تتقاطع رواية المؤرخين، وعلى رأسهم زكي وليدي طوقان،على أنّ الوطن الأم للأتراك يقع في المثلّث الواقع بين بحيرة أرال على الحدود الكازاخية ـ الأوزبكية، وجبال ألطاي جنوب سيبيريا حيث تلتقي روسيا والصين ومنغوليا وكازاخستنان معًا، وتانري في البقعة التي تحوي بحيرة بالقاش على الشرق من كازاخستان اليوم.
أمّا كلمة “تورك” (القوي)، فلها حكايتها، وبحسب المؤرّخ يلماز أوزطونا (سيكون كتابه “المدخل إلى التاريخ التركي” عمدة بحثنا هنا)، أنّ إحدى القبائل التي حكمت وهي الـ”كوك تورك” كانت السبب الذي أطلقت فيه هذه التسمية على جميع القبائل التي تشترك في اللغة زمن حكمهم، في حين كانت القبائل في العصور السابقة تُسمى بأسمائها.
يرفض أوزطونا انتساب المغول إلى القومية التركية، برغم كونهم ينحدرون كالأتراك من أقوام “الألطاي”، إضافة إلى “المانجوـ تونكوز”، ويستدل بذلك على عدم التشابه بين لغة الأتراك والمغول أصلًا، وأنّ التشابه الذي حدث لاحقًا هو بسبب اختلاط القومين وامتزاجهما في مناطق الشّمال الشّرقي من قارّة آسيا طيلة آلاف السنين، في حين أنّ قبائل مثل “الأوغوز” التي لم تختلط بالمغول إلّا قليلًا ربّما، لم يكتسبوا شيئًا من هذا الطابع الذي يتمثّل ببروز عظام الوجنة والعيون الغائرة.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن غالبية المصادر التاريخية الأولى للأتراك هي مصادر صينية، ولذلك يعتبر المؤرّخون الأتراك بأن الكثير من الأسماء التركية قد أصابها التحريف عند كتابتها باللغة الصينية، فمثلًا التسمية التركيّة للقوم التركي الذي يسميه الغربيّون “الهون” هو الكون، وبالتالي فإنّه من الصعب التأكد على وجه الدّقة من الأسماء الحقيقيّة، وقد بدأ المؤرّخون تجاوز هذه المعضلة في عهد الـ”كوك تورك” الذين أدرجوا تلك الأسماء في كتاباتهم بلغتها الأصلية.
تركيا قبل الإسلام
يبدأ التأريخ الموثّق للسّلالات التركيّة الحاكمة مع سلالة “الهون” التي يعتبرها الصينيون أجداد الـ”كوك تورك” الذين حكموا في القرن السادس ميلادي، ثاني أطول سلالة حكمت بعد العثمانيين، إذ أنها حكمت لمدّة 436 عامًا ابتداءً من تيومان عام 220 ق.م. إلى حين فقدها السلطة عام 216 ب.م.، وبذلك يُصبح “الهون” هم المؤسّسون للدولة التركيّة الكبرى. ويعتبر مته إبن تيومان صاحب التوسّع الأعظم لتلك الدولة، حيث استطاع أن يُوحّد جميع أقوام “الألطاي” تحت سلطة واحدة، وبات عهده فاتحة عصر جديد للأتراك في تاريخ العالم، حيث ظهرت أهميّتهم كعنصرٍ طليعي في ميزان القوى في العالم القديم، ولذلك جعل الأتراك من شخص مته إبن تيومان أسطورة مقدّسة، ولقّبوه باسم “أوغوز قاغان” ثم خلّدوه في أشهر ملاحمهم وأبرزها.
يرى المؤرّخ يلماز أوزطونا بأن الأتراك كانوا مشبعين بالشعور القومي، إضافة إلى أحقيّتهم في التحكم بالعالم والسيطرة عليه، وكالعديد من المجتمعات القديمة، فقد توسّموا القدرة والألوهيّة في زعمائهم ما جعلهم مطيعين لهم طاعةً عمياء، على الرّغم من وجود مجلس استشاري مكونٍ من النبلاء، إلّا أن الكلمة الفصل كانت لليابكو أو القاغان
ورث “السيانبيون” مقاليد الأمور في الدولة التركية عوضًا عن “الهون”، وقد حكمت هذه السلالة 178 عامًا توالى على حكمها 16 يابكو، أي إمبراطورًا، ثم تبعتها سلالة “الآوار” التي حكمت بدورها من عام 394 إلى عام 552، وبذلك العهد تبدّل لقب الإمبراطور من يابكو إلى قاغان، وقد اشترك الأتراك مع المغول في إدارة هذه الإمبراطوريّة، حيث ازداد نفوذ المغول حينها إلى حدٍ كبير، وخلال هذه الفترة تحديدًا، بدأ الأتراك بالسكن في تركستان الشرقية (مقاطعة سنجان الصينية)، حيث كانت الأقوام الإيرانية أكثر حضورًا، متجاوزين جبال تانري، لتتحوّل لاحقًا إلى منطقة تركيّة خالصة في عهد القراخانيين.
