في المرة الأولى كان الحضور عرضياً. اشتعلت الحرب بينما المحادثات لإحياء الاتفاق النووي في أوجها. سبق فلاديمير بوتين الجميع بإعلان عمليته العسكرية، وهكذا خُلطت الأوراق، وما كان قبل أيام قليلة من بدء الحرب اتفاقاً شبه ناجز عاد إلى المربع الأول. فجأة تحولت أولويات العالم وتبدلت. إيران أيضاً وجدت في الصراع العالمي المتأجج، وحرب الواسطة بين موسكو وواشنطن على امتداد أوكرانيا وفي مدافئ الأوروبيين ومطابخهم، وجدت مشهد عالم جديد يتشكل. لم يخف القائد الأعلى الإيراني علي خامنئي هذا الأمر حيث قال في لقاء مع طلاب الجامعات أواخر نيسان/أبريل إن “العالم اليوم على أعتاب نظام جديد. هناك نظام دولي جديد في مقابل النظام الثنائي الأقطاب والأحادي القطب سابقاً”. كما دعا خامنئي الحضور إلى”التطلع إلى حرب أوكرانيا بنظرة أعمق. هذه الحرب ليست مجرد هجوم عسكري على بلد ما. جذور هذه الحركة عميقة والمتوقع هو مستقبل معقّد وصعب”.
تحول السؤال في طهران من متى الاتفاق إلى هل سينجز الاتفاق، وترسخت جمعياً حالة محطة القطارات فأضحى الجميع منتظراً وصول الاتفاق النووي إلى مقصده المفترض، لكن هذا ما لم يحصل. تكررت الإشارات وفي كل مرة كان الأمل يرتفع بقرب رفع العقوبات، لكن حساب الحقل لم يوافق حساب البيدر.
من يتهم من؟
أصبح الجسد الإيراني حساساً تجاه أي شيء، ولأنه كذلك كان يتفاعل مع أي حدث بشكل سريع ومتسلسل، وأحيانا عنيف. موجات التظاهر باتت في هذا العام تتكرر بفواصل زمنية قصيرة، على خلاف ما كان سائداً في السابق. إضراب المعلمين في شباط/فبراير ثم تظاهرات بسبب غلاء أسعار الغذاء بعد رفع الدعم الحكومي في بداية أيار/مايو أعقبتها احتجاجات آبادان في خوزستان بعد إنهيار مبنى والتي امتدت إلى مدن أخرى. لكن كل هذا لم يكن قد خرج بعد من إطاره الطبيعي، أو إطاره المتوقع.
الإتفاق النووي يغرق أكثر فأكثر في حالة الموت السريري، ولا شيء يبقيه حياً سوى افتقاد الأطراف المختلفة لخطة بديلة، فلا الحرب ممكنة بالنسبة لواشنطن وحلفائها، ولا القنبلة بالنسبة لإيران، بالتالي الأسلم هو إبقاء الحال على ما هو عليه، وترك دفتر النووي معلقاً حتى إشعار آخر
يتبادل الإيرانيون والأميركيون الإتهامات. مسؤول أميركي رفيع قال لـ“جاده إيران” إن “الإيرانيين عزلوا أنفسهم واختاروا أن يراهنوا على شراء الوقت وهو ما لا يبدو كأنه رهان رابح”. المسؤول الذي تحدث إلى “جاده إيران” بشرط عدم الكشف عن هويته، شدد على أن “الحوار الحقيقي الذي يجب أن تجريه إيران يجب أن يكون داخل نظامها لأن المشكلة الحقيقية هي في طهران وليست في واشنطن”. يرفض مصدر إيراني مسؤول هذا الإتهام مؤكداً أن “طهران كانت منذ البداية ملتزمة بالتوصل إلى إتفاق، لكن تسييس عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية منع ذلك”. المصدر أشار في حديثه إلى “جاده إيران” إلى أن “واشنطن تضع على رأس أولوياتها ما تريده إسرائيل، وإسرائيل لا تريد اتفاقاً نووياً ولا رفع العقوبات عن طهران”.
بغض النظر عن التراشق ولعبة إلقاء اللوم المستمرة منذ أشهر، يمكن القول إن الإتفاق النووي، وكما كانت تقول المؤشرات منذ البداية يغرق أكثر فأكثر في حالة الموت السريري، ولا شيء يبقيه حياً سوى افتقاد الأطراف المختلفة لخطة بديلة، فلا الحرب ممكنة بالنسبة لواشنطن وحلفائها، ولا القنبلة بالنسبة لإيران، بالتالي الأسلم هو إبقاء الحال على ما هو عليه، وترك دفتر النووي معلقاً حتى إشعار آخر.
إيران في أوكرانيا!
في الدردشة مع المسؤول الأميركي يقول إن “بلاده حاليا ترّكز على ثلاث جبهات؛ نشاطات إيران ضد أميركا وتعريض المواطنين الأميركيين وحلفاء واشنطن للخطر، ثم انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها الحكومة الإيرانية ضد شعبها، وعرقلة ومنع إيران من دعم روسيا في حربها، مع ذلك فهي تريد إبقاء باب الدبلوماسية مفتوحاً حول الملف النووي”.
