مرحلة إنتقالية دولياً.. دول ومؤسسات وعقائد مُهدّدة!

وقعت تطورات خلال الأسابيع القليلة الماضية تنذر بآثار لم تكن لتخطر أبعادها على بال صُنّاع السياسة قبل عقدين أو ثلاثة، أذكر هنا من هذه التطورات:

أولاً؛ الطلب الذي تقدمت به السعودية للانضمام إلى مجموعة “بريكس”، التكتل الأغنى في موارد الطاقة والمال والبشر.

ثانياً؛ إعلان اليابان وبأعلى صوت أنها تخلت عن سلميتها لتعود إلى عسكريتها.

ثالثاً؛ الإعلان الألماني عن زيادة هائلة في ميزانية التسلح لتصير ألمانيا الثالثة في هذا المضمار بعد أمريكا والصين.

رابعاً؛ المقال الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز” الصادرة عن المجلس الأمريكي للشئون الخارجية بقلم لاري دايموند أشهر من تخصص في موضوع الديمقراطية. يقرر المقال أن الديمقراطية في أمريكا تعيش مرحلة كساد عميق ومتشعب وممتد.

خامساً؛ موجتان عالميتان إحداهما سلسلة من اجتماعات القمة حول كافة الموضوعات في كافة الأرجاء منها مثلا القمة التي جمعت بين الرئيس الصيني والزعماء العرب في الرياض. والموجة الأخرى احتجاجات شعبية عارمة ضد قضايا عديدة وفي كافة الأنحاء.

سادساً؛ نجحت دولة عربية (قطر) في استضافة مسابقة كأس العالم وصعود دولة عربية أخرى للمركز الرابع، وتهب مشجعة للاثنتين كافة الشعوب العربية.

كنا نعرف قبل وقوع هذه التطورات وغيرها أن المستقبل بالنسبة للولايات المتحدة كان يعني لها استمرار الأحادية القطبية في شكل هيمنة أمريكية مطلقة، تصورت أمريكا وغيرها من الدول الكبرى أن روسيا بعد انفراط الاتحاد السوفييتي لن تقوى مرة أخرى إلي حد يهدد جاراتها في فنائها الخلفي أو في غيره من الفناءات الآسيوية والأوروبية أو في الشرق الأوسط وأفريقيا. خاب هذا التوقع حين قامت روسيا بغزو أوكرانيا، أقرب الجارات إلي قلب موسكو، هذا الغزو بالإضافة إلي تطورات أخري سابقة عليه ولاحقة له، راح يشارك في رسم معالم خريطة جديدة للسياسة الدولية.

في هذا الغزو عادت روسيا تُجرّب هيمنتها على إقليم، تتصور أنه يخصها، وبخاصة بعد أن لاحظت أن أمريكا تحث دول حلف الأطلسي على توسيع نشاط الحلف بحيث يعود فيشكل حزاماً يحيط بروسيا.

من ناحية أخرى، وقبل أن تعلن اليابان تخليها عن سلميتها، راحت بولندا تزاحم وتضغط وتتمرد داخل الاتحاد الأوروبي، هدفها أن تقود دول شرق ووسط أوروبا في جبهة مناوئة لتدخلات روسيا ولا تنتظر حماية أمريكا أو ألمانيا.

بمعنى آخر، صار واضحاً للقريب والبعيد على حد سواء أن مرحلة جديدة على وشك البزوغ. دول تتقدم الصفوف لتشارك في صنع توازن قوى جديد في العالم، وكلها غير واثقة من أنها تستطيع تحمل تكاليف هذه الرحلة.

دول ومؤسسات وعقائد سياسية ومبادئ لن تصمد طويلا تحت ضغوط الحالة الانتقالية التي يمر فيها النظام الدولي. نرى أقاليم تتفسخ إلى تجمعات تحت الإقليمية. بعض هذه الأقاليم أسست في مرحلة من المراحل نظما إقليمية فرعية اعتمدت في تأسيسها على وشائج ثقافية أو حضارية أو أيديولوجية. ضعفت هذه الوشائج مع مرور الزمن وتحت ضغط عولمة متزايدة

واضح أيضا في الصورة أن روسيا والصين عقدتا العزم على استمرار الصعود وأن أمريكا نادمة على أنها لم تقف ضد هذا الصعود عندما كان ممكناً. هي الآن غير قادرة على استعادة تفوقها المطلق والعودة إلي وضعها السابق في النظام الدولي قطباً أوحد بكامل صلاحيات القوة الأعظم المهيمنة. يبدو الآن لأمريكا وللكثيرين أن عودة الحال صارت من المحال.

