الحجاب هو جزء من آداب السلوك الإختيارية. يسير العالم نحو الإباحة. كثير من الأمور التي يفعلونها بخصوص التعري لا يألفها ذوقنا، وربما تغيّر الأمر في مجتمعاتنا بعد سنوات أو أجيال. لكن الحجاب مسألة تتعلّق بما أشاحت عنه مجتمعاتنا في الماضي، ولم يكن عيباً أو يُعتبر منكراً. المسألة في هذا الأمر تتعلّق بالسيطرة السياسية، كما يبدو واضحاً مما يجري في إيران. أما في أفغانستان فالأمر أشد هولاً. إذ يعتبر أهل النظام أن المرأة لا تصلح إلا للحمل والولادة والخدمة المنزلية. في كل المجتمعات الإسلامية نظرة دونية للمرأة. كان تطوّر وضع المرأة لصالحها قبل ما سمي بالصحوة الإسلامية في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو عكس ذلك الآن. لم يكن التطوّر بطيئاً نحو الأمام بل تراجع سريعاً الى الوراء. وكي لا نكون كمن يدفن رأسه في الرمل كي لا يرى ما يحدث، علينا الاعتراف أن مجتمعاتنا الإسلامية لا تتقدم في العقود الأخيرة، بل تتأخر.. والتأخر لا يصيب ناحية من نشاط المجتمع أو جزءاً منه بل هو تأخر يصيب عموم مجتمعاتنا، وإن كانت هناك استثناءات.
الأرجح أن التديّن في مجتمعاتنا لم يكن أقل مما هو الآن. ربما كان العكس هو الصحيح. المهم أن وكلاء الله على الأرض، بالأحرى من يعتبرون أنفسهم كذلك، وجماعات الإسلام السياسي، ربطوا أنفسهم بأنظمة الاستبداد. واستخدموا بكل انتهازية المزاج الديني العام الناتج عن النكسات المتتالية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، والتي أدت الى نكسة في المزاج الديني. هؤلاء استخدموا هذا المزاج الديني المتراجع في خدمة الثورة المضادة وأنظمة الاستبداد. منذ الثورة العربية عام 2011، كانت مواقف جماعات الدين السياسي المنظّم ضد خيارات الناس وضد الحريات الفردية، والى جانب ظلامية تُسيء الى الوعي بالتقدم. لم تكن داعش استثناءً بل كانت وما تزال أكثر تشدداً. هي ليست استثناءً يُثبت القاعدة. بل هي في صميم ما يُسمى الصحوة الإسلامية، وركناً من أركان الاستبداد. داعش وأخواتها تشبه كل جماعات الدين السياسي، مما كان منها في السلطة أو خارجها. في كل دين تعددية تسمح بالشيء ونقيضه.
الدين قبل صعود ما سمي الصحوة الإسلامية كان طوعياً وفردياً، وأكثر تسامحاً. المجتمع الإسلامي بعد الاستقلال، ومع تجذر الاستبداد أصر على قمع الضمير والحرية الفردية، وتلازم ذلك مع الدين السياسي، الذي صار ديناً دون إيمان
“شيءٌ ما” أصاب ثقافة المجتمعات الإسلامية. تُستبعد النكسات السياسية والاستبدادية في الموضوع. هذا “الشيء ما” لا يجري التطرّق إليه في الأدبيات الشائعة وان استخدم بكل انتهازية. نهضة القرن التاسع لم تستطع الاستمرار. الاستبداد وتسييس الدين كانا حائلين ضد هذا الاستمرار. لكن هناك ما هو أعمق من ذلك. لم نجرؤ على القول أن في الدين الشائع عطب وبالتالي لم نسع الى مقاربته. ربما كان الاعتقاد الشائع هو أن التطوّر في الوعي الديني سوف يلحق تطوّر المجتمع، فعلى الذين يتصدون للإصلاح عدم المساس بهذه الناحية خوفاً من حساسيات تعيق الممارسة السياسية. وطُمِسَ البحث قي الوعي الديني، وجرى تحاشي التنقيب في الموضوع سوى في بحوث أكاديمية صدر معظمها في الغرب، ولدى الاستشراق القديم والجديد. وجاءت إدانة الاستشراق لتعمّق هذا الاتجاه في الوعي السائد، وخاصة لمن تلبسوا دعوة الثورة حتى الاجتماعية الشاملة. بالعكس، كثر حديث الكتبة والمثقفين عن التسامح الإسلامي، وأهملت الجوانب المناقضة. في نفس الوقت، طغت موجة القول إن في الدين، وخاصة القرآن، حلول لكل شيء. ما طرأ وما سوف يطرأ. ظهرت الصورة برّاقة. في حين أن البريق كان يخفي سخاماً كالنار تحت الرماد. نار تحرقنا الآن.
في الوقت الذي كان يتوجّب الخيار بين الحرية الفردية والضمير الفردي في مواجهة ذيول التحرر الوطني، وطغيان المجتمع على الفرد، أُخذ بتلابيب الخيار الثاني، وكانت الانتكاسة في الوعي الديني، بل هي انتكاسة المجتمع كله. كما صار المجتمع بلا مواطنين، صار الدين بلا إيمان. الإيمان يكون فردياً، وما عدا ذلك من الأفعال والممارسات الجماعية لا تدخل في باب الإيمان، ولا تتلازم معه. كذلك الحرية لا تكون ألا فردية ونابعة من الضمير. والضمير لا يكون إلا فردياً؛ وما هو جماعي من مسميات التحرر الوطني وطقوس المهرجانات الجماعية، والمسيرات، وحتى التظاهرات، تأييداً للحاكم المستبد، يمكن أن تكون المشاركة فيها تزلفاً، ونفاقاً، وإظهارا للحاكم، وأتباعه من الرقباء وكتبة التقارير السرية، ما لا تبطنه الضمائر. الجماعة المتشكلة من أفراد مؤمنين (إيماناً فردياً) ليست مجرد قطيع، وهي مثل الجماعة المكونة من مواطنين يعتبر كل منهم نفسه صنواً للدولة، وشريكاً فيها، ومساهماً في قراراتها. حينها لا يكون المجتمع رعية تساق بل جماعة أحرار، تسوق من يتسيّد عليها. الدولة الحديثة تتشكّل من مواطنين لا من رعايا. والإصلاح الديني إذا حصل يرتكز على الإيمان الداخلي النابع من الضمير. وكل ما عدا ذلك يدخل في باب القطيع. وما كان صدفة أن جماعات الدين السياسي دعمت كل حكم استبدادي. الرعايا في الدين كالرعايا في سياسة السلطة. الحرية الفردية نقيضهما.
كل اصلاح ديني يتطلّب أن تكون ممارسة الطقوس طوعية، وأن لا تفرض المؤسسة الحاكمة تأدية أي منها، كما أنها لا تفرض أيا من أنواع السلوك الفردي بما في ذلك اللباس. الطوعية والفردية يتلازمان، كما القسر وفرض آداب السلوك؛ والجماعة تكون أكثر تماسكاً وتسامحاً فيما يتعلّق بما هو ظاهر. الدين قبل صعود ما سمي الصحوة الإسلامية كان طوعياً وفردياً، وأكثر تسامحاً. المجتمع الإسلامي بعد الاستقلال، ومع تجذر الاستبداد أصر على قمع الضمير والحرية الفردية، وتلازم ذلك مع الدين السياسي، الذي صار ديناً دون إيمان.