من جورج فلويد إلى خيري علقم.. ازدواجية معايير الغرب

مُجدداً، وجَدَ الغرب نفسه أمام تحدٍّ أخلاقي لم يكن يتخيل أن توصله إليه حكومة بنيامين نتنياهو، من خلال دعوة وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، إلى "محو بلدة حوّارة من الوجود"، مؤكداً بذلك حقيقة كيان يتبنى الفصل العنصري والإبادة الجماعية سياسةً في التعامل مع الشعب الفلسطيني.

إذا صحّ أن الغرب قد اُحرِِجَ من مشاهد قطعان المستوطنين وهم يهاجمون بلدة “حوّارة” الفلسطينية ليلاً، ويُدمّرون ممتلكات أهلها ويُحرِقون منازلهم وسياراتهم ويقتلون أحد أبنائهم ويجرحون العشرات، فإن سبب هذا الحرج أن الغرب لطالما صنّف الإسرائيليين جزءاً من العالم المتحضر الذي يواجه العنف، بينما لا يفعل الإسرائيليون في هذه الممارسات سوى أنهم يُسفرون عن وجههم الحقيقي الذي يحاولون إخفاءه، وهو الأبارتهايد الإسرائيلي الفاشي. وفي هذه الأيام، يضع الغرب يده على قلبه، مخافة أن تؤدي المظاهرات الإسرائيلية والقلاقل إلى انفلاتٍ أمني وحرب أهلية، تُظَهِّر عنفهم اللفظي دماءً تخلخل تصنيفات الغرب.

في اليوم الذي اتصل فيه الرئيس الأميركي، جو بايدن، برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليعلن تضامنه معه بعد عملية القدس، في 27 كانون الثاني/يناير الماضي، حين قتلَ شاب فلسطيني ثمانية مستوطنين، ويقول له إن الهجوم “كان هجوماً على العالم المتحضِّر”، في ذلك اليوم توفي رجل أميركي من أصل إفريقي في المشفى بعد أيام من اعتداء خمسة رجال شرطة أميركيين “متحضرين” عليه بالضرب بسبب مخالفة مرورية، فأعادوا تذكير العالم بحادثة جورج فلويد، المواطن الأميركي الذي قتل على يد الشرطة إختناقاً في أيار/مايو 2020، وقتل بعده بأيام، وبطريقة مشابهة، الشاب الفلسطيني، إياد الحلّاق، المصاب بالتوحد، على أيدي شرطة الإحتلال في أحد أحياء القدس.

وقبل عملية القدس بيوم واحد، تخفَّى جنود إسرائيليون، “متحضرون” أيضاً، في سيارة توزيع حليب أطفال، دخلوا فيها مخيم جنين، وقتلوا خلال اقتحامهم أحياءه عشرة فلسطينيين، بينهم امرأة مسنة، وجرحوا العشرات بحجة ملاحقة مطلوبين. فأين كان هذا العالم المتحضِّر يوم المجزرة، ولماذا خلع عنه ثوبه الأخلاقي وقِيَمَه حينها، ثم ارتداها في اليوم التالي حين قرر شاب فلسطيني الدفاع عن حقه عبر الثأر لأبناء جلدته في جنين، ولجده الذي قُتِل على يد مستوطن قبل خمسة وعشرين عاماً؟ غير أن التحضُّر ها هنا ليس أكثر من قشرة تُغطي بهشاشتها تدميرية الغرب وعدوانيته التي يمارسها بحق أبنائه المسحوقين، قبل أن يمارسها بحق أبناء الآخرين.

حين تكلم بايدن عن “العالم المتحضِّر”، نزع صفة البشر عن أبناء الشعب الفلسطيني، وقد التقى في هذا مع الإسرائيليين الذين ينفون صفة الآدمية عن الفلسطينيين بإنكارهم وجود الشعب الفلسطيني بأكمله. ولم يمارس بايدن العنصرية في هذا التوصيف، بل مارس ما مارسه الأميركيون طوال عقود من عدم احترام القانون الدولي الذي ينص على حق الشعوب باستخدام القوة لتحرير أرضها، كون العملية وقعت في بؤرة استيطانية أقيمت على أرضٍ محتلة. وفي كلام بايدن أيضاً اعتراف صريح بالمستوطنات وبسياسة الاستيطان الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، والتي تنتهك القانون الدولي، هذه السياسة التي استمرت دولة الاحتلال بممارستها بفضل الدعم الأميركي، على الرغم من القرارات الدولية التي أدانتها.

هل شعر بايدن أن عملية القدس تُشكِّل تهديداً لوجوده ووجود حلفائه الإسرائيليين وبقاء نوعهم، وهل كان مدفوعاً بذلك من خلال نزعة تكيُّفه البيولوجي التي تعد بالأصل نزعة عدوانية، وترى في مجزرة جنين إشباعاً لشهوة سفك الدماء التي يُحقّقها له الإسرائيليون؟ فقد تعلمنا أن إشتهاءَ سفك الدماء من أشكال العدوان، وأن الخوف من الآخر، الملون أو المحتلةِ أرضه، هو تعبير عن الخوف من الطبيعة التي حوله، بسبب خلل التكيف الذي يعيشه، ربما بسبب كوابيس تأتيه نتيجة ما اقترفته يداه، أو أيادي أسلافه.