تركيز الأميركيين على دور إيران في الحرب الروسية وضع طهران في قلب الصراع المستجد مضيفاً إلى دفاترها المعلقة آخرَ لكن بوزن أكبر بكثير. في السابق كان سقف الدور الإيراني حدود المنطقة، وفي مناسبات نادرة كان الحديث يستعر عن أدوار إيرانية محدودة في أميركا الجنوبية وأفريقيا. هذه المرة المسألة مختلفة، طهران تتموضع في صراع عالمي وبالتالي هي تحسم اصطفافها الذي لم يكن يوماً سراً، لكنها تلعب في مساحة أكبر من السابق. السؤال الكبير هنا هو حول حجم المغامرة الإيرانية وهل يرقى للإتهامات الغربية بتزويد روسيا بالطائرات المسيرة والصواريخ أم أن الأمر لا يزال في طور السياسة؟
لا تخفي طهران انها زودت روسيا بالمسيرات قبل الحرب، لكنها تنفي أن تكون تفعل ذلك الآن، مع ذلك يبدو الإتهام بالنسبة للإيرانيين بمثابة الدعاية التي لو كان العام انتهى بها لما كان الأمر ليقض مضجعهم لأنه بمثابة اعتراف عالمي بامكانيات إيران في الصناعات الحربية.
أجراس الإنذار تقرع
أما ختام العام الإيراني فقد كان مختلفاً. لم يكن خارج السياق على الإطلاق، فبحكم الأجواء المشحونة داخلياً، فإن الاحتجاجات متوقعة، لكن عمق الإحتجاج الذي صنعته لحظة وفاة الفتاة الإيرانية الكردية مهسا أميني بشكل مثير للجدل في مركز للشرطة الدينية، قلب الميمنة على الميسرة وأخرج إلى السطح أثقال مراحل مختلفة من تاريخ إيران ما بعد الثورة، وأضاء على ظلمة الفجوة الزمنية بين أجيال ما بعد الثورة الرقمية ونظام لم ينجح في تجديد شبابه برغم أجراس الإنذار التي ظلت تدق على مدى سنوات.
الصوت الذي لم يسمع رفع سقف المواجهة بين الشارع وبين النظام إلى مستوى غير مسبوق منذ الثورة الإيرانية التي أطاحت بالملكية عام 1979. هؤلاء الذين في الشارع يريدون تغييرا جذريا ينهي الجمهورية الإسلامية ويأتي بنظام حكم جديد، والنظام يريد إحتواء الموقف بأقل ثمن ممكن، لكن الأمر ليس بهذه السهولة في ظل غياب جسر تواصل حقيقي وأدوات تأثير بمستوى التعقيد والتشابك الذي نشأت عليه حالة الاحتجاج الاخيرة.
خلال أشهر قليلة جذبت الحالة أبرز النخب الفنية والرياضية والثقافية في إيران، بعضهم عبّر عن اعتراضه علنا، وبعضهم الآخر كما في حالة بعض لاعبي المنتخب الايراني في كأس العالم لكرة القدم، عبر بالصمت، الصمت عن إنشاد النشيد الوطني. لكن المد لم يتوقف عند هؤلاء، الاعتراض وصل إلى قم وإن كان بطور مختلف. تصريحات مراجع الدين الكبار لم تكن مفاجئة لمن يتابع عن كثب. بعضهم غمز من زاوية الاقتصاد للحديث عن الوضع برمته، كما فعل آية الله ناصر مكارم الشيرازي عندما قال لرئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف “نحن مستاؤون من الوضع الراهن ويجب تجنب التطرف غير الضروري”، كما دعا البرلمان للوقوف في وجه ما وصفه بانحراف البنوك وترك الناس يعيشون “ونحن لا نرى أية قرارات من المسؤولين بهذا الخصوص”. وأرسل مكارم الشيرازي ما يشبه رسالة مبطنة في أكثر من اتجاه قائلا: “الناس يشتكون منا لأننا لا نحذر المسؤولين من المشاكل. لكننا كثيراً ما نحذر وننشر هذه التحذيرات على موقعنا لكن مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لا تنقل وجهة نظر المراجع”.
آية الله جوادي آملي ذهب أبعد من ذلك عندما حذر من أن عدم التصرف بشكل جيد سيعني أن الله سیحافظ على دينه من خلال قوم آخرين.
تحذيرات قم بالتوازي مع أجراس الإنذار المتكررة تتزامن مع نوع من التباين بين المسؤولين حول كيفية إدارة الأزمة، لكن هناك من يقول إن الأمر يتخطى الأزمة الراهنة ويرتبط بتجهيز الأرضية لإعادة هندسة النظام بشكل جديد كي يكون قادراً على الاستمرار.
في الأسبوع الأخير من العام 2022، غطت الثلوج شوارع العاصمة الإيرانية بشكل كبير. لعل المشهد الذي تناقله كثر للبساط الأبيض يعكس شيئاً من الحقيقة الإيرانية. إحتواء الأزمة يشبه الثلج الذي يغطي اليابسة، يبدو للوهلة الأولى مثالياً، لكنه يخفي تحته كل النتوءات التي ستظهر مجدداً عندما يذوب الثلج، ويظهر المرج.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“