في العام 552، ولدت إمبراطوريّة الـ”كوك تورك” أكبر السلالات الحاكمة في الدولة التركيّة وأعظمها، والتي أعطت القوميّة التركية هذا الإسم، لتحمل كلّ القبائل التي تتشارك اللغة إسم هذه القبيلة. وقد استمرّ حكمهم زهاء 193 عامًا، بدأ على يدي الأخوين بومين وإيسته مي قاغان، الأوّل إمبراطورًا للشرق والثاني إمبراطورًا للغرب، متبعين التقاليد التي سلفت، وهي أن يكون قاغان الغرب تابعًا لقاغان الشرق (حدث العكس في بعض الأحيان). وقد استطاع الإثنان أن يُعيدا شأن الإمبراطوريّة التركيّة إلى العهد الذي كانت عليه أيّام مته، حيث بلغت أوج نفوذها وتوسّعها.
بدأ حكم “الأويغور” على أنقاض الـ”كوك تورك”، ويعتبر المؤرّخ التركي أوزطونا الخاقان أن “الأويغوري” الأول كان أميرًا من سلالة الـ”كوك تورك”، ولذلك فقد كان الموضوع تبدّل نظام حكمٍ أكثر من كونه تبدّل سلالةٍ حاكمة. وقد أرّخ الأدب التركي القديم قصّة وصول “الأيغور” إلى رأس الحكم من خلال ملحمة تاريخيّة حملت إسم الهجرة، والتي تعكس كذلك طبيعة الصراع الدائم والمستمر بين الاتراك والصينيين.
الدّين والثقافة والمجتمع قبل الإسلام
سيطرت روح القتال والفروسية والعسكر على المجتمعات التركية كافّة، فقد كان مجتمع “الهون”، على سبيل المثال، مجتمعًا عسكريًا أرستقراطيًا يعتقد بكونه وكيلًا لـ”الإله الأزرق” على الأرض، وقد شكل الفرسان غالبًا ثُلثي الجيوش التركية، الأمر الذي كان يمنحهم عاملي المباغتة والسرعة في شنّ هجماتهم ضدّ أعدائهم، خاصّة الصينيين.
هيمنت الشامانيّة (من الأديان البدائية التي سيطرت على منطقة شمال آسيا، وعمدة أفكاره تقوم على الإعتقاد بعالم الأرواح وعالم الآلهة والشياطين المحجوب) بشكل واسع ولزمن طويل على معتقدات أقوام “الألطاي” بصورة عامّة والتركيّة بصورة خاصّة، وبرغم تأثرهم بمعتقدات أخرى كالزرادشتية والمانوية، إلّا أنهم غالبًا ما كانوا يعودون لاعتناق الشّامانيّة.
يُعتبر الأتراك أقوامًا رُحّل أسّسوا مدنهم على شكل خيام يمكن نقلها بسهولة، معتمدين على تربية المواشي والإستفادة من مواردها. وبسبب كونهم رعاة وفرسانًا ومقاتلين، فقد كانت صناعة الحديد والأسلحة والجلود تحتلّ مكانة بارزة لارتباطها بالأمن القومي لتلك القبائل. أمّا الكماليات، فقد كان مصدرها الصين غالبًا إمّا عن طريق المقايضة أيام السلم، أو على شكل غنائم حربية أيام الحرب.
لقد امتاز المجتمع التركي بكونه أرستقراطيًا، تحتفظ العوائل العريقة فيه بالمراكز العسكريّة الحسّاسة، كما كانت المناصب تتوارث في كثيرٍ من الأحوال من الأب إلى الإبن، أمّا واقع المرأة، فقد شاركت الرّجل في الكثير من الأعمال، ولم تكن أسيرة الأسرة فقط. ويرى المؤرّخ يلماز أوزطونا بأن الأتراك كانوا مشبعين بالشعور القومي، إضافة إلى أحقيّتهم في التحكم بالعالم والسيطرة عليه، وكالعديد من المجتمعات القديمة، فقد توسّموا القدرة والألوهيّة في زعمائهم ما جعلهم مطيعين لهم طاعةً عمياء، على الرّغم من وجود مجلس استشاري مكونٍ من النبلاء، إلّا أن الكلمة الفصل كانت لليابكو أو القاغان.
وكونهم قومًا غزاة ورُحّل، لم يتوجّسوا من المسافات الجغرافيّة، وكانوا سريعي التأقلم والتكيّف مع الأقاليم التي يصلونها، كما أنّهم فرّقوا بين حاجتهم لفرض ضرائب على الأقوام الأخرى بالقوّة وجبايتها بانتظام، وقمع كلّ محاولة تمرّد أو عصيان من جهة، وبين تسامحهم الديني والثقافي، إذ كانوا يحترمون ديانة الأقوام الخاضعة لهم ولا يتدخلون في عاداتهم وطريقة معيشتهم وإدارة شؤونهم الداخلية من جهة أخرى.