وعندما أدان جو بايدن عملية القدس التي نفذها الشاب الفلسطيني، خيري علقم، وامتنع عن إدانة مجزرة جنين التي نفذها الإسرائيليون في أرض محتلة، يكون بذلك قد تبنى العدوان بشكله التدميري الذي يعد سمة إدارة بلاده وسمة الإسرائيليين ونزع عن نفسه أي دافع أخلاقي.

هل شعر بايدن أن عملية القدس تُشكِّل تهديداً لوجوده ووجود حلفائه الإسرائيليين وبقاء نوعهم، وهل كان مدفوعاً بذلك من خلال نزعة تكيُّفه البيولوجي التي تعد بالأصل نزعة عدوانية، وترى في مجزرة جنين إشباعاً لشهوة سفك الدماء التي يُحقّقها له الإسرائيليون؟

وكما حصل هذا الأمر مع الفلسطينيين، حصل مع المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد الذي كان يتألم تحت ثقل ركبة رجل الشرطة الأميركي فوق رقبته، وقد جاهد لكي يشهق ويقول “لا أستطيع أن أتنفس”، تلك الزفرة كانت نَفَسَه الأخير الذي أعلن موته. أما الشرطي الأميركي فقد تشبّعت روحه، المذنبة والخائفة، وهو يمارس طقوس العدوانية التي تسربت إلى دمه من أسلافه الذين أضاعوا طريق الهند فقتلوا الرجال الحمر بعد أن حرموهم حتى أسماءهم، وأطلقوا عليهم تسمية الهنود الحمر. ثم جاء تايري نيكولز، الرجل الأسود، الذي قتله رجال الشرطة الخمسة، قبل شهرين، فلم يجد أحداً يستجدي مساعدته سوى أمه البعيدة التي لن تسمع استغاثاته، فهو يعرف أن أحداً سواها لن يساعده، ويسحبه من بين لكمات منَ كان يُفترَض بهم أن يحموه. وحين صاح “أماه.. يا أماه”، ربما كان يستجدي إفريقيا، أمه الأولى التي اصطاد فيها تجار العبيد أجداده كما يصطادون الطرائد، ونقلوهم في سفن العبيد وباعوهم للأسياد البيض، لكي يصبحوا من أملاكهم بجانب الأرض والمحراث والمعول.

إقرأ على موقع 180  ترامب الثاني إستمرار للأول أم صاحب مقاربات جديدة؟

من هنا ربما يمكننا أن نستنتج سبب تأجيل بايدن، كل حين، توقيع “قانون جورج فلويد” الهادف إلى إصلاح الشرطة، لكي يستمر هؤلاء بسلوكهم العدواني التدميري المنسوخ عن سلوك إداراتهم، فيستمر بايدن بالشعور بالأمان.

من بين أقطاب العالم المتحضر الذي يتحدث عنه بايدن، يبرز الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي استشعر خطراً على الإرث الاستعماري الذي يجري في دمه، والذي ورثه عن أجداده، المستعمرين القدامى. أمضى ماكرون سنوات في التسويف والخداع، محاولاً الالتفاف على مطالب الجزائر في تسوية ما يعرف بـ “ملف الذاكرة”، من أجل تمكين بلاده من التنصل من الاعتذار عن تاريخها الدموي الذي ارتكبت خلاله المجازر والفظائع إبان سنوات احتلالها هذا البلد العربي، والذي امتد من سنة 1830 إلى 1962. وفي مقابلة معه نشرتها مجلة “لو بوان” الفرنسية، في 11 يناير/كانون الثاني الماضي، افتقر ماكرون هيئة الرجل المتحضِّر، حين بدا أنه لم يجد أي وازع أخلاقي يمنعه من الإعلان عن رفضه الاعتذار عن جرائم بلاده خلال احتلالها الجزائر، قائلاً إنه ليس مضطراً لطلب الصفح، وأن “أسوأ ما يمكن أن يحصل هو أن نقول نحن نعتذر”.

ولا يرفض الفرنسيون الاعتذار عن مجازرهم فحسب، بل يرفضون أيضاً التراجع عن نزعة الاستعمار التي ما زالت توجِّه سياساتهم. لذلك، يرفضون تسليم الجزائر أرشيفها الذي سرقوه، ويرفضون إعادة جماجم ورفات قادة الثورات الجزائرية التي تحتفظ بها باريس، ربما خشية أن تمد الجزائريين بعزيمة وثقة، وهذا ما لا يحتمله ماكرون الذي يشعر أنه ما زال وصياً على مستعمراته السابقة.

إذا كان بايدن يعتقد أن كلامه حول العالم المتحضِّر سيكون دافعاً للمظلومين لكي يتعقلوا ويخافوا، فإن مسدس خيري علقم جعل المظلومين يفكرون كيف يمكن أن يصبحوا “قناصين مناسبين في وقت مناسب”. لقد جعل كثيرين يعرفون أن هذا العالم الذي هزه مسدس رجلٍ قرر أن يشعل حربه، وألا “يتراجع ميلمترٍ واحدٍ إذا بدأ القتال”، كما كتب خيري قبل سنتين على صفحته على فيسبوك، لم يهتز بسبب هذا المسدس، بل بسبب القرار الذي بدا أن الفلسطيني يستطيع اتخاذه لكي يشعل حربه متى يشاء، رافضاً سلام الميتين.

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  منْ يحسم حرب أوكرانيا.. أميركا أم الصين؟