في التعامل مع “مسببي الكدمات” مُدمّر، لكنه يخلق فرصاً. على سبيل المثال، قد يحاول ترامب جذب إيران ووكلائها إلى اتفاق سلام إقليمي، كما فعل عندما توسطت إدارته في “اتفاقات أبراهام” بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. وقد يكون من المرجح أن تنجح الصفقة الإسرائيلية السعودية. ومع ذلك، فإن النهج التخريبي ذاته قد يزيد من فرصة حدوث حسابات خاطئة. إن تحيز ترامب للمفاوضات مع الخصوم قد يخلق فرصاً لعقد صفقات. لكن الخطر يتمثل في أن يتم التفوق عليه في المناورة، مثل أن يكون “الرئيسان الروسي والصين أكثر ذكاء من ترامب بكثير”، بحسب تعبير المسؤول الأوروبي.
معرفة الآخر
المجموعة الثالثة من البلدان هي الأكبر: هم ليسوا حلفاء ولا خصوماً. ويمكن لترامب شطبهم باعتبارهم “خاسرين”. واجهت إدارة بايدن سلوكيات أكثر عدوانية من أعداء أميركا في أوروبا والشرق الأوسط، لكنها ظلَّت انتقائية في استخدامها للقوة معهم. وطريقة انسحابها من أفغانستان خير مثال. كما اندلعت صراعات في أماكن لا تهتم بها أميركا كثيراً، بما في ذلك الحرب الأهلية في السودان؛ و”حزام انقلابي” جديد عبر منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا؛ وحرب أرمينيا وأذربيجان جديدة. وقد وفّرت الفوضى نفسها فرصاً أيضاً.. ولنتأمل هنا إعادة تركيب نظام الطاقة العالمي والازدهار الذي شهدته تجارة النفط غير المشروعة.
ومن المرجح أن تشهد رئاسة ترامب (المرتقبة) مزيداً من التآكل في التعامل مع القواعد والقوانين العالمية، في كل شيء من التجارة إلى حقوق الإنسان، مما سيؤدي إلى تفاقم الأمور. وبالنسبة للدول الأكثر فقراً التي تعاني من ضعف المؤسسات المحلية، فإن هذا قد يعني احتمالاً أكبر لنشوب صراعات أكثر خطورة. ومن غير المرجح أن تتمكن المنظمات العالمية من ملء هذا الفراغ.
إذا فاز ترامب بسباق الرئاسة 2024، فسيتم تنصيبه في كانون الثاني/يناير 2025 (…). وقد لا تستطيع إدارة بايدن تقديم التزامات بسهولة خلال هذه الفترة، ما يعني أن مصداقيتها وقدرتها على إدارة الأحداث العالمية قد تتلاشى. ويتفاقم الوضع سوءاً إلى حد كبير بسبب العرقلة التي يمارسها الجمهوريون، كما تجلَّى ذلك في القرار العبثي لوقف المساعدات عن أوكرانيا. ومع ذلك، فإن عاماً واحداً هو أيضاً وقت قصير جداً بالنسبة للبلدان التي عليها ايجاد أي نوع بديل لـ”أميركا ترامب” (…). واضح أن 12 شهراً ليست كافية لملء الفراغ.
– راجع النص الأصلي بالإنكليزية في “الإيكونوميست“.