كيسنجر في مئويته.. مُتعلم لا ينضب

«يعمل 15 ساعة يوميا، لا يسمع جيداً، أصاب العمى إحدى عينيه»، جاءت هذه الكلمات فى مقدمة لقاء أجراه المذيع الشهير، تيد كوبل، على شبكة "سى. بى. إس" قبل أيام مع هنرى كيسنجر بمناسبة وصوله، بعد أيام قليلة، لسن المائة.

فى مكتب هنرى كيسنجر، برزت صور له مع عدد من أشهر زعماء العالم من مختلف القارات، على مدار عقود طويلة، فهناك صوره مع الرئيس الصينى الراحل ماو تسى تونج، وأخرى مع باراك أوباما، ومع تشارل ديجول، وفلاديمير بوتين، وشى جين بينج، ومع الرئيس أنور السادات، وعشرات غيرهم.
ارتدى كيسنجر حذاء رياضيا مريحا مع بدلة داكنة اللون، وتحدث بعمق عن القضايا العالمية وإرثه الشخصى، وما يتعرض له من انتقادات قوية باعتباره مجرما بسبب دوره الهدام فى عدد من الدول، والذى نتج عنه مقتل مئات الآلاف من الأبرياء، وانهيار تجارب ديمقراطية مختلفة، على الرغم من حصوله على جائزة نوبل للسلام عام 1973 لدوره المحورى فى إنهاء حرب فيتنام.
يعود أول ظهور لكيسنجر على شاشة التلفزيون إلى عام 1958 عندما تحدث كأكاديمى عن نظرية الردع النووى المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدار 65 عاما، نجح كيسنجر فى الاحتفاظ ببريقه وأهمية آرائه فى العديد من القضايا المعاصرة التى وقعت على مدار العقود السبعة الأخيرة على الرغم من تغير العالم واندثار إمبراطوريات وتفكك دول، وظهور أخرى، وتكوين قوى عظمى جديدة، وتأسيس اتحادات وتحالفات دولية مختلفة، ناهينا عن الثورات التكنولوجية التى لا تتوقف، وما شهده العالم من حروب لا تتوقف.

***

بعد بضع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى ولد هنرى كسينجر فى 27 مايو/أيار 1923 لعائلة يهودية، اضطرت للهجرة للولايات المتحدة عام 1938 خوفا من بطش النظام النازى الحاكم فى ألمانيا آنذاك. وبسبب كون لغته الأم هى الألمانية، شارك كيسنجر فى الحرب العالمية الثانية فى سلاح الاستخبارات العسكرية الأمريكية. وبعد الحرب بدأ كيسنجر مساره الأكاديمى حتى ناقش أطروحة الدكتوراه فى مجال العلاقات الدولية بجامعة هارفارد المرموقة حيث بدأ بها لاحقا مساره الأكاديمى الغنى.

من المثير للدهشة والإعجاب أن كيسنجر تحدث بكل عُمق عن الذكاء الاصطناعى وما يمثله من فرص وما يفرضه من تحديات ومخاطر على البشرية. وكتب كيسنجر مع إريك شميت، مؤسس شركة جوجل، كتابا عن الذكاء الاصطناعى صدر عام 2021 بعنوان «الذكاء الصناعى ومستقبلنا البشرى» حيث حذر من خطورة الوقوع تحت رحمة مجموعة صغيرة من النخب التى تسيطر على التقنيات الأكثر تقدما،

اشتهر كيسنجر بدوره كوزير خارجية الولايات المتحدة فى عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد من عام 1973 إلى عام 1977، وقبل ذلك كمستشار للأمن القومى. وخلال تلك السنوات لعب كيسنجر دورا رئيسيا فى تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، لا سيما فيما يتعلق بالحرب الباردة وحرب فيتنام، والصراع العربى الإسرائيلى، وعلاقات واشنطن وبكين. ويُعرف كيسنجر أيضا بجهوده الدبلوماسية فى الشرق الأوسط، لا سيما فى التفاوض على فض الاشتباك بين القوات الإسرائيلية من جانب والقوات المصرية والسورية فى أعقاب حرب يوم الغفران فى أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 من جانب آخر.
بالإضافة إلى خدمته الحكومية، فإن كيسنجر مؤلف غزير الإنتاج وكتب العديد من الكتب حول السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. وهو معروف أيضا بآرائه المثيرة للجدل حول السياسة الواقعية، والتى تؤكد على أن المصالح أهم من القيم والأخلاق فى صنع القرار فى السياسة الخارجية.
كما ترك الدكتور كيسنجر إرثا مؤسسيا مهما تمثل فى تغيير طبيعة مجلس الأمن القومى الأمريكى، إضافة إلى إسهاماته الأكاديمية والفكرية الواسعة. ونشر موقع ويكيليكس «مراسلات كيسنجر» والتى تضم 1.7 مليون وثيقة، منها 205 آلاف و901 وثيقة كتبها كيسنجر عندما خدم من 1973 إلى 1976.

