بناء علی ذلك، يُفترض بالمفاوضين الذين سيتحلقون حول طاولة المفاوضات في قادم الأيام من كلا الجانبين، النظر إلى الأمام؛ ذلك أن الماضي كان مؤلماً لجميع الأطراف.. والجميع كان مشاركاً في صياغة ذلك الماضي الذي لم يكن مريحاً لهم “ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”!.
جرت العادة أن تكون عملية الترميم والبناء صعبة للغاية؛ فهي أصعب بكثير من الهدم والتدمير. هذا على مستوى الحجر. فكيف في مجال العلاقات الدولية؛ وكيف عندما تكون عملية الترميم مطلوبة بين الأشقاء؟
قلت في الأسبوع الماضي إنه من الخطأ الإعتقاد أن الإتفاق السعودي الإيراني تنتظره سجادة حمراء. الإتفاق بحاجة إلی “عناصر قوة” لتُشكل حاضنة له.. وإلا فإنه سيقتصر علی فتح السفارات والقنصليات، وهي حالة، وإن كانت مطلوبة، إلا أنها غير كافية بأحسن الأحوال.
ما أفهمه من القيادة الإيرانية أنها تريد وترغب في فتح صفحة جديدة من العلاقات مع دول الخليج ولا سيما مع السعودية، ركيزتها تعزيز الثقة والأمن والإستقرار في المنطقة؛ ليس بسبب ما يٌشاع عن “عزلة دولية” أو “ضائقة اقتصادية”. ولو افترضنا ذلك صحيحاً لكانت طهران قد فاوضت فقط مع من بيده القرار في واشنطن للتوصل إلى حل علی مقاساتها؛ وهذا الحل ربما ما يزال في متناول اليد. لكن طهران رفضته لأنه لا يقوم على أساس مبدأ “رابح رابح”. كما أن الحديث عن “عزلة دولية” أو “ضائقة إقتصادية” لا ينسجم مع التطورات الجيوسياسية الجديدة التي تؤشر إلى نهاية نظام دولي وبدء العد العكسي لولادة نظام دولي جديد..
وما فهمته مؤخراً عن القيادة السعودية الشابة أنها تريد تصفير المشاكل مع كل دول الجوار العربي والإقليمي لأنها دفعت ضريبة عدد من الأزمات، أبرزها حرب اليمن، من دون مقابل يذكر؛ وهذه حكمة تُحسب لهذه القيادة؛ ولذلك قررت الإستجابة ـ كما نقل مسؤول خليجي رفيع المستوی مطلع علی أفكار القيادة السعودية الشابة ـ للمبادرة الصينية بل هي التي دفعت الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض وشجّعته على طرح مبادرة المصالحة مع إيران.
لذا، أعتقد أن البلدين محقان في نظرتيهما إلى المصالحة والمستقبل بما يُحقّق مصالحهما؛ وهي حكمة تحسد الدولتان عليها.. وإن جاءت متأخرة.
هناك جملة من المُحدّدات المتعلقة باجراءات نجاح اتفاق بكين؛ تتعلق بالمستوی الذي يمكن أن تذهب إليه كل من الرياض وطهران في تنفيذ الاتفاق خصوصاً بعد التأكيد علی الاتفاقية الامنية الموقعة بينهما عام 2001 والاتفاقية المشتركة الشاملة الموقعة عام 1998.
وفي حقيقة الأمر؛ أكاد أجهل مدی صدقية الجانبين في غلق أوراق الماضي والتطلع للمستقبل؛ وما إذا كان اتفاق إعادة العلاقات هو مجرد ردة فعل علی تطورات معينة أم أنه يقع في صلب ثوابت ومفردات القاموس السياسي للبلدين؟
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قال بعد جلسة المحاكمة، الأسبوع الماضي، إنه لو كان رئيساً للولايات المتحدة لما سمح بعودة العلاقات بين السعودية وإيران. السؤال ماذا لو فاز رئيس جمهوري في انتخابات 2024 الأمريكية؟ ماذا سيكون مصير اتفاق بكين بين الرياض وطهران؟ وماذا لو لم يتم إحياء الإتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1؟ وفي الجانب الآخر، ماذا لو قررت إيران الإنخراط في معركة “وحدة الساحات والميادين” في أي مواجهة مقبلة مع العدو الإسرائيلي؟ وماذا لو أصرت إيران علی تعريفها للأمن القومي الإقليمي الذي يمتد من أفغانستان شرقاً حتی البحر الأبيض المتوسط غرباً مروراً بمضيقي باب المندب وهرمز جنوباً؟
من الصعوبة التصور أن طهران سوف يسيل لعابها علی “كونتينر” يخرج من أراضيها وآخر يدخلها، مقابل تخليها عن مساهمة مشروعها في إعادة صياغة وتشكيل نظام أمني إقليمي يكون بديلاً للنظام الإقليمي الأمني الذي كان سائداً منذ الحرب العالمية الثانية حتى انتهاء الحرب الباردة مع إنهيار الإتحاد السوفياتي في العام 1991. كما من الصعوبة التصور أن السعودية تستطيع التخلي عن أصدقائها الغربيين وتحديداً الولايات المتحدة كرمى عيون الإيرانيين وسجادهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، مقابل صديق يلتزم بأمن المملكة، ولو أن هذا الأمر بات مشكوكاً به، لا سيما بعد إستهداف “آرامكو” في خريف العام 2019، من دون أن تصدر أي ردة فعل عن الجانب الأمريكي!
ما يجب أن نُركز عليه من موقعنا المهني هو المزيد من التعمق في حيثيات الإتفاق السعودي ـ الإيراني وكيف يمكن أن يخدم مصالح البلدين، الآنية والإستراتيجية، وأي آفاق مستقبلية للعلاقة السعودية الإيرانية، وكيف يمكن لإتفاقهما أن يُحدّد مسارات توازن القوی في المنطقة؟
إن أي علاقة لا تستند إلی ثوابت واضحة وراسخة لا يمكن لها أن تنجح؛ كما أن التصرف على أساس ردود الأفعال والخطوات المترددة سواء أكانت من هذا الجانب أو ذاك، لن يُحقق الاهداف التي تتطلع إليها دول وشعوب المنطقة؛ ولن يساعد في محاولة رسم صورة وخارطة طريق تحكم المصالح الثنائية والإقليمية لكلا البلدين.