لم نعرف بالدقة متى وتحت أي ظرف دخل النظام الدولي هذه المرحلة الانتقالية، كما أننا لم نعرف بالدقة متى وتحت أي ظرف دخل النظام الإقليمي العربي حال التحول في بعض، أو لعله أكثر، هياكله الأساسية وأهمها التحول في علاقات التناسب والتفاوت في الأوزان النسبية لأطرافه الرئيسية. من هذه الهياكل أيضاً حالات الانفراط الداخلي التي أصابت عدداً كبيراً من أعضاء النظام. ومن التحولات أيضاً تعدد حالات اختراق حدود النظام العربي الخارجية من جانب بعض أو كل دول الجوار، فضلاً عن تزايد اتساع فجوات القوة بين هذه الدول من ناحية والدول العربية من ناحية أخرى، وبخاصة الدول العربية المتاخمة، واحدة من هذه الدول راحت تلمح إلي أنها سوف تسعى للحصول على أسرار التسلح النووي.

***

لا مبالغة كبيرة في القول إن العلاقات الدولية تعيش هذه الأيام في حال من الفوضى. أحد بوادر هذه الفوضى كثرة انعقاد مؤتمرات القمة وإفراط كبار المسئولين في تبادل الزيارات والتنقل بين الدول. هذه البوادر تشير عادة إلى حال انضباط ورقي في العلاقات الدولية إن سادت في أوقات رخاء وسلام. أما أن تسود في أوقات التوتر والأزمات وفي أقاليم الوفرة كما في أقاليم الفقر والعجز فمعناه أن مختلف الدول صار يجمعها هم واحد هو عدم الثقة فيما تخبئه لها الأيام القادمة.

في ظل هذه الأجواء لا يسع الكثيرون وأنا واحد منهم إلا أن يتوقعوا أن دولاً ومؤسسات وعقائد سياسية ومبادئ لن تصمد طويلا تحت ضغوط الحالة الانتقالية التي يمر فيها النظام الدولي. نرى أقاليم تتفسخ إلى تجمعات تحت الإقليمية. بعض هذه الأقاليم أسست في مرحلة من المراحل نظما إقليمية فرعية اعتمدت في تأسيسها على وشائج ثقافية أو حضارية أو أيديولوجية. ضعفت هذه الوشائج مع مرور الزمن وتحت ضغط عولمة متزايدة لجوانب بعينها من النظام الدولي ثم بتأثير الصعوبات المترتبة عن انتشار وباء أو كساد وتضخم مالي. لاحظنا أن العمل الجماعي في معظم أشكاله لم يعد يفي بمتطلبات الدول. صار صعباً، على سبيل المثال، الحصول على إجماع أو حتى توافق الأعضاء على قرار أو سياسة واحدة، وإن حصل فلمدة وجيزة. رأينا المشكلات تتجمع وتحيط بأداء الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ومجموعة الآسيان. تأكدنا ونحن نتابع هذا الأداء من أن وراء قصوره تقف ظروف المرحلة الانتقالية في النظام الدولي. تقف أيضا الثقة المفقودة غالبا بتأثير مباشر من طبيعة الانتقال من حال إلى حال تحت ظروف بالفعل قاسية.

إقرأ على موقع 180  أميركا و"نورد ستريم - 2"... خيارات محدودة

***

أصل إلى تخوف واجب. الآن وأكثر من أي وقت مضى ومع تصاعد إجراءات وعمليات التحول الجارية في النظام الدولي وداخل دول النظام العربي، صرت أخشى على جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية من تداعيات وقسوة ما ينتظرها من تحديات لا قبل لها بمثلها. من يعرف الجامعة يدرك حقيقة أنها كيان رخو وليست مؤسسة مرنة كما يخطر أحياناً على بال بعض الأكاديميين. إن من اقترب بالدرس أو المشاهدة من المراحل الانتقالية في تطور العلاقات الدولية لا شك يدرك مدى تعقدها وتعدد احتمالات تحركها بمعدلات تتفوق كثيرا على معدلات الحركة في مؤسسات النظامين الدولي والإقليمي العربي في وضعهما الراهن. أقصد تحديداً منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومؤسساتهما المتخصصة. كلها مهددة بالغرق في طوفان المرحلة الانتقالية خاصة إذا هي قصرت أو أهملت في استشراف مستقبلها وتطوير إمكاناتها على ضوء ما استجد من متغيرات وتوازنات أفرزتها أو ألقت عليها الضوء التطورات الأخيرة في الحالة الانتقالية.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  تفجير “نطنز”.. حروب المنطقة الرمادية تنتقل إلى داخل إيران