***

إرث هنرى كيسنجر هو موضوع نقاش وجدل واختلاف، حيث تمت الإشادة به لإنجازاته الدبلوماسية الواسعة من ناحية، ومن ناحية أخرى تعرض كيسنجر لانتقادات لدعمه للأنظمة العسكرية فى أمريكا اللاتينية ولدوره فى القصف السرى لكمبوديا خلال حرب فيتنام. كما اتُهم بالتواطؤ فى انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب فى بلدان مثل تشيلى، وتيمور الشرقية، وبنجلاديش، والأرجنتين.
وفى كتابه الشهير «النظام العالمى»، تحدث كيسنجر عن تاريخ العلاقات الدولية منذ صلح ويستفاليا 1648 والذى أسس الدول القومية فى أوروبا، وحتى ظهور تنظيم داعش فى منتصف عام 2014.
ركز الفصل الثالث على الدول الإسلامية. واختص كيسنجر مصر بعدد كبير من الصفحات قائلا إنه بعد انهيار الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، لم تعرف شعوب الشرق الأوسط فى قاموسها السياسى كلمة «الدولة»، إلا أن مصر كانت استثناء لما تتمتع به من تقاليد وحدود وهوية مميزة عرفت معها مفهوم الدولة منذ آلاف السنين. ثم عرض كيسنجر لكيف تحولت أفكار مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، لنموذج بديل للحكم، إلى أن تصبح رؤيته داعية لضرب العالم والتطرف فى فكر الإسلاميين على يد من جاءوا من بعده خاصة سيد قطب.
ويستشهد كيسنجر بكلمة ألقاها حسن البنا عام 1947 تحدث فيها عن انهيار النظام العالمى (الغربى) الأخلاقى رغم إنجازه العلمى والتكنولوجى. إلا أن كيسنجر يؤكد أن مفهوم الدولة يستمر فى الضعف فى مصر بسبب عدم قدرة النظم الحاكمة على رعاية الحريات والحقوق لشعبها فى صورة ديمقراطية حديثة، وعدم قدرتها على توفير حياة اقتصادية كريمة لهم فى الوقت نفسه.

إقرأ على موقع 180  فليذهب بايدن غير مأسوف عليه

***

لم يتوقف كيسنجر عن التعلم والاطلاع، وفى الوقت الذى لا يُعرف بمساهماته فى المجال التكنولوجى، كتب كيسنجر وتحدث على نطاق واسع حول تأثير التغير التكنولوجى على الشئون العالمية، بما فى ذلك العواقب المحتملة للتقدم فى الذكاء الاصطناعى وغيرها من التقنيات الناشئة. وعلى وجه الخصوص، حذر من احتمال أن تؤدى هذه التقنيات إلى اختلال توازن القوى العالمى وتفاقم التوترات الجيوسياسية القائمة.
ومن المثير للدهشة والإعجاب أن كيسنجر تحدث بكل عُمق عن الذكاء الاصطناعى وما يمثله من فرص وما يفرضه من تحديات ومخاطر على البشرية. وكتب كيسنجر مع إريك شميت، مؤسس شركة جوجل، كتابا عن الذكاء الاصطناعى صدر عام 2021 بعنوان «الذكاء الصناعى ومستقبلنا البشرى» حيث حذر من خطورة الوقوع تحت رحمة مجموعة صغيرة من النخب التى تسيطر على التقنيات الأكثر تقدما، مما يترك الآخرين فى وضع غير مواتٍ. كما أشار إلى أن ظهور أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل، التى يتيحها الذكاء الاصطناعى، يمكن أن يخلق تحديات ومخاطر أمنية جديدة على البشرية جمعاء.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أمريكا "تتدرب" في أوكرانيا.. وعينها على الصين!